في الوقت الذي تهدأ فيه حركة الطرقات وتتعالى فيه الضحكات والصرخات وراء أبواب موصدة إنذارًا باقتراب موعد الإفطار، تعيش بعض الأسر التونسيّة فقدًا محتومًا حينما يوجد مقعد شاغر على مائدة العشاء لأب أو أم أو ابن أو ابنة اضطرّتهم ظروف العمل للتواجد بعيدًا عن الأجواء الرمضانيّة وسط العائلة. هم أناس غالبًا ما تراهم قبيل الإفطار بسويعات حاملين ما حضر من الأكل، يلبّون نداء الواجب وأرواحهم ترنوا إلى مسامرة الأهل والأصدقاء خاصّة وأنّ لرمضان سحر لا يمكن استحضاره في سائر الأيام.
فكيف يعيش أصحاب هذه المهن شهر رمضان المعظّم؟ أجواء رصدها "ألترا تونس" في هذا التقرير.
في الاستعجالي.. إفطار على عجلة
ما إن تدخل قسم الاستعجالي بمستشفى "شارل نيكول" بالعاصمة حتى تعترضك حالة الفوضى وأصوات أنّات المرضى. مكان تغلب عليه حالات التوتّر سواء من الوافدين أو من الإطار الطبّي و الشبه الطبّي وخاصّة في شهر الصيام حين يتصاعد نسق العمل خاصّة بعد موعد الإفطار مباشرة حسب ما حدّثنا به محمّد المناعي ممرّض رئيس بالاستعجالي.
منذ أربع سنوات، يباشر محمّد عمله قبيل الآذان بساعة ليواصل عمله إلى السابعة صباحًا، 12 ساعة من العمل المتواصل يسترق منها بضع الدقائق هو وأصدقاؤه للاجتماع حول طاولة الإفطار.
محمد (ممرض باستعجالي مستشفى "شارل نيكول"): لا نجد وقتًا لارتياد المقاهي أو لمتابعة الأعمال التلفزيّة وحتّى يوم الإجازة نقضّيه في النوم
يصف محمّد الأجواء لـ"ألترا تونس" قائلًا: "عادة ما يحضر كلّ واحد فينا وجبته. ننقسم لمجموعات ونتداول على العمل خاصّة إذا كان هناك حوادث طرقات. ولا نجد وقتًا لارتياد المقاهي أو لمتابعة الأعمال التلفزيّة الرمضانيّة وحتّى يوم الإجازة نقضّيه غالبًا في النوم لنجد طاقة لمباشرة العمل في اليوم الموالي". ويؤّكّد محمّد أنه من الصعب ترك المنزل والذهاب للعمل وقت الإفطار لكنّ نداء الواجب يفرض عليه تقديم الخدمات الصحيّة للمواطنين خاصّة في ذلك الوقت.
إفطار جماعي في مستشفى "شارل نيكول" بالعاصمة
اقرأ/ي أيضًا: رمضان.. شهر تحدّ للمغتربين وتعايش للأجانب في تونس
ويضيف محدّثنا أنّ أغلب الحالات التي يعجّ بها القسم هي للمسنّين الذين يجهدهم الصوم ومرضى السكري وضغط الدم بالإضافة إلى ضحايا الحوادث، مؤكدًا أنّ الضغط يزداد خاصّة وأنّ المرضى وأهاليهم يكونون في حالة هلع أو فزع وهذا ما يزيد حدّة التواصل مع الإطار العامل على حدّ قوله.
ويقول الممرّض الشابّ: "نحن من المرابطين إذ يتطلّب عملنا التواجد 24/24 ساعة طيلة أيام الأسبوع، كما أنّ مهنة التمريض وخاصّة بالاستعجالي صعبة جّدًا وكثيرًا ما نتعرّض لعنف ماديّ أو معنويّ، ولكّنّنا غالبًا ما نتفهّم الحالة النفسيّة للمريض أو أقربائه لذلك نحاول تهدئة الوضع" معقبًا بالقول "وإن شاء الله ربي يهدينا على بعضنا".
ويؤكّد في ختام حديثه أنّه يحبّ عمله لكنّ الوضع داخل المستشفيات مزر جدًا والإمكانيات محدودة ممّا يجعل ظروف العمل غير ملائمة البتّة على حدّ قوله.
تقديم الطعام للصائمين.. فرحة لا توصف
داخل إحدى المطاعم بالمنزه السابع، يهيّء الشاف حمزة البلايلي وزملاؤه في العمل المكان استعدادًا لاستقبال زبائن المطعم الذين اختاروا تناول وجبة الإفطار خارج المنزل. في هذا المكان الذي يعمل فيه منذ ثلاث سنوات، يفتقد حمزة الأجواء العائليّة بسبب مواعيد عمله التي تلزمه التواجد في المطعم على امتداد شهر رمضان.
حمزة (طباخ): نضطر في أغلب الأحيان لأكل بضع التمرات وجرعات من الماء قبل أن نستأنف عملنا بتقديم طعام الإفطار لزبائن المطعم
ويروي الشاف تفاصيل يومه الرمضانيّ قائلًا: "يتطلب عملي التوفر في المطعم من الرابعة مساءً حتى الثالثة صباحًا. في الساعات الأولى، نقوم بالتنظيف وتهيئة المكان وإعداد الوجبات ثم قبيل موعد أذان المغرب نبدأ في استقبال زبائننا، ونضطر في أغلب الأحيان لأكل بضع التمرات وجرعات من الماء ونستأنف عملنا".
وأفاد حمزة أنّ أجواء المطعم تختلف عن أجواء المنزل وأنّه يفتقد كثيرًا دلال والدته وتلبية شهواته، ويؤكّد أنّ طبيعة عمله تمنعه من السهر والذهاب الى المقاهي ما عدا في إجازته الأسبوعيّة ومع ذلك فإنّ تقديم الطعام للصائمين يشعره بالسعادة على حدّ قوله.
لا طعم لرمضان بعيدًا عن العائلة
لوقع صوت الأذان والابتهالات عبر الأثير سحر لا ينقطع عبر الزمان، لذلك يمضي عديد الأشخاص لحظات الإفطار حول صوت المذياع. وخلف ما ينبعث من أصوات، أناس يرابطون بمقرّات الإذاعات وتأتي بذلك مهنة الصحافة ضمن المهن التي يضطرّ أصحابها ملازمة مكان العمل وقت الإفطار.
الصحفيّة إيمان الطيّب وزميلتها مخرجة الصوت عزّة التواتي من العاملين بإذاعة "إي أف أم" تطوّعتا مع زميلة ثالثة للعمل في هذا المساحة من الزمن التي غالبًا ما تكون محلّ جدل بين الزملاء خاصّة أولئك الذين لهم التزامات عائليّة تستوجب ملازمة البيت في هذه الأوقات.
إيمان بالطيب (صحفية): مهنتي تتطلّب التوفر في مقر العمل وقت الإفطار تحسّبًا لأيّ خبر عاجل أو حادث طارئ في البلاد
اقرأ/ي أيضًا: من بيع "الملسوقة" إلى "الطابونة".. تونسيات كادحات "يراودن" لقمة العيش في رمضان
تتحدث إيمان الطيّب عن تجربتها لـ"ألترا تونس" مبينة أنّها تعمل من الساعة الخامسة مساءً حتى الحادية عشرة ليلًا. وتفسّر بالطيّب طبيعة عملها قائلة: "مهنتي تتطلّب التواجد على عين المكان تحسّبًا لأيّ خبر عاجل أو حادث طارئ في البلاد. ففي أيّ لحظة ممكن أن تحدث كارثة أو حادث مروريّ قد يتسبّب في إغلاق طرق معيّنة لذلك عليّ ان أكون في أهبة الاستعداد لإيصال المعلومة للمستمعين".
إفطار جماعي في مكان العمل
من جهتها، تتولى مخرجة الصوت عزّة التواتي تأمين البث الخارجي والبرامج مباشرة كانت أو مسجّلة، وهو ما يستوجب تواجدها في مكان العمل تجنّبًا لانقطاع البث في حال عطب أو خلل فنيّ على حدّ قولها. وتؤكّد محدّثتنا أنّها مطالبة ببثّ الابتهالات والأذان والمقطوعات الموسيقيّة وأنّ مركز عملها حسّاس جدّا لا يمكن التخلّي عنه.
"لمّة الدار ما فمّاش كيفها" هكذا عبّرت إيمان عن حسرتها لتواجدها بعيدًا عن الأهل، وأردفت قائلة إنّ الإفطار في الإذاعة له خصوصيّاته حيث يوطّد العلاقات بين الزملاء ويعلّم المشاركة والتعاون. وتشاركها صديقتها عزّة الرأي حيث تقول إنّهن يحاولن خلق أجواء رمضانيّة تنسيهم فقد عائلاتهم ومع ذلك فإنّ الاتّصالات الهاتفّيّة المتكرّرة للأهل تؤنس وحدتهنّ على حدّ قولها.
وعن الأكل، تؤكّد الفتاتان أنّ المؤسّسة توفّر لهم كلّ ما يلزمهم من التمر حتّى حلويّات السهرة وتختمان القول بأنّهما تستغلاّن أيّام العطلة الأسبوعيّة لملاقاة الأقارب والأصدقاء والاستمتاع بالأجواء الرمضانيّة.
طبيعة عملي تحرمني الأجواء الروحانيّة لرمضان
تطول قائمة المهن التي يعيش أصحابها ظروفًا استثنائيّة في رمضان ومن ذلك الشركات التي تتعامل مع دول أجنبيّة على غرار مركز النّداء "Call center" الذي عمل فيه الشاب احمد فاكر على امتداد خمس سنوات، وقد أمضى أغلب أشهر رمضان ملازمًا لمكان عمله في مواعيد الإفطار.
أحمد (موظف في مركز نداء): كلّ مجموعة مطالبة بإنهاء إفطارها في نصف ساعة وهو وقت غير كاف خاصّة للذين يمضون جزءًا منها في صلاة المغرب
ويتحدّث أحمد لـ"ألترا تونس" عن هذه التجربة قائلًا: "في مركز النداء الذي أعمل به نتعامل مع كندا، وحسب فارق الساعات بيننا، يتقابل موعد آذان المغرب عندنا مع وقت القيلولة عندهم لذلك يستوجب الأمر توفر فريق العمل في ذلك الوقت".
وعن أجواء الإفطار، يقول إنّ الأجواء الرمضانيّة غائبة تقريبًا في مكان العمل حيث يقع تقسيمهم لأربع مجموعات ويقع التداول على مراكز العمل إذ أنّ كلّ مجموعة مطالبة بإنهاء إفطارها في مدة نصف ساعة التي يعتبرها أحمد غير كافية خاصّة لأولئك الذين يمضون جزءًا منها في صلاة المغرب. ويؤكّد محدّثنا أن رمضان فرصة لاستشعار الأجواء الروحانيّة وخاصّة الاختلاء مع النفس والصوم عن الكلام ولكنّ طبيعة عمله تفرض عليه الحديث بصفة دوريّة ممّا يستنزف الكثير من طاقته على حدّ تعبيره.
ويختم أحمد حديثنه معنا متحسرًا بالقول: "حُرمت كثيرًا من عائلتي على اعتبار أنني أمضي أغلب وقتي في العمل واضطرّ أحيانًا للبقاء حتّى وقت السحور، ورغم وجود الأصدقاء إلّا أنّ اجتماع العائلة لا يعوّض".
اقرأ/ي أيضًا: