ليس هناك أبشع من أحاسيس إنسان يغادر وطنه قسرًا نحو وطن آخر وثقافة أخرى وتحت سماء أخرى وتلفح وجهه نسائم أخرى وتبصر عينه ذرى جبال أخرى، ليس هناك أبشع من تهجير النفس هربًا من أتون حرب أو تضييق على الحرية الفردية أو التياع تطهير عرقي أو ديني.. ليس هناك أشنع على الإنسان من أن يضطر لطلب اللجوء وإنقاذ ما تبقى في داخله من أقباس للحياة.
قد يكون المضيف معطاء سخيًا مدثّرًا، لكن هذه الجروح لا تندمل أبدًا وتظل ندباتها موشومة على جدران الروح إلى الأبد ترافق اللاّجئ حتى وإن عاد إلى وطنه متوجًا.
تستقبل تونس، وفق أرقام رسمية، ما يناهز 8350 لاجئ ينتمون لدول إفريقية وعربية منهم 2187 مواطن سوري و306 مواطنين سودانيين
بارومتر اللجوء على الكرة الأرضية يبدو في صعود ونزول بشكل يومي، فكلما ابتعدت المجتمعات عن انسانيتها وعادت إلى توحشها الأول وكانت إقصائية وقاسية مع بعضها البعض وركنت إلى البشاعة وابتعدت عن الجوهر الصافي والثابت لقيمة الحرية، يكثر اللجوء وطلب اللجوء أو ما يسميه الشعراء "بالهروب من الجحيم" وهو ما يدعو المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، منذ تأسيسها سنة 1950 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، عبر مكاتبها في العالم إلى التحرك الحيني والتضامن مع هؤلاء البشر من أجل حمايتهم وتأمين حياة كريمة لهم في المجتمعات الجديدة بالتفاهم مع حكومات الدول المضيفة والمجتمع المدني المحلي والمانحين والمساندين الدوليين.
ولمزيد التوعية بوضعية اللاجئين وطالبي اللجوء في العالم تحتفل الإنسانية "بيوم اللاجئ" وذلك يوم 20 جوان/ يونيو من كل سنة، كبادرة تضامنية إنسانية مع من أجبروا على الفرار والهروب من بلدانهم الأصلية بسبب شتى أنواع الاضطهاد والحروب.. وهو أيضًا يمثل فرصة لتكثيف التعاطف معهم ومشاركتهم أحاسيسهم والمصاعب النفسية الجسيمة التي يواجهونها ومن أجل بعث الأمل فيهم وإعادة بناء حياتهم من جديد.
هذا اليوم الإنساني احتفلت به تونس على طريقتها وهي التي تستقبل على أراضيها ما يناهز 8350 لاجئ ينتمون لدول إفريقية وعربية منهم 2187 مواطن سوري و306 مواطنين سودانيين. ويتمركز أكثر من نصفهم بالعاصمة تونس والولايات المجاورة لها أو ما يعرف بإقليم تونس الكبرى.
اقرأ/ي أيضًا: مخيم "الشوشة".. قصص منسيين في سجن مفتوح
وقد ذهب مكتب تونس للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، خلال الاحتفال بيوم اللاجئ إلى رفع شعار "معًا نتعلم، معًا نتعافى، معًا نتألق" وحاول ترجمته على أرض الواقع عبر جملة من الأنشطة التوعوية والثقافية والرياضية انطلقت يوم 18 جوان/ يونيو الجاريً وتتواصل حتى نهاية الشهر وتتوزع أساسا بمدن الجنوب التونسي وتحديدًا بجرجيس وقابس وصفاقس.
وسعى مكتب المفوضية بتونس ورغم عدم استقرار الوضع الوبائي فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا إلى إنجاز نشاط فني بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بالعاصمة مع شركائه من المجتمع المدني التونسي (المعهد العربي لحقوق الإنسان، المجلس التونسي للاجئين، والجمعية التونسية للتصرف والتوازن الاجتماعي) وتمثل في معرض للفنون التشكيلية والحرف والتصوير الفوتوغرافي أنجزه عدد من اللاجئين وعرض جملة من الأفلام السينمائية محورها اللجوء والهجرة والتهجير القسري مثل عرض شريط "الرجل الذي باع ظهره" للمخرجة التونسي كوثر بن هنية.
قد تبدو الأعمال التشكيلية المعروضة ببهو قاعة عمر الخليفي بمدينة الثقافة أعمالاً بسيطة بألوان إفريقية فاقعة لكنها تختصر آلام مجموعة من اللاجئين من دول الكوت ديفوار وغينيا والكاميرون والسودان وغيرها من الدول ممن تقطعت بهم السبل ولم يجدوا لهم من أرض لتأويهم سوى تونس. المعرض كان نتيجة لورشات أقامتها منذ أشهر خلت "الجمعية التونسية للتصرف والتوازن الاجتماعي" من أجل اكتشاف مهارات ومواهب اللاجئين، والهدف من ذلك هو إحداث توازن نفسي عند اللاجئ نفسه وكسر حواجز الاندماج لديه.
إن هذه الأعمال الفنية المبسوطة ضمن "معرض اللاجئين" من شأنها أن ترمم الذوات المكسورة للاجئين تحطمت سفنهم على شواطئ تونس وتعيد لأصواتهم المهزومة ألقها
ومن خلال جولة متأنية ومكثفة النظر للوحات المعروضة فإن خيطًا رفيعًا يربط بينها وهو التقاطها للحزن الساكن في نفوس أصحابها اللذين فارقوا أوطانهم وذكرياتهم وأصدقاءهم وغاباتهم وحقولهم لأسباب عديدة خلاصتها أن العيش أصبح مستحيلاً هناك في الوطن الأم، لكنهم سرعان ما يبدون تلك المشاعر الجياشة على القماشات البيضاء كأني بهم يريدون الإفصاح عمّا لم يقولوه أمام المسؤولين على اللجوء.
تبدو العيون على اللوحات خائفة وشاخصة، والنظرات حذرة ومتيقظة، أما الأجساد فتتخفى بذكاء خلف تعريجات الفرشاة فتظهر ولا تظهر، أما الأيادي المرسومة والتي تبدو ممدودة في عدة اتجاهات فكأني بها تتسول قليلاً من الهدوء بعد الويلات التي عاشها أصحابها. هي أعمال تنبض بالذكريات البعيدة حيث تتراءى وجوه الأحبة وتنبت من ثنيّات الألوان الأهازيج والأفراح التي نأت والتي تحولت إلى صدى يتردد في أروقة الروح الحزينة.
اقرأ/ي أيضًا: أن تموت وأنت تحاول.. عن حلم شاب تونسي بجنّة أوروبا
وهناك في أقصى الصالة يجلس لاجئ سوداني بسمرة داكنة ووجه حزين تبهرك أنامله النحيفة عبر رحلة تصوير بديعة، هو موهوب في رسم البورتريه بأقلام الفحم، يجيد التقاط التفاصيل ويحسن ترتيب الأحزان على الوجوه المرسومة، هي وجوه استقدمها معه من السودان ربما للأهل وربما لأصدقاء.. وأخرى تعرّف إليها في تونس، يبسطها أمام الأعين ليس ليقال إنه رسام مُجيد بل ليكسر حواجز البعد والصمت الذي استبد به وخنقه. الرسم بالنسبة إليه قنطرة نحو حياة جديدة وأداة تواصل مع الآخر.
وفي جانب آخر من المعرض، يلمع حضور سوريا كنجمة قطبية عبر التطريزات الدمشقية على الأقمشة والألبسة والتي أنجزتها سيدات سوريات يعشن اللجوء مع عائلاتهن. سوريا عبر هذا المعرض هي استعارة القسوة السياسية التي ألمّت بالمجتمع فشردته وجعلت من بعضه شتاتًا.
سبق أن وقعت المفوضية اتفاقية مع الحكومة التونسية سنة 2018 بمقتضاها يتم مساعدة اللاجئين وطالبي اللجوء بتونس واللذين شهد عددهم تزايدًا ملحوظًا خلال سنة 2020 وهم أساسًا من دول الكوت ديفوار وسوريا والعراق واليمن وفلسطين
إن هذه الأعمال الفنية المبسوطة ضمن هذا المعرض من شأنها أن ترمم الذوات المكسورة للاجئين تحطمت سفنهم على شواطئ تونس وتعيد لأصواتهم المهزومة ألقها وتحقق بعض الاستقرار لكائنات عاشت هشاشتها بما يكفي وحان الوقت أن تلقى توازنها.
الاحتفال السنوي بيوم اللاجئ بهذا الأسلوب الاحتفائي والراقي والداعم لكرامة الإنسان لم يكن متاحًا في تونس ما قبل الثورة لاعتبارات عديدة وذلك رغم انخراط تونس في منظومة الأمم المتحدة وما جاورها من معاهدات منذ سنة 1963 بعد الحرب الجزائرية مباشرة، لكنه الآن وبفضل مناخات الحرية والديمقراطية التي أتاحتها الثورة أصبح حدثًا ثقافيًا حقوقيًا هو بصدد تجذير تونس فعليًا ضمن مصاف الدول التي تحترم حقوق الإنسان في معانيها الكونية وما يؤكد هذا التمشي التونسي الجديد هو توقيع المفوضية لاتفاقية مع الحكومة التونسية سنة 2018 بمقتضاها يتم مساعدة اللاجئين وطالبي اللجوء بتونس واللذين شهد عددهم تزايدًا ملحوظًا خلال سنة 2020 وهم أساسًا من دول الكوت ديفوار وسوريا والعراق واليمن وفلسطين.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار| عبد الباسط بن حسن (المعهد العربي لحقوق الإنسان):هذا ما نطلب من قيس سعيّد
طالبو اللجوء في تونس.. البحث عن مأوى في انتظار قانون يضمن حقوقهم