ليس من السهل أن يتمرّد الفرد على النواميس والقوانين ويعلن الحرب على المجتمع وحيدًا بلا عائلة أو رفاق يتقاسمون معه ضريبة المضي في درب الحرية. ليس بالأمر الهين أن تمشي حافيًا في طريق تغزوها الأشواك، فتنزف وتتألّم ولكنكّ لا تتراجع وتتلقّف الضربات التي تنهال عليك من كل صوب بصدر عار إلا من التحدي والقناعة.
ليس من السهل أن تكون أنت في مجتمع يحصي أنفاسك وخطواتك وكلماتك وحتّى همساتك وينصّب نفسه وصيًا على قراراتك وخياراتك وحتّى حماقاتك. وليس بإمكانك أن تهدم ثوابت رسّختها عقليات تنبذ الاختلاف والتغيير دون أن تدفع ثمنًا بل أثمانًا باهضة، وإذا دنت بدين الاختلاف سيكون النبذ والوصم والتضييق والحصار الأمني جزاءك، تمامًا كما حدث مع الناشطة النسوية رجاء الشامخ.
ليس من السهل أن يتمرّد الفرد على النواميس ويعلن الحرب على المجتمع وحيدًا بلا عائلة أو رفاق يتقاسمون معه ضريبة المضي في درب الحرية
رجاء الشامخ هذه المرأة المناضلة التي كثيرًا ما يتردّد اسمها في دوائر النسوية في تونس، خبرت التمرّد منذ مراهقتها وعرفتها ساحات النضال منذ أن وطأت قدمها الجامعة، هي السياسية والنقابية والنسوية والأممية المدافعة عن حقوق الإنسان حيثما كان.
هي امرأة خطرة في نظر المجتمع والدولة البوليسية قبل الثورة، هي تلك الفتاة العشرينية التي ناضلت في صفوف الاتحاد العام لطلبة تونس وكانت غطاءً وسترًا لرفاق السريّة، هذا ما تسمعه عن رجاء الشامخ، أحاديث من هنا وهناك تغريك بلقائها ولا يرضخ القدر لرغبتك إلى أن كان حفل توقيع كتاب "يوم جاؤوا لاعتقالي عن السرية والمنافي وسجن المرناقية" للكاتب التونسي هادي يحمد.
اقرأ/ي أيضًا: مؤتمر تونس للمساواة والحريات: دعوة للابتعاد عن "حائط المبكى"
والكتاب الذي أنجز في إطار مشروع الدفاع عن الحريات الفردية والمساواة والذي أعدّته بتونس كل من الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والجمعية التونسية للحريات الفردية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بدعم من مؤسسة "هنريش بول"، تضمن شهادات لأفراد تجرعوا العلقم من أجل ممارسة قناعاتهم والبحث عن ذواتهم بعيدًا عن السائد والنمطي، من بينها شهادة رجاء الشامخ المرأة التي هدمت واجهة معبد السلطوية والذكورية.
هي امرأة ترتسم الابتسامة في عينيها قبل شفتيها، تنثر الحب والأمل حيثما حلّت، يسأل عنها القادمون إلى حفل توقيع كتاب "يوم جاؤوا لاعتقالي"، ويتردّد سؤال "أين رجاء؟" لتطلّ وسط الحاضرين بإطلالتها البسيطة والمتوهجة في ذات الآن.
هي مناضلة قادمة من زمن قل فيه المناضلات والمناضلون، زمن كان فيه النضال طريقًا لبوابات السجون والمنافي وعنوانًا للملاحقات الأمنية والهرسلة، هي التي شاركت في النضال الطلابي والنضال الحزبي وتحملت السجن في أقبية الداخلية ولم تكشف عن مكان رفاق السرية، كما ورد في شهادتها في الكتاب.
رجاء الشامخ هي أم عزباء قدمت شهادة عن تجربتها في الدفاع عن الحريات الفردية في كتاب "يوم جاؤوا لاعتقالي" للكاتب هادي يحمد
رجاء الشامخ وتجربتها مع الحريات الفردية لا يمكن أن تكون مجرّد شهادة عابرة تمرّ على أسماعنا بلا ظل، بل هي شهادة تمسح عنا غبار التسليم بالواقع وتثير فينا الرغبة في التمرّد والثورة على النظم التي تمسح عن الإنسان إنسانيته.
تجربتها، في مقاومة تشيئة الفرد وتنميط الأفكار والأراء وتفريخ مواطنين متشابهين خانعين خاضعين للسلطة التي تختلف تجلياتها وتتشابه أساليبها القمعية، انطلقت في رحاب الجامعة لتتطور إلى نشاط حزبي عقبه قرار جريء بأن تصبح أمًا خارج مؤسسة الزواج لتنطلق بعده في النشاط النسوي صلب الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.
"هنا على صدوركم باقون كالجدار .. نجوع، نتعرى، نتحدى.. ننشد الأشعار.. ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات ونملأ السجون كبرياء" كلمات لشاعر المقاومة توفيق زياد لعلّها تلخّص مسيرة رجاء الشامخ التي ظلّت صامدة في وجه نظام قمعي كجدار لا يتزعزع، هي امرأة جاعت ذات ولادة وكانت عارية من سند العائلة والرفاق لأنها سلكت طريقًا غير التي رُسمت لها، ولكنّها تحدّت وأنشدت أشعار الحريات الفردية، ألف إسفلت الشوارع خطواتها في المظاهرات ومازال صدى كبريائها يتردّد في زنزانات الداخلية.
قبل نحو عشرين سنة من اليوم، في مجتمع أشد تعصّبًا وواقع أكثر تضييقًا، كانت رجاء الشامخ أمًا عزباء عن قناعة، لم تكن تؤمن بمؤسسة الزواج لكنّها حاربت الكل من أجل حقّها في أن تكون أمًا خارج إطار الزواج الذي كان خيارًا متاحًا لها ولكنّها غضّت عنه الطرف لأنه نتاج للمجتمعات الأبوية السلطوية، وفق ما جاء في شهادتها في كتاب "يوم جاؤوا لاعتقالي".
لم تكن تؤمن رجاء شامخ بمؤسسة الزواج وقد حاربت الكل من أجل حقّها في أن تكون أمًا خارج إطار الزواج
أي جرأة وأي شجاعة تلك التي تحلّت بها لتخلق لنفسها دائرة من الضوء لها ولابنها في واقع تغزوه القتامة والعتمة إذا ما تعلّق الأمر بتقويض إحدى الثوابت المجتمعية، والمرأة التي نتحدّث عنها أعلنت كفرها بمؤسسة الزواج على الملأ.
هي وحدها تعلم معنى أن يتنكّر لك رفاق الأمس وينكرون حقّك في أن تكون مختلفًا عن الآخر، حقّك في أن تكون نفسك دون وصايا ومسلمات، حقّك في أن تلون حياتك بالألوان التي تريد، حقّك في أن تكون حرًا ولو تجرعت المرارة كؤوسًا، لكنّ ذلك لم يثنها عن التشبث بخيارها والحديث عنه علنًا دون التستر وراء كونها ضحية خديعة من رجل ما أو ضحية علاقة عابرة لم تنتبه لمآلاتها.
اقرأ/ي أيضًا: العودة المدرسية.. كابوس بعض الأمهات العازبات
نكران وإقصاء ونبذ وعنف وتنكيل ومساومة ومقايضة النشاط السياسي بالحالة الاجتماعية، هكذا تحدّثت رجاء الشامخ لـ"ألترا تونس" عن بعض مما عايشته حينما قررت أن تكون مختلفة، عن نظرة المجتمع وعن الوصم.
هي وجدت نفسها وجها لوجه مع عقلية مجتمعية لا تنفع معها ترسانة القوانين، ولا حل لها سوى الهدم وإعادة البناء، فالثورة الحقيقية هي ثورة الفكر والعقول التي تنبثق عنها سلوكات لا تعتمد قوالب جاهزة في الحكم على الآخرين. ولعلّ ما يشدّك إليها هي طباعها الهادئة والبسمة التي لا تفارق وجهها ونبرة صوتها الوديعة، حتّى وهي تتحدّث عما تعرّضت له من مضايقات وعن عيشها في المنفى بعد أن طلبت اللجوء السياسي إلى فرنسا لضمان حياة أكثر استقرار لابنها.
وهي لا تفرّط في ابتسامتها أبدا، تقول "ليس من السهل أن يتعايش طفلك الموصوم مع مجتمع مثل مجتمعاتنا ولكن تمسّكي باختياري وشراستي في الدفاع عن حق ابني في حياة لا تخلو من كرامة وكبرياء مكّنني من بناء شخصيته سويّة له خاصة وأن والده وعائلته كانوا سندًا لي ولخياري وحتى بعد وفاته ظلت العلاقة بيننا طيّبة".
رجاء الشامخ لـ"ألترا تونس": شراستي في الدفاع عن حق ابني في حياة لا تخلو من كرامة وكبرياء مكّنني من بناء شخصية سويّة له
رجاء شامخ لم تختر فقط أن تكون أمًا عزباء بل حدّدت جزءًا من قدر ابنها. وفي هذا الصدد، تعتبر أنّ حماية ابنها من الوصم دور ثان يناط بعهدتها إلى جانب مواجهة المجتمع على اعتبار أنّ اختيارها هو مسؤوليتها ولكنها حملت على عاتقها أيضًا مسؤولية شخص لا رأي له في وجوده على وجه البسيطة، وفق قولها.
سنة 2004 غادرت تونس إلى فرنسا رفقة ابنها لتضمن له مستقبلًا أجمل بعيدًا عن مفردات يتسابق البعض لتشكيل أكثرها قبحًا لوصم طفل أو طفلة لأن أمّه قررت أن تكون مختلفة ومتمرّدة. وبعد 7 سنوات من معانقة المنفى، كانت الثورة التونسية ورغبت رجاء الشامخ في العودة إلى تونس لكنّها لم تعد وظلّت تخوض المعركة الكبرى معركة الحريات الفردية حيثما كانت بعزيمة الإنسان الأممي.
رجاء الشامخ، المرأة المتفرّدة المتمرّدة التي لا تشبه إلا نفسها، لها بعض من اسمها فرجاؤها في أن تكون تونس بلدًا يجمع الكل على اختلافها لا يخبو، وهي رغم كل ما مر عليها شامخة لا تنحني، وهي لا تنفك ترقص على رماد الوصم الاجتماعي الذي أحرقته ذات اختيار.
اقرأ/ي أيضًأ:
المواليد خارج إطار الزواج.."إذا وصفونا بأبناء الحرام.. سنقول نحن آدميون"