تُعدُّ الوشاية من أكثر الظواهر السلوكيّة تشعُّبًا وغموضًا وخطورة، هي متشعّبة ومتداخلة لأنّها منفتحة على أبعاد شتّى سياسيّة ونفسيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وقانونيّة، وهي غامضة ومركّبة نظرًا إلى تجاورها دلاليًا مع مصطلحات أخرى مثل التملّق والنميمة والغيبة والقدح والذمّ والتحريض والثّلب والخِداع وغيرها من المفردات التي تبدو مترادفة، غير أنّها مختلفة متباينة مرجعيّة وأسلوبًا وخطورة.
تُعدُّ الوشاية من أكثر الظواهر السلوكيّة تشعُّبًا وغموضًا وخطورة لأنّها منفتحة على أبعاد شتّى سياسيّة ونفسيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وقانونيّة
تتميّز الوشاية عن بقيّة المصطلحات المُجاورة لها دلاليًا بِصِلتها الوثيقة بالمجال المِهَني الإداري من جهة، والمجال السياسي الأمني من جهة أخرى. تبعًا إلى ذلك، من البديهيِّ أن يساهم التحوّل في هذين المجالين في درجات انتشار الوشاية أو تقلّصها. ولأنّ البلادَ التونسيّة قد شهدت منذ ثمان سنوات ثورة استثنائيّة، في مُحرّكاتها وأدواتها ومساراتها وبعض مآلاتها، جاز التساؤل عن دور التحرّر من الظلم والاستبداد في الحدّ من الوشاية خُلُقًا وثقافةً ومؤسّسةً.
مِنْ رَحِمِ الاستبداد تنسِل الوشايةُ
تُساهم أنظمة القهر والظلم والاستبداد في انتشار لَوْثَةِ الوشاية، هذه المعادلة لا تنسحب فقط على الشأن التونسيّ المحليّ، إنّما هي قاعدةٌ كونيّةٌ، يمكن التحقّق منها من خلال بعض المؤلّفات الفكريّة والأدبيّة التي أكّدت هذا التلازم بين النظام السياسيّ المتفرّد المتغطرس وتفشّي ظاهرة السِّعايةِ وتأليب المسؤولين والحكّام على الخصوم والمعارضين.
بعض المؤلّفات الفكريّة والأدبيّة أكّدت التلازم بين النظام السياسيّ المتفرّد المتغطرس وتفشّي ظاهرة السِّعايةِ وتأليب المسؤولين والحكّام على الخصوم والمعارضين
تَجسّم هذا الواقع رمزيًا من خلال إحدى الحكايات المَثليّة ذات الأصول الهنديّة. ففي كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفّع: "حَرَّشَ دمنةُ الأسدَ على الثورِ، فقَضى الأوّل على الثاني ظُلمًا وبهتاناً"، فكان دمنةُ في موضع الحاشيةِ والأعوان والبِطانة، وتجسّدت في الأسد صورة السُّلطان صاحب النفوذ المطلق، أمّا الثور فقد كشفت نهايته عن المصير المأسويّ للمعارض في زمن الحكم الفرديّ. ولئن عبّرت الحكاية على ألسنة الحيوانات عن خطورة الوشاية فنيًا فقد مال الأديبُ العربيّ أبو حيّان التوحيديّ في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" إلى التصريح والخطاب المباشر، ففضح الوشاةَ في عصره قائلا: "ما فيهم إلّا من وَكَدَهُ الرِّجس والإفساد والأخذ بالمُصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء...هؤلاء سِبَاعٌ ضارية وعقارب لسّاعة وأفاع نهّاشة".
هذان الشاهدان يؤكّدان أنّ الوشاية سلوك متأصّل في المجتمع العربيّ منذ عصور، ويكشفان كذلك عن حجم الرفض والمواجهة والامتعاض والتبرّؤ من هذا الطاعون الاجتماعيّ والسياسيّ، وهو ما يتجلّى بصورة أوضح في الأنموذج التونسيّ كما يتّضح في العناصر التالية.
اقرأ/ي أيضًا: إنترنت تونس زمن بن علي.. بوليسية إلكترونية أيضًا
المواجهة اللغويّة وعبقريّة اللهجة التونسيّة
ما انفكّت اللهجة التونسيّة تبتكر مُرادفات لكلمة "واشٍ" تنطوي جميعها على مواقف الرّفض والترفّع والاستخفاف، بل تحمل بذور الكره والعداء والإقصاء لفئة اختارت الوشاية سبيلًا إلى الإساءة والإيذاء، كأنّ التونسي، إذْ يحرص على توسيع المعجم المحيل إلى الواشي، إنّما يرمي إلى تنويع الأسلحة اللسانيّة الرمزيّة لطعن هذا "الدسّاس" الذي دأب على "أكل لحم أخيه وهو غائب".
فوُسم بالبيّوع، وشُبّه بـ"القوّاد"، فأُلحقت به لَوْثَةٌ أخلاقيّة تُضاهي لوثة المُتاجر بأجساد النساء، ووُصف بــ"القفّاف" و"الصبّاب" كناية على مذلَّتِهِ، فــ"صبّاب الماء على اليدين" هو من يقدّم لأسياده خدمة لا ينال منها فضلًا اعتباريًا أو أجرًا ماديًا، وقِسْ على ذلك كلمات أخرى تُستعمل في مقام السِّبابِ والشتيمة كــ"طحّان" (يُتحفظ على استعمالها في بعض المناطق التونسية) و"صْبايْحي" وخاصّةً "اُستُفيدَ" إشارة إلى العبارة النمطيّة التي يستعملها الواشي في ديباجة التقارير التي يمدّ بها أربابه.
ما انفكّت اللهجة التونسيّة تبتكر مُرادفات لكلمة "واشٍ" تنطوي جميعها على مواقف الرّفض والترفّع والاستخفاف بل تحمل بذور الكره والعداء والإقصاء لفئة اختارت الوشاية
إضافة إلى هذا المعجم، يُرمى الواشي من قِبل التونسيّين بمشتقّات أخرى أطرفها وأشدّها إيلامًا كلمة "لَحَّاسْ" كناية عمّن يقتات في أكله من الحُتامة (ما بقي من الطعام في القِدْرِ أو على المائدة) وفي شربه مِنَ الثُّمالة (البقيّة في أسفل الإناء من شراب ونحوه). بهذا كشفت اللهجة التونسيّة عن عبقريّة فذّة في التصدّي للوُشاة وطعنهم طعنًا رمزيًا لُغويًا. وهو أسلوب يليق بهؤلاء الفاسدين المفسدين الذين ساهموا في تكميم الأفواه تكميما كانت له انعكاسات ذِهنيّة ونفسيّة وسلوكيّة خطيرة.
المُواجهة السلوكيّة
لم يكن التونسيّون في حاجة إلى أرقام أو شهادات تؤكّد الحصار الذي فرضه عليهم الوشاة في حِلّهم وفي ترحالهم، فقد انتشر منذ العهد البورقيبيّ وعيٌ لدى العامّة والخاصّة بأنّ العَسَسَ والرُّقباءَ يترصّدون كلّ حركاتهم، ويُعايِنون سائر أنشطتهم، ويَنْقُلون جلّ حكاياتهم، ويُسجِّلون أغلب محادثاتهم.
لذلك دأب التونسيّون في عقود الاستبداد على التكتّم والتمويه والإيهام والعمل السرّيّ بدافع الحيطة والحذر وحسن التدبير، ولئن بدا هذا السلوك حكيمًا موضوعيًا في الإفلات من القبضة الاستخباراتيّة للنّظام، فقد بلغ مع الكثير من المواطنين ذُروة الذعر والتوجّس، فتعطّل التفكير والإبداع، وشَحَّت التلقائيّة والعفويّة، ومضى عددٌ من الفَزِعين الجَزِعِين من السجون والتعذيب إلى ما يمكن نعته بالخوف العُصَابيّ الذي يُوقِعُ صاحبَه في الأوهام.
دأب التونسيّون في عقود الاستبداد على التكتّم والتمويه والعمل السرّيّ بدافع الحيطة والحذر وحسن التدبير للإفلات من القبضة الاستخباراتيّة للنّظام
وقد بلغ هذا المرضُ النفسيّ بأحدهم إلى الإعراض مطلقًا عن أجهزة الاتّصال الحديثة المتطوّرة ظنًا أنّها "مسكونة" بأجهزة مراقبة وتنصّت، شعاره الوِقائيّ "لا أرى، لا أسمع"، ولسان حاله يقول على حدّ تعبير الكاتب السوري سعد الله ونّوس من خلال تدخّل إحدى الشخصيّات في مسرحيّة "مغامرة رأس المملوك جابر": "أن نَكُونَ عِميانًا ونحن في بيوتنا أفضلُ من أن نعمى في ظلام الزنزانات".
اقرأ/ي أيضًا: فيصل بركات... قتلوه تعذيبًا ثم قالوا "حادث مرور"!
لم يساهم الخوف من الوشاة في تعطيل التواصل بين التونسيين تعطيلًا أشبه بالوباء الاجتماعيّ فحسب، إنّما كان مؤثّرًا في الاختيارات العلميّة والأكاديميّة والإبداعيّة، فقد اخترق الرقباء النفوس والأذهان حتّى أصبح كلّ كاتب مسكونًا بِواشٍ لا نظنّ أنّ وصفه بـــ"الرقيب الذاتيّ" يتناسب مع خطورته وسلطانه على الأفئدة والأَفهام، وهو مشغل يمكن تناوله بالتفصيل والتعليل في سياقات أخرى.
المواجهة القانونيّة
ساهم القانون التونسيّ في الدفع نحو الحدّ من الوشاية الكيديّة، دليلُ ذلك نصّ الفصل 248 من المجلّة الجزائية، وفيه "يُعاقَبُ بالسجن من عامين إلى خمسة أعوام وبخطية قدرها سبعمائة وعشرون دينارًا كل من أوشى باطلًا بأية وسيلة كانت بشخص أو عدّة أشخاص لدى سلطة إدارية أو عدلية من نظرها تتبع هذه الوشاية أو رفعها للسلطة المختصة أو لدى رؤساء المُوشَى به أو مستأجريه".
هذا الفصل القانونيّ رغم أهميّته لم يكن له أثر بعيد المدى في حماية المُعارضين خاصّة والتونسيين عامّة من سَعير الوشاة، ذلك أنّ النظام الدكتاتوريّ كفيل بتعطيل كلّ القوانين، وتوظيفها توظيفًا يخدم نفوذه، هذا فضلًا عن وجود ثغرات في هذا القانون يمكن أن تُساهم في إفلات الوشاة من العقاب.
لم يساهم الخوف من الوشاة في تعطيل التواصل بين التونسيين تعطيلًا أشبه بالوباء الاجتماعيّ فحسب إنّما كان مؤثّرًا في الاختيارات العلميّة والأكاديميّة والإبداعيّة
فقيام جريمة الوشاية أو الاّدعاء بالباطل وفق المصطلح القانونيّ، يشترط حسب أهل الاختصاص توفّر ثلاثة أركان أوّلها وجود الوشاية/ الاتّهام، ثانيها التحقّق من كذب الوشاية، وثالثها التأكّد من وجود سوء النيّة، وهو أمر يعزّ إثباته، ومنه يستطيع الواشي المدعومُ من السلطة التنفيذيّة كسب القضيّة والتمادي في أنشطة الوشاية بصفة عفويّة من باب التزلّف أو الانتقام من الجيران أو الأقارب أو الزملاء في العمل أو بدافعٍ رسميّ مُقنّن مُؤطَّرٍ محدّد مُوَجَّهٍ مأجور، وهو ما يمكن نعته باللهجة العاميّة التونسيّة بــ" قوّاد بكوارطو" (واش يملك بطاقة مُخبر)، هذا الضرب من الوشاية ستساهم مُخْرَجَاتُ ثورة الحريّة في الكشف عنه استنادًا إلى مبدأ المُكاشفة، فهل تحقّق هذا المطلب؟ وكيف ساهمت الديمقراطيّة في تعطيل آذان الوشاة وإطلاق ألسنة المعارضين والمفكّرين والمبدعين؟ ذاك ما سنعالجه في الجزء الثاني من هذا التقرير.
اقرأ/ي أيضًا: