كنت عائدًا من مدينة طبرقة إلى العاصمة وقبل الحلول بنفزة توقفت بأحد حقول التبغ. أحسست بهيبة تلك الحقول الفسيحة التي تتناضد فيها نبتة التبغ بعناية فائقة. إنها شاهد على قصة هذه النبتة التي دخلت تونس سنة 1830.
اقرأ/ي أيضًا: تونس الأولى عربيًا في نسبة تدخين الذكور
العم صالح رجل سبعيني يرتدي جمّازة "دينقري" بلي لونها الأزرق، منهمك في حقل التبغ بتفان. يحنو على الورقات بأبوّة فائقة. سألته عن هذه الفلاحة العريقة "هل مازالت تدرّ عليهم الخير العميم كما في السابق؟" قال "الدّخان ورثناه عن الجدود.. وما عادش يعطي كي قبل. وزيد الناس ولّت تتكيف بالضو". كلمات هذا المزارع التونسي لخصت جانبًا من جوانب ظاهرة التدخين في تونس وفي العالم. وهو تفشي ظاهرة التدخين الإلكتروني داخل جميع المجتمعات ومنها المجتمع التونسي.
في تونس تتمّ عملية إنتاج التبغ وإستغلاله وتحويله إلى سجائر وتوزيعه وبيعه بالجملة وتصديره تحت إشراف الدولة منذ 1876 وهو يدرّعليها عائدات مالية هامة
ففي بلادنا تتمّ عملية إنتاج التبغ وإستغلاله وتحويله إلى سجائر وتوزيعه وبيعه بالجملة وتصديره تحت إشراف الدولة منذ 1876 وهو يدرّعليها عائدات مالية هامة وتصل مساهماته في ميزانية البلد بنسية ثمانية في المائة (مؤشرات 2014).
هذا القطاع الحيوي في الاقتصاد التونسي عرف فوضى لم يتخلص بعد من ارتداداتها. فأنشطة تهريب السجائر عبر الحدود الغربية والجنوب شرقية لبلادنا لم تهدأ إلى الآن بل إن المهربين لم يكتفوا بتسريب سجائر رديئة بخسة الثمن ومضرة بالصحة بل ذهبوا إلى الصين وقاموا باستنساخ الماركات التونسية التي ينتجها مصنع القيروان وروجوها سرًا وعلانية بالسوق التونسية. وهو ما أضرّ بالوكالة الوطنية للتبغ والوقيد التي تسيّر هذا القطاع في تونس.
وازداد الوضع الاقتصادي "للدخان" تعقيدًا بحلول السيجارة الإلكترونية وترويجها بالسوق التونسية منذ 2011 وذلك بالرغم من تحذيرات وزارة الصحة التونسية من مضار هذه السجائر ومنعت بيعها بالصيدليات (لأن بداية الترويج للسجائر الالكترونية بدأت بالصيدليات على أساس أنها تساعد المدمنين على التخلص من السجائر الكلاسيكية). وهذه الظاهرة لا تزال محل جدل ونقاش بين المختصين في الصحة وسلامة المحيط والشركات العالمية المنتجة لأهم ماركات السجائر ومصانع السجائر الالكترونية التي كانت انطلاقتها من الصين سنة 2003.
في تونس الآن وحيث ولّيت وجهك في المقاهي والفضاءات العامة إلا وتلاحظ الحضور الطاغي للسجائر الإلكترونية بل والشيشة الإلكترونية. فهل نحن إزاء تحوّل جذري في مشهد التدخين؟.. "الترا تونس" حاول تقصي الإجابات الممكنة لهذا السؤال.
قطاع إنتاج التبغ وتوزيعه عرف فوضى في تونس لم يتخلص بعد من ارتداداتها فأنشطة تهريب السجائر عبر الحدود الغربية والجنوب شرقية لبلادنا لم تهدأ إلى الآن
مستقبل التدخين في العالم سيكون إلكترونيًا..
التقينا مجموعة من مدخني الشيشة الإلكترونية فتباينت إجاباتهم:
أماني (20 سنة)، وهي موظفة بشركة اتصالات تقول إنها لم تجرب تدخين السجائر من قبل بل أغرتها الشيشة الإلكترونية في جلساتها مع أصدقائها فاقتنت واحدة بخمس مائة دينار تونسي فهي معجبة بشكل الشيشة والدخان المعطر المنبثق منها وتضيف أنها لا تعرف مضار هذه الآلة الالكترونية بل بالعكس ما هو رائج أنها غير مضرة مثل الشيشة العادية (النارجيلة).
جمال (50 سنة)، وهو أستاذ إنقليزية عائد لتوّه من إحدى دول الخليج العربي، يؤكد أنه يدخن منذ ثلاثين سنة. وفي محاولة منه للتخلص من الإدمان على السجائر العادية نصحه طبيبه في مرحلة أولى بالتدخين الالكتروني على اعتبار أن السيجارة الالكترونية خالية من المواد الكيميائية التي تتسبب في السرطان. ويضيف أن رحلته مع التدخين متعبة على أكثر من صعيد وهو حاليًا يبحث لها عن نهاية.
فارس (22 سنة)، طالب بكلية 9 أفريل بتونس يوضح لـ"الترا تونس" أن التدخين بشكل عام هو جزء من "وهرة" المدخن. ويضيف أنه يدخن السيجارة العادية والالكترونية معًا ويعتبرها ملهمة لأفكاره وخاصة السجائر الصباحية.
لطفي (47 سنة)، وهو إطار ببنك عمومي، يرى أن مستقبل التدخين في العالم وفي تونس في اتجاه التدخين الالكتروني وهو ما سيخفف أعباء التدخين على صحة الإنسان. لكن ما يخشاه هو التلاعب بالزيوت والنكهات المستعملة بالسجائر الالكترونية وسلامة الأجهزة وأماكن صنعها.
اقرأ/ي أيضًا: "أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة
سفيان الفراحتي (مختص في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": العميق في تفشي ظاهرة التدخين الالكتروني هي أنها تخلق عوالم بديلة عن وضعيات اجتماعية سيئة تعيشها الفئات الاجتماعية
أغلب السجائر الإلكترونية الموجودة في تونس وجميع إكسسواراتها مستوردة من الصين
"الترا تونس" اتصل أيضًا بأحد تجار السجائر والشيشة الالكترونية بسوق المنصف باي (وهي سوق تبيع الأجهزة الالكترونية بمختلف أنواعها وأغلبها مهرّب) بالعاصمة تونس، والذي خيّر عدم ذكر اسمه لكنه أوضح أن السجائر والشيشة الالكترونية مأتاها سوق "قوان زو" بالصين وهي تدخل تونس بطرق قانونية ونسبة قليلة فقط مهرّبة، مضيفًا أن السوق الأوروبية نفسها تستورد نفس السلع.
وبيّن التاجر لـ"الترا تونس" أنّ كل الفئات والطبقات الاجتماعية تقبل على هذه البضاعة الالكترونية الجديدة بل وتطلبها بكثافة. وأضاف أنه يبيعها دون أن يراقبه أحد.
التدخين الإلكتروني هو موضة سلوكية
المختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية سفيان الفراحتي أوضح لـ"الترا تونس" أن التدخين الالكتروني هو موضة سلوكية تأتي كتكملة للأناقة في اللباس والحضور وهي كلها من مكونات الشخصية النموذجية للإنسان المعاصر، وتفشيها في المجتمع التونسي يأتي في هذا السياق المعولم.
وأضاف الفراحتي أن العميق في تفشي ظاهرة التدخين الالكتروني هي أنها تخلق عوالم بديلة عن وضعيات اجتماعية سيئة تعيشها الفئات الاجتماعية جراء عدم الاستقرار في أكثر من مجال وما يثبت ذلك هو أن نصف السكان النشطين في بلدنا يدخنون وبذلك تتصدر تونس الترتيب العربي في ارتفاع نسبة التدخين في المجتمع.
الزيوت والنكهات المعدة لتزويد السجائر الإلكترونية تحتكرها مجموعة من التجار ولا تطالها عين الرقيب
الدكتور رامي بن صالح، استشاري الجراحة بالمستشفيات التونسية، توجه إليه "الترا تونس" بمجموعة من الأسئلة تتعلق بتفشي ظاهرة الشيشة الالكترونية في تونس فأكد أن التدخين هو التدخين سواء أكان عاديًا أو إلكترونيًا فهو يقضي على حوالي سبعة آلاف تونسي سنويًا وهذا دليل على خطورته.
وبخصوص التدخين الالكتروني أكد بن صالح أن هذه الأجهزة الجديدة وجدت كبدائل عن السيجارة العادية وكان الأطباء ينصحون بها المدمنين لأنها تحتوي على النيكوتين فقط لكن ما حصل هو تحول هذا الجهاز إلى صناعة تجارية وأصبح المحتوى أو الزيت الخاص بها منكهًا وخارج السيطرة الطبية وبات التلاعب به ممكنًا مما ينعكس سلبًا على الصحة.
رامي بن صالح (استشاري جراحة بالمستشفيات التونسية) لـ"الترا تونس": وزارة الصحة العمومية مطالبة بالحزم والمراقبة وعدم فسح المجال للفوضى في مجال الزيت المعد لأجهزة التدخين الالكتروني
وختم محدثنا قائلًا إن وزارة الصحة العمومية مطالبة بالحزم والمراقبة وعدم فسح المجال للفوضى في مجال الزيت المعد لأجهزة التدخين الالكتروني لأن هذا المجال تحتكره الآن مجموعات من التجار الذين لا هم لهم سوى جني المال وابتزاز المدخنين الجدد المنشدين لعوالم السيجارة الالكترونية.
كما طالب رامي بن صالح الدولة التونسية بضرورة توعية جميع الفئات المجتمعية والشباب خاصة بخطورة التدخين الالكتروني الذي يفسح المجال لأنشطة سرطانية خاصة إذا أضيفت مواد كيميائية للنيكوتين السائل، مشيرًا إلى أن منظمة الصحة العالمية ما انفكت تدعو للتخلص من التدخين تمامًا لكن الدعاية والهاجس التجاري أسهما في تدمير صحة الإنسان.
إن ظاهرة التدخين الالكتروني عملية محفوفة بالمخاطر سواء في مستوى سلامة الأجهزة والسوائل المصنوعة لتتحول إلى دخان أو في مستوى حجم المصاريف التي تفوق في أغلب الأحيان مصاريف التدخين العادي. كما أن سريان هذه الظاهرة في أوساط المدارس ينبئ بخطر ما قد ينعكس سلبًا على المجتمع وبالتالي لا بد من تظافر جهود الجميع من أجل حماية المجتمع من هذا الخطر الداهم.
اقرأ/ي أيضًا: