بدت مرام ابنة السنوات الأربع غريبة الأطوار لأول وهلة، هادئة وصامتة لكنها تصغي بانتباه لكل ما يدور حولها من حوار. كانت هي محور الحوار، توعدت بمعاقبة من يضايقها، شيئًا فشيئًا اقتربت مني وجلست على ركبتي وألقت جسدها الصغير وكأنها تعرفني منذ زمن طويل، وما إن هممت بالمغادرة حتى لحقت بي إلى الباب ومدّت يدها فهمت من قسماتها أنها تطلب اصطحابها دون أن ينطق فاهها ببنت شفة.
هي واحدة من عدد غير محدّد بدقّة من أطفال تونسيين يعانون التوحد رغم أن التقديرات تشير إلى إصابة حوالي 6000 طفل تونسي بمرض أثقل كاهل الأسر في ظلّ غياب مراكز عمومية مختصّة غالبًا.
تعرّف منظمة الصحة العالمية اضطرابات طيف التوحد على أنها عن مجموعة من الاضطرابات المعقدة في نمو الدماغ. ويقول الإخصائي النفسي ورئيس الجمعية التونسية لصعوبات واضطرابات التعلم محمد السندي لـ"ألترا تونس" عن التوحد إنه "اضطراب نمائي ذهني يمسّ الجهاز العصبي ويؤثر في نمو الطفل"، مشيرًا إلى أن له مظاهر ثلاثة عبر جانب اجتماعي، عبر الإنطواء إضافة لصعوبات لغوية وحركات متكررة ليس لها معنى، وتؤثر هذه الحالة على تواصل الطفل مع محيطه.
محمد السندي (إخصائي نفسي): التوحد ليس بمرض يمكن للمصاب به أن يشفى منه وهو "الوهم" الذي يسوّقه البعض لأسرة المصاب فتزيد حيرتها وإحباطها بانعدام النتائج وتوثر سلبًا على حالة الطفل
اقرأ/ي أيضًا: من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟
ويضيف السندي أن التوحد ليس بمرض يمكن للمصاب به أن يشفى منه، وهو "الوهم" الذي يسوّقه البعض لأسرة المصاب فتزيد حيرتها وإحباطها بانعدام النتائج وتؤثر سلبًا على حالة الطفل، وفق تأكيده. ويقول إنه لا بدّ للأسرة أن تفهم هذا الاضطراب وتعمل على إكساب المصاب المهارات الحياتية التي تمكنه من التعايش مع حالته وتثمين ملكته.
وجاء الاحتفال باليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد لسنة 2019 بعنوان "التقنيات المساعدة والمشاركة الفعالة"، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في هذه المناسبة إلى تعزيز المشاركة الكاملة لجميع الأشخاص المصابين بالتوحد "بأن نضمن لهم الحصول على الأدوات اللازمة للتمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية".
غياب الوعي بالتوحد
تواجه أسرة المصاب إشكاليات عديدة في سبيل تأهيل وإدماج الطفل، فلا يوجد إستراتيجية واضحة للدولة مبنية عن مسح شامل لواقع هذا الاضطراب خلافًا لما أعلنه وزير الشؤون الاجتماعية في جلسة استماع له بالبرلمان في 2016، بأن الوزارة ستعد سنة 2017 مسحًا للتعرف على واقع طيف التوحد في تونس، وبأنها بناءً على التشخيص ستعدّ استراتيجية في هذا المجال.
اقرأ/ي أيضًا: بحثًا عن لعب لابنه: تونسي يخترع ألعابًا تساعد أطفال التوحد
في السياق ذاته، وتحديدًا في شهر فيفري/شباط 2019، أقرّ وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي في معرض ردّه على سؤال بخصوص الإحاطة بأطفال التوحد خلال الجلسة العامة الختامية لبرلمان الطفل في مجلس النواب، بنقص في الاعتناء بهذه الفئة من قبل الدولة بسبب النقطة الخلافية حول ما إذا كان التوحد مرضًا مزمنًا أم إعاقة، رغم أن الوزارة اختارت شعار "أنا لست مريضًا... أنا مختلف" عنوانًا لنشرية خاصة أصدرتها تزامنًا مع إحياء اليوم العالمي للتوعية بالتوحد الذي يصادف يوم 2 أفريل /نيسان من كل عام.
وفي حالات كثيرة لا تكتشف الأسرة إصابة أبنائهم بصفة مبكرة. وإن ما تتشابه غالبًا أعراضه، تختلف درجات التوحد، إذ ميّز الأخصائي النفسي محمد السندي في حديثه لـ"ألترا تونس" بين درجات خفيفة قادرة على الاندماج مع الأطفال الطبيعيين، وحالات متوسطة قادرة على التحسن ودرجات عميقة تستوجب العمل على تعليم المصابين بها المهارات الحياتية. وينقل محدثنا هواجس أمهات المصابين وتخوفهنّ من مستقبل أبنائهنّ من حيث قدرتهنّ على الاعتناء بهم في المستقبل.
تعاني أمهات لمرضى التوحد التقاهم"ألترا تونس" من الإجهاد البدني والضغط النفسي أدى الى تفكك الأسرة في حالات كثيرة
وبسبب نقص الوعي بهذا الاضطراب، تعاني أمهات التقاهم "ألترا تونس" من الإجهاد البدني والضغط النفسي أدى الى تفكك الأسرة في حالات كثيرة، وأدخلت الطفل والأم في حالة عزلة عن محيطها الأسري والاجتماعي هو أشبه بسجن.
في هذا السياق، قال كاتب عام جمعية "خطوة خطوة" نبيل براهمي وولي أحد المصابين إن التوحد :"سرطان نفسي يجعل المجتمع يرفض الطفل وأسرته وكأنه مرض معدي". كما اشتكى من نقص الإحاطة والإمكانيات خاصة أمام ارتفاع تكلفة المراكز الخاصة ومحدودية انتشارها.
تقضي مرام نصف الشهر في منزلها بإحدى ولايات الشمال الغربي والنصف الآخر في العاصمة تونس حيث تخضع لحصص علاج وتقويم نطق، وتضطر والدتها ليلى إلى العمل خلال هذه الفترة معينة منزلية لتوفير ثمن العلاج لابنتها.
اكتشفت الأم إصابة ابنتها قبل عام عندما كانت تبلغ 3 سنوات إذ كانت تعاني الصغيرة مشاكل في النطق والإدراك. وتؤكد مربيتها أنها لا تستجيب لأبسط الطلبات ولا يمكن لها التمييز بين ما يطلب منها، بوجود الأطفال العاديين معها هنا لاحظت أنها أصبحت تستجيب لبعض الطلبات كرفع قدمها للبس حذائها، تتناول قارورة الماء، تتفاعل مع الأطفال أحيانًا وتلعب معهم، لكنها بمجرد العودة للمنزل لأيام تنسى ما كانت عليه.
نبيل براهمي (كاتب عام جمعية "خطوة خطوة"): التوحد هو سرطان نفسي يجعل المجتمع يرفض الطفل وأسرته وكأنه مرض معدي
وليس أمام مصاب التوحد الا خيارات ثلاثة: مركز خاص تتراوح تكلفته بين 800 و1000 دينار شهريًا يعتمد على مختصين في تقويم النطق وطب النفس وغيرها، وبين مراكز متوسطة الخدمات ينحصر تكلفة التأهيل فيها بين 300 و400 دينار شهريًا أو مراكز القاصرين ذهنيا وتعدّ بـ 90 مركزًا، ولهذه الأخيرة آثار سلبية، تأتي على المتوحد بنتيجة عكسية بالنظر إلى خصوصية إصابته وأيضًا بالنظر إلى الحالات التي ترتاد هذه المراكز.
ويرجع السندي سبب ارتفاع تكلفة المراكز المختصّة بما يستوجبه التأهيل من اختصاصات دقيقة تتمثل في مختصين في النطق والعلاج النفسي والحركي ومدرسين مختصين. وحذّر الإخصائي النفسي من خطورة المراكز التي لا تعتمد على مختصّين أو عدد كاف منهم، مؤكدًا أن غياب أهل الاختصاص يؤدي إلى انتكاس حالة المتوحد.
مركز عمومي ولكن...
اُفتتح أول مركز عمومي لأطفال التوحد وهو "المركب الاجتماعي والتربوي لأطفال التوحد بسيدي حسين" في شهر ديسمبر/كانون الأول 2018، وهو مؤسسة عمومية ذات صبغة إدارية تخضع لإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية. ويندرج إحداث المركز في إطار التوجه للرعاية والعناية بهذه الفئة ويساعد أولياء الأطفال المصابين من محدودي الدخل على توفير الرعاية اللازمة لأبنائهم"، حسب ما جاء في نشرية أصدرتها الوزارة يوم 2 أفريل/ نيسان بمناسبة اليوم العالمي للتوعية بالتوحد.
المركب الاجتماعي والتربوي لأطفال التوحد بسيدي حسين هو أول مركز عمومي لأطفال التوحد
اقرأ/ي أيضًا: حينما ننتصر إرادة التحدي.. قصة شاب يعاني "الديسلكسيا" يجتاز الباكالوريا بنجاح
وحدّدت طاقة الاستيعاب الأولية للمركب بـ 40 طفلًا ويبلغ عدد الإطار العامل 34 إطارًا وعونًا. وتتمثل مهامه في تربية وتأهيل الأطفال المصابين بطيف التوحد وإدماجهم عبر تأمين الرعاية الأساسية لفائدتهم، وتوفير الخدمات التربوية والتأهيلية والأنشطة التكوينية الملائمة والسهر على الإدماج الاجتماعي والمدرسي والإحاطة بالعائلات وتوجيهها وتشريكها في المسار.
وكانت الوزارة فتحت باب التسجيل في المركب يوم 2 جانفي/ كانون الثاني إلى غاية 25 من نفس الشهر، في إطار الاستعدادات لدخول المركّب حيّز العمل في مطلع 2019 وفق بلاغ لها. ولم يمنع تعذر الاتصال بالهاتف الأرضي للمركب لتحديد موعد للزيارة، من البحث الميداني عن المؤسسة التي تقع في مكان قصيّ من مدينة عمر المختار يطلّ على حقول وعلى سبخة السيجومي.
يوحي خبر الافتتاح، المركب المجهّز، والطاولات والألعاب في الفيديو الذي نشرته صفحة رئاسة الحكومة بجاهزية المركب لاستقبال رواده من أطفال التوحد في أول مركز عمومي لتأهيلهم وتسهيل إدماجهم، إلا أن المركب لم يفتح أبوابه وخلت قاعاته من الأطفال.
لم يفتح المركب الاجتماعي والتربوي لأطفال التوحد بسيدي حسين أبوابه لاستقبال مرضى التوحد إلى حد الآن
حتى أنّ محاولة الاستفسار عن سبب تأخر الافتتاح الفعلي وموعد انطلاق نشاط المركب من مديرته لم يؤدّ لغير اعتذار من هذه الأخيرة لأسباب ترتيبية تقتضي تفويضًا من وزارة الإشراف وفق قولها.
من جهته، وصف الأخصائي النفسي محمد السندي توجه الدولة لإنشاء مراكز خاصة للتوحد بالخطوة الإيجابية إذا كان الهدف منها تأهيل المصاب وإكسابه المهارات الضرورية لإدماجه في المؤسسات العادية.
يمثل تزايد أعداد المصابين بالتوحد دافعًا لوضع إستراتيجية وطنية لتشخيص الحالة والتوعية بها من أجل التقصي المبكر وتوعية الأولياء
وقبل عام، طفت المراكز الخاصة بالتوحد على السطح بعد تداول مقطع لتعنيف أحد النزلاء في المركز، وشغل الرأي العام والبرلمان والمؤسسات ذات الصلة، قبل أن يعود المصابون وأولياءهم إلى عزلتهم.
ومع أهمية تمكين مصاب التوحد من مختصين، يمثل تزايد أعداد المصابين بهذا الاضطراب دافعًا لوضع إستراتيجية وطنية لتشخيص الحالة والتوعية بها من أجل التقصي المبكر، وتوعية الأولياء وتكوينهم من أجل تمكين أبنائهم المصابين من مهارات الحياة الضرورية وتسهيل تأهيلهم في الحياة العامة بشكل طبيعي. بل يشمل هكذا تأهيل البحث عن مكامن التميز لدى طفل التوحد خاصة وأن عشرات العباقرة عبر التاريخ ممن عرفوا هذا المرض.
اقرأ/ي أيضًا: