29-أبريل-2019

لباس تقليدي لا يزال حاضرًا في الذوق اللباسي للمرأة التونسية (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

لطالما تحدث عز الدين عليّة، مصمم الأزياء العالمي تونسي الجنسية والخبير لدى أكبر دور الموضة بأوروبا والولايات المتحدة الذي وفاه الأجل عام 2017 وبكته نجمات عالميات شهيرات مثل ناعومي كامبل وستيفاني سيمور وسندي كراوفورد وفيرونيكا ويب، عن أصالة اللباس التونسي وعمقه الثقافي والحضاري الذي ينهل منه في شغله.

وتحدّث عليّة عن "مريول فضيلة" الذي اعتبره تلخيصًا لأنوثة المرأة التونسية على مرّ قرون من القيافة والخياطة والانفتاح الثقافي والتبادل التجاري والأشغال الحرفية المتعلقة بالأقمشة والألبسة. فهذا اللباس، حسب رأيه، قطعة نادرة الجمال ترفض المغالاة في الأناقة، وهي قطعة للاستهلاك اليومي أيضًا إذ يمكن للمرأة ارتداؤه مع المحافظة على فتنتها وجمال صدرها وعنقها وزنديها وكتفيها.

اعتبر مصمم الأزياء العالمي عز الدين علية "مريول فضيلة" تلخيصًا لأنوثة المرأة التونسية على مرّ قرون من القيافة والخياطة والانفتاح الثقافي

كما اعتبر مصمم الأزياء العالمي "مريول فضيلة" مادة شديدة الإغراء بالنسبة لمصممي الأزياء من أجل الاشتغال عليها وتطويعها وإبقائها متوهجة على الدوام. فهو، بالنسبة إليه، لباس دائم العود بغموضه وسحره لرحاب الموضة في تونس والعالم ودائم الحضور في الوجدان الجمعي وفي الثقافة التونسية بمعناها الإبداعي وكذلك الفلسفي والحضاري.

فما هي أسرار هذا اللباس النسائي التونسي الفريد؟ ومن هي "فضيلة" التي اتخذ القميص اسمها؟ "ألترا تونس" يحاول في هذا التقرير الغوص في قصة "مريول فضيلة" (القميص والصدار) واستكشاف أسراره.

 

نجيب عبد الرزاق (أستاذ الحضارة العربية بالجامعة التونسية): الأسطوري يتدخل ليدعم الحقيقة التاريخية

توجهنا إلى نجيب عبد الرزاق، أستاذ الحضارة العربية بالجامعة التونسية، الذي أوضح منذ البداية أن "مريول فضيلة" ارتبط بقصص شعبية تميل للأسطوري ولعلّ أشهرها قصة أن أحد قادة جيش الاحتلال الفرنسي كان في جولة بجهة "عقلة شارن" بمنطقة الكاف في الشمال الغربي التونسي فانبهر بجمال إحدى الصبايا تُدعى "فضيلة الشارني" وكانت بقدّ ممشوق وصاحبة خال على خدها ينسدل فوقه شعر فاحم. واستتباعًا للحكاية، أرسل هذا القائد الفرنسي جنده لخطف فضيلة غير أنها استبسلت في الدفاع عن شرفها فتركت له ندوبًا على وجهه ولم تجعله يمسها بسوء، وفرّت هاربة وهي ترتدي لباسًا داخليًا مخططًا بالأزرق والبنفسجي كان رائجًا لدى نسوة الجهة آنذاك.

 ارتبط "مريول فضيلة" بقصص شعبية تميل للأسطوري ولعلّ أشهرها قصة محاولة قائد عسكري فرنسي اغتصاب فتاة تونسية في الكاف فقاومت إلى غاية مقتلها ليتحوّل قميصها إلى رمز مقاومة

ويضيف محدثنا أنه، وفق هذه الرواية، أطلق القائد الفرنسي النار بمسدّسه على فضيلة درءًا لفعلته وفضيحته لتهتز لهذه الحادثة المملكة التونسية بأسرها، كما كانت تسمى وقتها، وقد تضامنت معها كل نسوة البلاد في يوم مشهود بأن لبسن كلّهن ذلك اللباس الذي تغدّر بدم الشابة الكافية وتنديدًا بالغدر الفرنسي ومحاولة النيل من الشرف. وعليه ومنذ ذلك الوقت، أصبح يطلق في تونس على اسم هذا النوع من القميص الذي انتشر في كامل البلاد مسمى "مريول فضيلة" نسبة للشابة التونسية التي دافعت عن شرفها.

لكن وفي رواية أخرى، يشير نجيب عبد الرزاق لـ"ألترا تونس" أن البعض يقرن تسمية اللباس باسم الفنانة التونسية "فضيلة ختمي" التي عاشت في بداية القرن العشرين وكانت ذات صوت عذب ينافس صوت حبيبة مسيكة ولويزة التونسية الشهيرتان في ذاك العصر. وكانت فضيلة ختمي تنجز مسرحيات وتسهم في برامج إذاعية شهيرة تعنى بقضايا المرأة إلى جانب ناجية ثامر والسيدة المحرزي، وقد تأثرت بها النساء التونسيات إذ كانت رمزًا بالنسبة إليهن فتأثّرن بلباسها الذي بات يعرف بـ"مريول فضيلة ".

 

الفنانة التونسية فضيلة ختمي التي تنسب إليها إحدى الروايات تسمية "مريول فضيلة"

 

وأوضح الباحث أن الحقيقة العلمية تغيب تمامًا في هذا الموضوع قائلًا: "ليس لدينا حجة على الوقائع المذكورة بخصوص مريول فضيلة لكن يتدخّل هنا الأسطوري ليدعم الحقيقة التاريخية من الداخل ويسندها معنويًا حتى تستمر في الذاكرة الجمعية".

وختم نجيب عبد الرزاق حديثه معنا مؤكدًا بأن جانبًا من التراث التونسي لا يزال مهملًا وغير مؤرخ وفي طريقه الى الاندثار تمامًا بما في ذلك ما تعلّق بمادة اللباس والتغذية والذاكرة الشفوية. وأكد على وجوب التدخل السريع لوزارة الشؤون الثقافية وبكل ثقلها حتى تنقذ تاريخ البلد على اعتبار ذلك من صميم مهامها على حد تعبيره.

آية بن منصور (باحثة في علم الاجتماع): "مريول فضيلة" هو الصوت القوي أمام سطوة الذكورية

آية بن منصور، الباحثة في علم الاجتماع بالجامعة التونسية والناشطة بالمجتمع المدني التونسي والمهتمة بالقضايا النسوية، تعتبر أن "مريول فضيلة" فضلًا عن كونه لباسًا نسويًا محلياً، بات رمزًا لتوحيد المرأة التونسية وتيمة حضارية تلخص الفوارق الجغرافية وتتخفف من الخصوصيات الثقافية الجهوية لتجعل من صوت المرأة صوتًا قويًا أمام سطوة الذكورية، وفق تعبيرها.

آية بن منصور (باحثة في علم الاجتماع): "مريول فضيلة" هو رمز لتوحيد المرأة التونسية وتيمة حضارية تخفف من الخصوصيات الثقافية الجهوية

وفي قراءة سوسيولوجية لرواج هذا اللباس اليوم في ظل المتغيرات العالمية بجميع أبعادها، أشارت بن منصور لـ"ألترا تونس" أن المرأة الشرقية عمومًا تحتاج إلى بناء رصيد معياري يجمع الثقافي بالفكري بالفني ويتحول إلى مرجع للباحثين والمفكرين في الشأن النسوي.

وحول القصص الرائجة حول "مريول فضيلة"، تقول: "يمكن لنا أن نستغل الأسطوري الذي يكتنفها لمزيد الترويج حول قضايا المرأة التي تتطلب تكاثف الجهود ورصّ الصفوف".

دلندة الإمام (مكوّنة في الموضة): "مريول فضيلة" تغلّب على "السفساري" و"الحايك" و"الحولي"

لا يمكن الحديث عن "مريول فضيلة" دون التوجه إلى مختص في مجال الموضة، لذلك توجهنا إلى دلندة الإمام وهي مكوّنة ومدرّبة في هذا المجال. تقول محدثتنا إن هذا اللباس، ومنذ أكثر من قرن من الزمن، لا يزال موجودًا بقوة في أنماط الذوق اللباسي للمرأة التونسية وهو ويحضر أيضًا كتيمة ثقافية تونسية.

وتقول إن التغيرات التي تطرأ على الموضة المحلية أو العالمية لم تهزّ حضور "مريول فضيلة" مشيرة إلى أن الألوان تتناسق وتتمازج في كل حين وتتعصر الحياة بجميع أبعادها غير أن هذا "المريول" التونسي (قميص أو صدار) يطلّ بلونيه الأزرق والبنفسجي وأحيانًا الأخضر والبنفسجي على الذائقة التونسية ليتخذ حضوره بقوة بين آخر مستجدات دور الموضة وتقليعات الديكور وفنون التصميم.

 

صمد "مريول فضيلة" في الذوق اللباسي للمرأة التونسية متأقلمًا مع الموضة العصرية (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

وأضافت أن هذا اللباس يتحوز على عناصر قوة منها ألوانه المتوسطية المخططة عموديًا والتي تزيد من رونق الجسد الذي يرتديه وأيضًا قدرته على الانسجام مع ألوان أخرى ومقترحات عصرية مثل "الدجينس" والجلد الاصطناعي. وأشارت المكوّنة في مجال الموضة أن بقية الألبسة التقليدية التونسية الأخرى مثل "السفساري" و"الحولي" و"الحايك" ورغم عراقتها لم تستطع مباراة هذا اللباس الأشهر على الإطلاق خاصة وأنه دخل مجال الحرف أيضًا.

وأشارت دلندة الإمام في ختام حديثها لـ"ألترا تونس" إلى أن "مريول فضيلة " وباقي رصيد اللباس التقليدي التونسي لا يمتلك متحفًا خاصًا به وهو ما يشكل، وفق تقديرها، خطرًا على المجموعات الأصلية من هذه الألبسة المنتشرة هنا وهناك والتي يملكها خواصًا قد يفرطون فيها في أي لحظة على حد تعبيرها.

يبقى بالنهاية "مريول فضيلة"، الذي ينحاز للجمال في ألوانه وإلى بديع القصّ في أسباب رواجه، أيقونة اللباس النسائي التونسي في أبعاده الجمالية والفنية في الذاكرة الجمعية التونسية وصوتًا ثقافيًا ملهمًا للحراك النسوي في تونس وفي الوطن العربي.