أماطت قضيّة "المدرسة القرآنية في الرقاب" الغطاء عن وجود تعليم ديني يمارس خارج الأطر القانونيّة وذلك في غياب تشريعات تنظّم تأسيس مدارس تعنى بالشأن الديني. هذه المدرسة التي أنشأت كجمعية تربوية هدفها الأساسي تنظيم دورات لتحفيظ القرآن، تبيّن أنه وقع فيها استغلال 42 طفلًا استغلالًا اقتصاديًّا وتعريضهم لسوء المعاملة.

أماطت قضيّة "المدرسة القرآنية في الرقاب" الغطاء عن وجود تعليم ديني يمارس خارج الأطر القانونيّة في تونس

 قضية المدرسة لا تزال إلى اليوم حديث الشارع التونسي نظرًا لكونها تحمل عديد الملابسات التي أثارت جدلًا حول التعليم الديني في تونس والسبب الذي يجعل بعض الأسر التونسية تتوجه للبحث عن تعليم مواز رغم ما توفّره الدولة من أطر قانونيّة ومهيكلة.

أسئلة يحاول "ألترا تونس" الإجابة عنها في هذا التقرير.

قراءة لواقع التعليم الديني في تونس

"الوضع في تونس يحتاج إلى إعادة النظر في مناهج التدريس وهذا ليس بجديد"، هكذا عبّرت الأستاذة الجامعية بكليّة الآداب بمنوبة آمال قرامي لـ"ألترا تونس" عن تقييمها لواقع التربية الدينية.

وبيّنت قرامي أن المطالبة بالإصلاحات كانت تلاقي مقاومة من داخل المؤسسات المعنيّة التي لا تقوم بمراجعات وتجديد للمناهج والمقاربات وتحيين للمعارف لتواكب التطوّر الحاصل في العالم وخاصة في الدول العربية المجاورة التي أخضعت مؤسساتها للتأهيل، حسب تعبيرها.

وأضافت أن مادة التفكير الإسلامي ومنذ أكثر من ثلاثين سنة تعاني من معضلة أساسية وهي هجران التلاميذ لهذه الحصص إذ أن الأجيال الجديدة تعاني من مشكلة الانضباط داخل المؤسسات، وتعدّ هذه المسألة من أصعب الحصص التي تواجه الإطار التعليمي، بالإضافة إلى أن طريقة التلقين وتغييب الفكر النقدي يجعلهم يخرجون بتكوين هزيل على مستوى معرفتهم بمختلف الديانات.

آمال قرامي: مادة التفكير الإسلامي ومنذ أكثر من ثلاثين سنة تعاني من معضلة أساسية وهي هجران التلاميذ لهذه الحصص

وأكدت محدثتنا أن التعليم الديني لا يجب أن يقتصر على رؤية ضيّقة تتعلّق بالإسلام فقط بل مدى تفاعله مع الديانات الأخرى كاليهوديّة والمسيحيّة، مشيرة إلى أن التلميذ والمدرّس يكونان غير مقتنعين، في بعض الأحيان، بأهميّة هذه المادة ويستهزئون من قيمتها.

وأوضحت أن التلميذ يخرج من حصة التفكير الإسلامي وهو لا يملك معلومات متينة حول الدين، بل وينظر إلى التربية الدينية على أساس حصة غير مرحب بها ولا يفهم أهمية مكوّن العامل الديني في الحياة الروحية ولا يتشبّع من أعلام التصوف والمفكرين الإسلاميين ولا يطّلع على التجديد في الاجتهاد رغم أن جلّ هذه المواضيع يمكن أن تجلب انتباهه، وفق تصريحها.

وأضافت قرامي قائلة: "الدين لا ينفصل عن السياسة ولا ينفصل عن المجتمع في تحركه وفي دينيكاميته لذلك نحتاج أن ندرسه كظاهرة ثقافية لها إشكاليات ونحاول أن نعالجها بالنظر إلى مختلف الزوايا، كما نحتاج إلى تعصير وسائل التربية على الثقافة الدينية وتجديد طريقة التدريس من خلال اعتماد بعض الفيديوات والوثائق البصرية".

اقرأ/ي أيضًا: التعليم في خطر: ثقافة "الموازي المدرسي" تهدد المدرسة التونسية

وفي الإطار ذاته، يؤكد الأستاذ والباحث المتخصص في الشأن التربوي عبد العزيز الكحلاوي لـ"ألترا تونس" أن من يستقرئ منظومة التعليم الديني في تونس يلاحظ أنها لا تحظى بنفس القيمة التي تحظى بها بقية المواد الدراسية، سواء كان ذلك في المستوى الابتدائي أو التعليم الإعدادي أو الثانوي أو حتى الجامعي، قائلًا "في المراحل ما قبل الجامعية نجدها ضعيفة الضوارب وهو ما يعكس النظرة الدونيّة للجهة التي أشرفت على وضع التخطيط العام للمواد التعليمية على حدّ تعبيره، وذلك ما ينعكس في ذهن التلميذ الذي يراها مادة ثانوية ولا يوليها اهتمامًا كبيرًا في مساحة الإعداد، كما يستصحب الوليّ هذه النظرة السلبية لهذه المادة".

وأضاف الكحلاوي أن المساحة الزمنية المقررة لتدريس هذه المادة هي محدودة جدًا، ولا يتمكن خلالها المدرس من تحقيق التدريب الكافي وتمكين التلميذ من المهارات المطلوبة للفهم والتفكيك والتحليل وبناء الموقف النقدي النظري الضروري في حياته اليومية، مؤكدًا "إذا أردنا أن نفهم ذلك عمليًا في نطاق الفصل الدراسي، فإن المدرس يجد نفسه مقيدًا بالزمن المخصص للحصّة، فهو من جهة مطالب بإتمام البرنامج حسب الروزنامة الزمنية المضبوطة من الوزارة وهو في نفس الوقت مطالب بتمكين تلاميذه من تملّك مجموعة المهارات والكفايات اللازمة لبناء الشخصية السوية والقادرة على مواجهة الأفكار الخاطئة التي يطلقها أصحابها باسم الإسلام وهي ليست منه. وأمام ضيق المساحة الزمنية فإن المطالب البيداغوجية والمقاصد المعرفية لا يمكنها أن تتحقق، ولا يتسنّى للتلميذ امتلاك القدرة على الاختيار المسؤول والواعي وعدم الانقياد لغيره دون طرح الأسئلة اللازمة".

عبد العزيز الكحلاوي: من يستقرئ منظومة التعليم الديني في تونس يلاحظ أنها لا تحظى بنفس القيمة التي تحظى بها بقية المواد الدراسية

"أما من ناحية المحتوى العلمي فهو ما يزال نمطيًا"، إذ يعتبر الباحث في الشأن التربوي أن المدرس مقيّد في مجموعة من الدروس التي لا تفي بالحاجة العلمية لتلميذ هذا العصر الذي أصبح طموحًا وذا جرأة كبيرة ومغامرًا يبحث عن اكتشاف المجهول والمحظور دائمًا، فضلًا عن ميله للعنف لأنّ مساحة الحوار محدودة سواء في البيت أو القسم أو في الفضاءات العامة، مبرزًا أن هذه المعطيات لم تؤخذ بعين الاعتبار في تخطيط مادة العلوم الإسلامية في مختلف مراحل تدريسها وأن أخطر ما في الأمر أنّ الذين وضعوا البرامج التعليمية في مادة التربية الإسلامية والتفكير الإسلامي لم يكِلُوا إليها دفع التحديات التي ينشرها الفهم المتخلف للنصوص الإسلامية، وما يلحق ذلك من تعسّفٍ في منهج الفهم لهذه النصوص وصرفها عن مقاصدها الحقيقية التي أرادها الشارع.

ويضيف محدثنا: "لما كانت النصوص الدينية تمسّ جانب المقدس عند الإنسان فإنّه يكون من الصعب جدًا دفع الأفهام المنحرفة اللاحقة بها، إلا بمستوى جيّد من المادة العلمية القوية في محتواها التي تكسب المتعلّم الكفايات المضمونية الضرورية التي تجعله قادرًا على فهم الأطروحات المغايرة وتقييمها وردها على أصحابها إن لزم الأمر".

ويؤكد الكحلاوي أنه على مادة التربية والتفكير الإسلامي أن تؤدي دورها الاستراتيجي والتربوي في تأطير الناشئة ومنع انحرافهم نحو الأفهام الخطيرة على التديّن والبنية المجتمعية من خلال إعطاء هذه المادة قيمتها من ناحية الضارب ومن ناحية عدد ساعات التدريس حتى يتمكن المدرس من تحقيق الأهداف والكفايات والمهارات اللازمة لتلميذ المرحلة الراهنة.

ماهي الأسباب التي تجعل الأسر تُقبل على التعليم الموازي؟

توضح آمال قرامي أن استقالة الأسرة التي تضطلع بدور تصحيح المعارف والتربية على القيم وتكلّس المواد وطريقة تدريسها جعلت من الأسر تبحث عن بدائل، ومن هنا انتشرت ظاهرة المدارس العشوائية التي تدرّس دون رقابة من الحكومة، وتمثل محاولة لسد النقص الموجود على الساحة.

وتضيف قرامي أن جانبًا من هذا الانتشار فيه أدلجة ومشروع سياسي واضح المعالم يكاد يتماهى مع المشاريع الإرهابية التي تنشئ الشباب على أفكار دوغمائية ورفض التعايش ورفض الاختلاف والحدية في المواقف، على حدّ تعبيرها.

انتشرت ظاهرة المدارس العشوائية لسدّ النقص الموجود في الساحة التربوية (Getty)

من جهته، يقول عبد العزيز الكحلاوي إن رغبة هذه الأسر في تمكين أبنائها من تدارك النقص الفادح الذي تركه التعليم العمومي في الإحاطة بما يحتاجه المتديّن في حياته الدينية، مضيفًا أنه لما كان هؤلاء الأولياء تلاميذ من قبل فهم يحملون نفس الانطباع عن مادة التربية الإسلامية والتفكير الإسلامي، فهم لا يثقون بهذه البرامج، ويرونها ضعيفة المحتوى، ولا تستجيب لجميع مطالب المتدين لما تعانيه من نقص في تحفيظ القرآن بقواعده السليمة وما يلحق به من تفسير وفقه وغير ذلك من بقية العلوم الشرعية. 

ويتابع قائلاً: "لذلك فهي في وعيهم لا تفي بالأغراض العلمية المطلوبة منها، كما أنها لا تحقق للتلميذ نقلة نوعية في تكوينه ولا توفر له الكفايات المعرفية اللازمة التي تجعله قادرًا على التمييز بين الفهم السليم للنصوص والفهم المنحرف والبعيد عن الاعتدال والوسطية المطلوبة في الإسلام"، حسب تعبيره.

اقرأ/ي أيضًا: من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟

خطر التعليم الديني الموازي في تونس؟

في سياق متصل، يؤكد مهدي مبروك، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية ورئيس فرع تونس للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لـ"ألترا تونس" أنه ضد كافّة أشكال التربية الموازية في تونس لأن الدولة التونسية وحّدت التعليم منذ الستينيات بعد أن كان التعليم متعددًا، مضيفًا أن محمود المسعدي هو الذي سعى لتوحيده وجعله إلزاميًا ومجانيًا وهذا مكسب للمدرسة الوطنية التي تعتبر إحدى منتجات الهوية الوطنية حسب تعبيره.

ويبيّن مبروك أن إيجاد أشكال جديدة من التعليم خارج الدولة سواء كان دينيًا أو اجتماعيًا أو مهنيًا دون الحصول على ترخيص مسبق يعدّ خطرًا على المتكونين نظرًا لحساسية تنشئة الطفل على قيم الوطنية والاعتدال مشددًا على ضرورة أن تكون هذه المؤسسات تحت رقابة الدولة وإشراف جهاز حكومي يتولى ضبط المحتوى البيداغوجي وضبط الشروط المراقبة البيداغوجية والإدارية والمالية لكي لا تصبح هذه الأطر مغاسل للأدمغة.

مهدي مبروك: إيجاد أشكال جديدة من التعليم خارج الدولة دون الحصول على ترخيص مسبق يعدّ خطرًا على المتكونين نظرًا لحساسية تنشئة الطفل

ويشير إلى أن المجتمع التونسي حافظ في العقود الأخيرة على هذا التعليم في شكل كتاتيب تحت رقابة وزارة الشؤون الدينية، كما أن هناك نوعًا من الروضات تلقن مبادئ التربية الإسلامية والقرآن قائلًا: "أنا لست مع هذا التعليم ولكن لا بد أن يكون تحت إشراف الدولة".

ويبرز مبروك أنه إذا كان هناك ثغرات على مستوى التشريع فلا بدّ من تداركها في الأيام القادمة لافتًا إلى أن الرابطة الوطنية للحفاظ على القرآن تلعب هذا الدور وهذا لا يتنافى مع مبدأ الحريات لكن يقننها ويجعلها تخدم السلم المدني الهوية الوطنية القواسم المشتركة لهذا الشعب الذي هو مدين في جزء من هذه الهوية المشتركة الى التعليم التونسي.

ويوضح مهدي مبروك أنه "علينا ألا نخلط بين الإسلام والقرآن ومبادئه من جهة وبين التعليم بطرق عشوائية من جهة أخرى ففي هذه الطرق الكثير من التعصب على مدارك الأطفال وخيالهم مما يؤثر على مزاجهم ويشكل خطرًا. علينا ان نتدارك إذا حصل تقصير في السنوات الأخيرة وألا نستثمر هذه الحادثة في تصفية حسابات مع طرف سياسي فهذا الملف هو ملف قضائي تربوي قيمي نتعامل معه بكثير من الحذر والرصانة لأن هناك من يستثمر هذه الورقة لحشرها في صراعات سياسية".

عبد العزيز الكحلاوي: المطلوب هو مراجعة النقائص في تدريس العلوم الإسلامية من جهة الضارب والمدة المخصصة لها والمضامين

"المطلوب في خلاصة القول هو مراجعة النقائص في تدريس العلوم الإسلامية من جهة الضارب والمدة المخصصة لها والمضامين وتجنب تنميطها وتحنيطها، بل لا بد من إعطاء أصحاب الاختصاص الكلمة في تحديد المطلوب مضمونيًا. ومن الناحية الاستراتيجية لا مجال لمقاومة الإرهاب بالمحاصرة والمتابعة الأمنية، لأن الإرهاب ينشأ في العقول ويتجلى في المفاهيم. ومواجهة الفكرة بالفكرة في حرية تامة هو أنجع السبل للتصدي للمفاهيم المنحرفة وسلبها مسوغات الانتشار"، هكذا لخّص عبد العزيز الكحلاوي رؤيته لإصلاح منظومة التعليم الديني في تونس، منظومة تحتاج جميع المتدخّلين فيها لتدارسها والنأي بها عن كل ما هو توظيف سياسي أو أيديولوجي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حراس المدارس.. أمناء على التلاميذ أم مغتصبون؟!

احذر مثاليّتك فقد تدمّر طفلك!