كنت أتجول مؤخرًا في أروقة معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الأخيرة تائهة بين آلاف الكتب أبحث عن العناوين والكتاب الذين يستهوونني فيما دأبت على وصفه بجنتي على الأرض. وبينما أنا في حالة التيه الجميلة تلك، لفت نظري وجود عدد كبير من كتب ذات عناوين لا أتذكرها جيدًا ولكنها تقريبًا تصبّ في نفس الخانة، كيف تكون سعيدًا أو كيف تطور نفسك في حياتك العملية أو المهنية وغيرها.
ما أثار فضولي فعلًا ليس كثرة هذه الكتب فحسب بل أيضًا إقبال عديد التونسيين عليها الأمر الذي يضعنا أمام ظاهرة جديدة نسبيًا على المجتمع التونسي، التنمية البشرية. فكثيرًا ما بتنا نسمع عن مدرّب ينظم دورات لتطوير الذات والنجاح على الصعيد العملي هنا وآخر يعقد ورشات عمل للتدريب على كيفية الحب هناك.
اقرأ/ي أيضًا: الدورة 34 لمعرض تونس الدولي للكتاب: 260 عارضًا والجزائر ضيف الشرف
باحث في علم الاجتماع: مقدمو حصص التنمية البشرية يجدون مراجعهم داخل عالم الانترنت وأغلبهم من أصحاب الأعمال الحرة وقلة منهم يحملون شهادات جامعية
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة منتشرة منذ سنوات في العالم الغربي، أين يشتهر العديد من المتحدثين المحفزين الذين يلقون محاضرات في مسارح وفضاءات كبيرة تتعلق أساسًا بضرورة التفاؤل بشكل دائم وتقدّم ما يبدو للوهلة الأولى سبلًا لكي يضمن المرء نجاح حياته، إلا أن هذه الظاهرة تنامت بشكل كبير في تونس ما بعد الثورة وأصبح يمكن لأي شخص أن يصبح "مدربًا" بمجرد أن يقرّر ذلك، حتى أن البعض يصفهم بـ"المشعوذين" الجدد.
[[{"fid":"99368","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":333,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
يصف البعض مدربي التنمية البشرية بـ"المشعوذين" الجدد (صورة تقريبية/ Mark Clifford/ Barcroft Media)
الفراغ الثقافي والمعرفي من أسباب تنامي ظاهرة "التنمية البشرية"
في هذا السياق، يعتبر الأستاذ والباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن ارتفاع ممتهني التنمية البشرية يعود لعدة أسباب لعلّ من أهمها حالة "الفوضى" التي شهدتها البلاد التونسية ما بعد الثورة وخاصة في سنواتها الأولى، إلى جانب ضعف مؤسسات الدولة وخاصة أجهزة المراقبة التي جعلت من هؤلاء يجدون الأرضية المناسبة للتكاثر، حسب تعبيره.
ويشير بن نصير إلى أنه ليس هناك تخصص علمي أكاديمي أو جامعات مختصة في "التنمية البشرية"، مبينًا أن مقدمي هذه الحصص يجدون مراجعهم داخل عالم الانترنت وأغلبهم من أصحاب الأعمال الحرة وقلة منهم يحملون شهادات جامعية، فضلًا عن أن نسبة قليلة منهم من يمتلكون شهادات في اختصاص علم النفس أو علم النفس الاجتماعي الذين يعدّون الأجدر بتقديم مثل هذه الحصص، على حدّ قوله.
ويبيّن أن الفراغ الثقافي والمعرفي الذي تعيشه البلاد له دور رئيسي في تبلور هذه الظاهرة، وفقه، موضحًا أن التونسي اليوم يعيش حالة من الإحباط النفسي والاجتماعي ويبحث عن وهم روحاني وبعض الكلمات للطمأنة من قبل "مدربي التنمية البشرية". ويضيف محدث "الترا تونس" أن نفس الرسائل تُقدّم في جميع الحصص، قائلًا "الأتعس أن يكون بمقابل مادي كبير أحيانًا يصل إلى 300 دينار للمشارك الواحد دون أن يخضعوا للأداءات والمراقبة المالية من قبل الهيئات المختصة للدولة، وفق تـأكيده.
ويلفت إلى أن المواطن قد تستقطبه الأسماء التي تخضع للمغالاة من قبل "المدرب العالمي والدكتور المختص في التنمية البشرية والمتخرج من الجامعة البريطانية..."، مؤكدًا أن هذه التسميات لا تخضع للواقع بأي صلة، حسب تصريحاته.
سنة 1973 أنشأ الأمريكيان ريتشارد باندلر وجون جريندر علم البرمجة اللغوية العصبية
اقرأ/ي أيضًا: "الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"
التيارات الأولى لعلم البرمجة اللغوية العصبية
في علم النفس تمثل التنمية البشرية مجموعة من تيارات الأفكار والأساليب الهادفة إلى تحسين معرفة الذات وتقييم الموهبة والقدرات وتحسين نوعية الحياة وتحقيق الطموحات. ولا تعدّ التنمية البشرية علاجًا نفسيًا وتذهب بعض التيارات الأكاديمية إلى رفضها واعتبارها علمًا زائفًا ويقوم على التلاعب العقلي بالآخر.
ويعدّ ألفراد أدلر وكارل غوستاف جونغ من منظري التنمية البشرية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الفارط رغم أنها لم تكن موجودة آنذاك. وقد سبقت ظهور هذه الظاهرة تيارات نظرية لعلّ أبرزها كتاب نورمان فينسنت بيل "قوة التفكير الإيجابي" (The ¨Power of Positive Thinking) سنة 1952، قبل أن يؤسس إيريك بيرن عام 1960 نظرية التحليل التعاملي.
وفي سنة 1973، أنشأ الأمريكيان ريتشارد باندلر وجون جريندر علم البرمجة اللغوية العصبية التي تهدف إلى تجسيم المهارات والمعرفة المتوفرة لدى أشخاص موهوبين لنقلها للأشخاص الذين يحتاجونها. ويروم علم البرمجة اللغوية العصبية إلى تحسين الاستقلالية والاحترام المتبادل وتطوير الذات وحرية التفكير وجودة العلاقة مع الأقرباء.
ويختلف مستوى المتحدثين المحفزين من مدرب إلى آخر وقد لاقت رواجًا كبيرًا وظهرت عدة الأسماء المعروفة في هذا المجال على غرار أنتوني روبنز.
شريف اللوزي (مدرب تونسي): هناك من يمارس مهنة التدريب بحثًا عن الربح السريع
[[{"fid":"99370","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":333,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]
أنتوني روبنز أحد أشهر المدربين في العالم (ماتيو إيزماين/ Getty)
مزيفون يشوهون قطاع المدربين
أما في تونس، فظهرت التنمية البشرية منذ عشرات السنوات ولكن اليوم أصبحت السوق أكثر انفتاحًا، وبات كلّ من هبّ ودبّ يقول أنا "مدرّب"، وفق ما يؤكده باعث المشاريع والمدرب شريف اللوزي. ويشدد اللوزي، في تصريح لـ"الترا تونس"، على أن التدريب والتنمية البشرية مهنة نبيلة ولا تقلّ أهمية عن مهنة الأطباء، وفقه، باعتبار أنها "تؤثر على الإنسان مباشرة ولا تحتمل أي خطأ".
ويشير إلى أن هذا القطاع في تونس لا يزال غير مقنّن، مبينًا أن هناك "آفة" من الأشخاص الذين يتقاضون أموالًا دون أن يتمتعوا بالكفاءة في حين أن أشخاصًا قد يتوجهون إليهم وهم بحاجة إلى المساعدة. ويضيف محدث "الترا تونس" أن هناك نوعًا من "الكود" الذي يحمي المدرب الحقيقي، موضحًا أن المنظمات في العالم لها معايير محددة وأن هناك من يدرس فيها ثم يعود إلى تونس ويظهر الشهادة التي يتحصّل عليها.
ويبرز أن هناك مدربين حقيقيين يعملون بضمير ووفق أخلاقيات المهنة وفي المقابل، هناك من يمارس مهنة التدريب بحثًا عن الربح السريع، مشيرًا إلى أن المدرب الحقيقي لا يكفي أن يتمتع بالقدرة على الحديث وسط مجموعة صغيرة أو كبيرة من الأشخاص وأن يقدر على تحفيزهم كلاميًا ولكن يجب أن يتمتع بالكفاءة والخبرة في هذا المجال.
أما عن تجربته الشخصية، يقول شريف اللوزي إنه مهنته الأصلية تتمثل في الهندسة وعمل لفترة كمستشار بإحدى الشركات وكان بناء على طبيعة عمله في اتصال دائم مع عديد الأشخاص دون أن يكون مديرهم في العمل، إلى جانب أن له تكوينًا في المسرح والتنشيط. ويضيف أنه بعد عمله كمستشار شعر أنه يستطيع نقل عمله في التدريب إلى مستوى آخر واطلع على المنظمات العالمية الناشطة في مجال علم البرمجة اللغوية العصبية وقام بإجراء عدة دورات هناك وعاد إلى تونس حاملًا شهادة حقيقية، وفق حديثه.
اقرأ/ي أيضًا: المواليد خارج إطار الزواج.."إذا وصفونا بأبناء الحرام.. سنقول نحن آدميون"
ويلفت اللوزي إلى أن المدرّب الحقيقي يجب أن تتوفر فيه شروط القدرة على إيصال المعلومة وله تجارب مهنية في المجال، مؤكدًا ضرورة التثبت من مراكز التدريب التي يقول بعض المدربين إنهم تحصلوا على شهادات منها. ويعرب شريف اللوزي عن أسفه لوجود مدربين مزيفين شوهوا قطاع التدريب ببحثهم عن الربح السريع.
يبدو مما سبق أن المواطن التونسي يعيش حالة من الإحباط التي تتعدّد أسبابها ومن البديهي في هذه الحالة أن يحلم بمستقبل أفضل. ونظرًا لطبيعة التونسي التي تميل إلى الربح السريع وغياب المبادرة وقلة التحفيز، كما يذكر الباحث في علم الاجتماع المنصف وناس في كتابه "الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية"، يبدو انجذاب العديد من التونسيين إلى دورات التنمية البشرية ودفعهم أموالًا قد تكون طائلة أحيانًا لقاء حصولهم على طرق تمكنهم من تحسين حياتهم أمرًا مفهومًا.
الرغبة في الربح السريع والسهل كفيلة بتفسير استغلال تونسيين لأبناء شعبهم وإيهامهم بقدرتهم على مساعدتهم في تحقيق أحلامهم
وأمام كلّ هذه العوامل وتطور ظاهرة التدريب والتنمية البشرية، وفي انتظار أن نصل إلى الحلم المرجو في ثورة ثقافية تزيح كل أفكار التخلف والشعوذة، بشقيها القديم والجديد، وتبعث أجيالًا جديدة تؤمن بقدراتها ومنفتحة على الآخر، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لحملات توعية تتصدى كلّ ما من شأنه أن يغش التونسيين ويجعلهم يدفعون أموالًا مقابل وهم سيزول لاحقًا، دون أن ينفي ذلك الدور الهام الذي يمكن أن يقوم به أطباء النفس وباحثو علم الاجتماع، إلى جانب المدربين الحقيقيين.
اقرأ/ي أيضُأ: