تداول ناشطون وجامعيون خلال الأيام الماضية ما قيل إنها مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها رئيس الجمهورية التونسي الباجي قائد السبسي بمناسبة عيد المرأة في الصيف المنقضي بهدف إعداد تقرير عن الإصلاحات التشريعية المتعلقة بالحريات الفردية والمساواة وفقًا للدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وقد تضمنت المقترحات المتداولة إعلامياً إلغاء المهر في عقد الزواج، وإضافة لقب الأم للقب الأب أو حرية الاختيار بينهما، مع إقرار نظام اختياري للمساواة في الميراث.
تداول نشطاء أخبارًا عن توجه لإلغاء المهر، وإقرار حرية اختيار اللقب العائلي، مع إقرار نظام اختياري للمساواة في الميراث قريبًا في تونس وهو ما لا يعتبر دقيقًا، لكنه محل نقاش متواصل
وتبين أن هذه الأخبار المتداولة حسب رئيسة اللجنة الرئاسية بشرى بلحاج حميدة "غير دقيقة" وأن "المقترحات النهائية هي التي يعرضها ويتبناها رئيس الجمهورية صاحب المبادرة".
وعمومًا، من المنتظر أن تقدم اللجنة الرئاسية تقريرها النهائي بتاريخ 20 شباط/فبراير القادم وفق الأمر المحدث لها، في انتظار مدى تفاعل رئيس الجمهورية مع مخرجاتها وتبنيه لها من عدمه قبل تقديم مبادرة تشريعية للبرلمان الذي ستكون له الكلمة الحسم في كل الأحوال.
إلغاء المهر.. أي تأسيس؟
مما يتناقله ناشطون حول مقترحات اللجنة، يوجد إلغاء المهر في عقد الزواج فيما لا يزال السؤال إن كان ذلك سيتخذ شكلاً إجبارياً أم اختياريًا بين الزوجين، وسواء كان هذا الشكل أو ذاك، يعود طرح مسألة إلغاء المهر، في إطار الحديث عن المساواة بين الجنسين، من باب تمثل المهر كمقابل مالي مقابل الزواج بالمرأة، ولذلك يبدو أن اللجنة البرلمانية قد اقترحت إلغاءه. وحقيقة نجد هذا التأسيس للمهر خاصة عند الفقهاء من المالكية، حيث قيل إن "المهر بدل عن المنفعة المستوفاة بالدّخول أو البضع" كما ذهب عزالدين عبد السلام، وعليه يكون المهر، عند هذا الفريق، ثمنًا لللذّة الذي يدفعه الزّوج نظير تمكين الزّوجة له، وهو معنى يحمل تحقيرًا للمرأة وسلعنة لها ولا تقبله طبيعة الزواج.
ولعلّ هذا الأساس مردود نوعًا ما لأن الاستمتاع الجنسي هو مشترك بين الزّوجين ولو كان المهر المقابل للاستمتاع لكان واجبًا على الاثنين، فوجوب المهر على الزّوج دون الزّوجة معناه أن الأساس لا يتعلق بالاستمتاع الذي هو بالضرورة مشتركًا على النحو المذكور.
وهناك من يرى أن تأسيس المهر، كما ذهب أغلب أهل الفقه من القدامى والمحدثين، هو "لتطييب النفس" بعبارة ابن حزم الأندلسي، أو هو "جبر للخاطر وتأليف للقلوب" عند أبو وليد الباجي المالكي ولذلك يأتي الحديث على المهر كتكريم للزوجة وإشعار برغبة الزّوج في الزّواج بل ولعلّ الحكمة منه هو "إظهار خطورة عقد الزّواج ومكانته" كما اعتبر العلامة المعاصر وهبة الزحيلي. ويصعب أن يختلف تأسيس المشرّع التونسي للمهر عن المذكور، ولعلّ المشرّع المغربي قد أحسن تبيانه بالقول إن "الصداق هو ما يقدمه الزّوج لزوجته إشعارًا بالرّغبة في عقد الزّواج وإنشاء أسرة مستقرّة وتثبيت أسس المودّة والعشرة بين الزّوجين، وأساسه الشرعي هو قيمته الرمزية وليس قيمته المادية".
وعلى هذا النحو لا يثير شرط المهر في عقد الزواج أي إشكال فهو ليس مقابلًا للاستمتاع الجنسي بالمرأة، خاصة وقد جرى العرف على أن تكون قيمته رمزية جدًا في الأعراس في تونس على خلاف عديد البلدان العربية. ولو توجد تنقيحات حول مسألة المهر، يمكن أن تتمحور مبدئيًا في نقطتين أساسيتين:
أولها تعديل الفصل 4 من مجلة الأحوال الشخصية الذي اعتبر "تسمية المهر" من شروط "صحة الزواج" ويبدو أن المشرع أراد إنهاء التمييز بين المهر المسمى ومهر المثل فإذا به يزيد لدرجة جعل مجرد عدم التسمية قد تجعل العقد بتمامه باطلاً! وهذا مخالف لإجماع المذاهب الإسلامية ذلك أن المهر ليس ركنًا أو شرطًا للزواج وعدم تسميته لا تبطل العقد.
وثانيها تعديل الفصل 13 من نفس المجلة الذي نص على "عدم إمكانية إجبار الزوج زوجته على البناء ما لم يدفع المهر" والحال بقراءة عكسية يحمل في طياته شرعنة لاغتصاب الزوجة وهذا مرفوض.
اقرأ/ي أيضًا: تقنين الخطوبة في مصر..مشروع قانون لمواجهة الطلاق والعنوسة
هل يتم إقرار نظام اختياري للمساواة في الميراث؟
مثلت مسألة المساواة في الميراث الدافع الرئيسي لرئيس الجمهورية قائد السبسي لبعث لجنة خاصة حول الإصلاحات التشريعية من أجل المساواة بين الجنسين وتعزيز الحريات الفردية، وتتضمن المقترحات المسربة أو الأولية على الأقل اقتراح نظام اختياري للمساواة في الميراث، بما يعني عدم الإجبار على الخضوع للمساواة في مقابل النظام الحالي المستند على التشريع الإسلامي.
ورغم أن الحل الاختياري يظهر كحل وسط بجعل الحرية للأفراد إما من خلال اعتماد النظام الحالي أو النظام المقترح، وذلك دون إجبار على الخضوع لأحدهما، فهو يحمل في ثناياه تقسيمًا للمجتمع بين طائفتين، ستظهر الأولى متشبثة بالتشريع الإسلامي وستظهر الثانية مرتدة عنه، بغض النظر عن النقاش حول مدى اعتماد نظام المساواة ضمن دائرة الاجتهاد الإسلامي.
وفي هذا الجانب، اعتبر الباحث في الحضارة الإسلامية سامي براهم أن إقرار تخيير المواطنين قبل الزواج بين نظامين للإرث "سيساهم في مزيد من الاستقطاب والتقسيم الهوياتي للمجتمع" مطالبًا اللجنة الرئاسية أن تتمتع بـ"الشّجاعة الأخلاقيّة والذّكاء المعرفي التشريعي لطرح مبادرة تشريعيّة مستقلّة لمنظومة كاملة للمواريث مقابل المنظومة القائمة لا أن تكون عالة عليها".
وقد يحمل النظام التخييري عديد الصعوبات حول زمن الاختيار أولاً، والذي تداول على نحو غير رسمي أنه عند الزواج، وذلك على غرار النظام التخييري الحالي للاشتراك في الملكية بين الزوجين، ولكن مسألة الميراث تتعلق بين ورثة ومورثين، ليأتي السؤال مثلاً حول صورة رفض الوارث الابن مثلاً لخيار والده بعد وفاته في المساواة، وإذا ما يفترض هذا النظام رضاء المورث فقط أم يُضاف الورثة؟ عديد الإشكاليات الجوهرية والشكلية التي يطرحها النظام التخييري والذي لا تزال تفاصيله غير مكشوفة بعد.
اقرأ/ي أيضًا: موقف هادئ من المساواة في الميراث بين الجنسين
جدل صحي وسط تخوفات الاستقطاب الهوياتي
يعكس النقاش الأخير، وفق مراقبين، تحرر المجال العام في تونس بعد الثورة وعدم التحرج في طرح أي ملف بعيدًا عن منطق الاحتكار والمزايدة
في الواقع بقدر ما أثارت مبادرة قائد السبسي في الصيف الفارط للمساواة في الميراث بين الجنسين حالة صخب وتصارع خاصة خارج تونس، بقدر ما استقبلها جزء كبير من التونسيين، إضافة لأحزابهم وجمعياتهم، بهدوء فحركة النهضة الإسلامية المحافظة تبنت خطابًا قائمًا على عدم المواجهة والتشجيع على التحاور. لا تتعلق المسألة برفض أو قبول حول المضامين المطروحة، بقدر ما تتعلق أساسًا، وقبل كل شيء، بقبول مبدأ الحوار وعرض كل المسائل على مجهر الدستور الجديد في جدل صحي، وفق مراقبين، يعكس تحرر المجال العام في تونس بعد الثورة وعدم التحرج في طرح أي ملف بعيدًا عن منطق الاحتكار والمزايدة.
غير أن المواضيع كالتي من المنتظر طرحها من اللجنة الرئاسية لا تخفي في حقيقتها خطر عودة الاستقطاب الهوياتي وما يعنيه من انقسام مجتمعي ومنه توظيف إيديولوجي وسياسي. ولكن يعوّل التونسيون، في هذا الجانب، على وعي السلطة السياسية باتخاذ خطوات رصينة في القيام بأي إصلاحات بعيدًا عن الإسقاطات الفوقية مع لزوم الأخذ بعين الاعتبار لأهمية الاستقرار المجتمعي والقانوني.
في هذا الجانب، تضم اللجنة الرئاسية تسع شخصيات غالبيتها من المحسوبين على التيار الحداثي حيث تترأسها البرلمانية والحقوقية النسوية بشرى بلحاج حميدة، وذلك مع ضعف حضور التيار المحافظ الذي يظهر مع الكاتب الصحفي والقيادي السابق في الاتجاه الإسلامي صلاح الدين الجورشي. غير أن الخشية من وجود لون إيديولوجي وسياسي واحد وما يعنيه من فرض وجهة نظر واحدة، تسعى اللجنة لتبديده من خلال قيامها باستشارات مع مختلف الأحزاب ومكونات المجتمع المدني والباحثين المختصين من مختلف التيارات وذلك بالإضافة لعلماء من جامعة الزيتونة.
ومن المنتظر أن تقدم هذه اللجنة تقريرًا لرئيس الجمهورية الذي من المفترض بدوره أن يقدم مبادرة تشريعية سيتم عرضها على البرلمان، الذي يضم تيارات إديولوجية وسياسية مختلفة، وذلك قبل الحسم في الإصلاحات المتفق عليها والمصادقة. ومن المفترض أن يساهم المجتمع المدني وربما الشارع في الضغط نحو هذا الاتجاه أو ذاك على النحو الذي أصبحت تعيشه الساحة التونسية بعد الثورة.
وعمومًا من المنتظر أن تساهم جميع هذه المراحل في الحيلولة دون فرض إصلاحات فوقية أو متعارضة مع النصوص الدينية القطعية، وأن تكفل الحفاظ على الاستقرار المجتمعي مع تحقيق المساواة المطلوبة بين الجنسين في نفس الآن. ويظل الرهان أن يحافظ النقاش على هدوئه خلال الأشهر القادمة بعيدًا عن الإقصاء والاستقطابات السياسية والانتخابية والتكفير. يذكر أن الفصل 6 من الدستور التونسي يلزم الدولة بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها.
اقرأ/ي أيضًا: