20-ديسمبر-2023
صادقية سوسة قصبة سوسة

وثيقة تاريخية تعود للقرن 19 رأت النور مؤخرًا واطّلع عليها "الترا تونس" باحت عن أسرار عن "صادقية سوسة" أو ما يعرف بـ"قصبة سوسة" (Walter Bibikow/Getty)

 

يلفّ بالمعالم التاريخية الكثير من الغموض حتى تعتقد أن وراء كلّ حجر لغز خفيّ يتطلّب فكّه الكثير من الاجتهاد وقليل من الصدفة والحظّ، هكذا تم فك إحدى الأحجيات المتعلقة بالقصبة الدفاعية التاريخية بسوسة، ذلك المبنى الشامخ في التاريخ والشاهق في العلوّ. 

والقصبة عبارة عن قلعة حصينة تصل مساحتها إلى 7740 مترًا مربعًا، محاطة بالأروقة ويتوسطها فناء شاسع تعلوه منارة "خلف الفتى" التي ترتفع نحو 30 مترًا. وتتموقع في أعلى زاوية من محيط الأسوار الممتدة حول مدينة سوسة.

وثيقة تاريخية تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر تضمّ أبياتًا شعرية تتغنى بقصبة سوسة تلاقفتها عائلة البحري وتوارثها الأبناء عن الأجداد ضمن الأرشيف العائلي وظلت طيّ النسيان لعقود تتوسط إطارًا ومعلّقة بأحد الجدران رأت النور أخيرًا ببادرة من صاحبها مراد البحري فكانت محلّ دراسة علميّة تاريخية من لدن الباحث محمد علي الخرشفي، فباحت الوثيقة عن أسرار كانت غائبة عن المؤرخين والمهتمين بالتأريخ لمعلم قصبة سوسة.

وثيقة تاريخية تعود للقرن 19 رأت النور مؤخرًا ببادرة من صاحبها مراد البحري فكانت محلّ دراسة من لدن الباحث محمد علي الخرشفي وباحت عن أسرار كانت غائبة عن المؤرخين لمعلم "صادقية سوسة" أو ما يعرف بـ"القصبة"

"صادقية سوسة" هو الاسم الذي كان يطلق على ذاك المعلم في الحقبة التاريخية التي كتب فيها الشعر والمذيّل بسنة 1283 هـ/ 1867 م، إذ كتبت الوثيقة بخط مغربي بنّي اللون وتتكون من 12 بيتًا موزونة على بحر البسيط، وهي تتغنى بالحاكم الذي أحدث عمليات ترميم  في القرن 19 على هذا المعلم العسكري الذي شيّد في العهد الأغلبي.

تقول الأبيات الشعرية:

"الصادقيّة حسنه بادي * فردد الطرب فيها أي ترداد

تلقى المحاسن وافتها على قدر* وأقبلت نحوها عن صدق ميعاد

تزهو بها سوسة إذ راق منظرها* كأنها سرمرا حول بغداد

وحلها أسد غيل من عساكرها * تنظمت كيواقيت بأجياد

تصول بالصادق السامي مؤسسها * وغير لها من حصون ذات تعداد

فخر السلالة غرّ لم يول همته * إلا لترتيب أسطول وأجناد

وساس ساحة هذا القطر من سنن* يرويه عن عز آباه وأجداد

حرث يم البحر أو عز طيب عنصره* وأتى الأحاديث عباس وعباد

فالله يوفقه عونًا يستمر له *على تعاقب أحقاب وافاد

حتى يهنأ قريبًا في نظايرها *وغيرها من معال تملأ النادي

وحين تمت على ما شاء راسمها *وحسنها قال هذي دار إسعاد

البال أنشد تاريخًا يصدقه *الصادقية حصن حسنه بادي"

 

صورة
وثيقة تاريخية تعود للقرن 19 رأت النور مؤخرًا وباحت عن أسرار عن "صادقية سوسة" أو ما يعرف بـ"القصبة"

 

التقى "الترا تونس" الباحث محمد علي الخرشفي الذي درس الوثيقة وتناولها بالتدقيق والتحليل فقال: "الوثيقة المدروسة من صنف الأرشيف العائلي، ونعلم أن الأرشيف التونسي موجود في مؤسسة الأرشيف الوطني بتونس العاصمة، لكن بعض العائلات وبعض الأشخاص لا يزال لديهم أرشيفهم الشخصي الضيّق".

الباحث محمد علي الخرشفي لـ"الترا تونس": بالتثبت ومقارنة النص الموجود بالوثيقة التاريخية التي تناولناها بالدراسة بنصّ نقيشة مندثرة كانت موجودة في القصبة اكتشفنا أن المقصود بـ"الصادقية" هو "قصبة سوسة"

وأضاف الخرشفي: "عائلة مراد البحري لا تزال تحتفظ بوثيقتين أرشيفيتين تمكنا من الاطلاع عليهما وأعتقد أنهما مرتبطتين بتاريخ مدينة سوسة"، موضحًا أنّ صاحبهما وجد إشكالًا في قراءة الوثيقتين فمدّه بهما للاطلاع والدراسة، ليتبيّن أن المحتوى العلمي والتاريخي الذي تتضمنه الوثيقتان "مميز جدًا ويكشف عن مؤشرات خاصة بتاريخ مدينة سوسة، لم نجدها في أي مصدر من المصادر التاريخية القديمة"، وفق تصريحه.

 

 

ويقول الباحث محمد علي الخرشفي لـ"الترا تونس": "بمجرد أن تسلّمت الوثيقة، تبيّن لي أنّ المقصود في القصيد بـ"الصادقية" إنما هو في الواقع قصبة المدينة"، مضيفًا: "بالتثبت ومقارنة النص الموجود بالوثيقة بنصّ نقيشة مندثرة كانت موجودة في القصبة كان قد نقلها لنا الفرنسي الكولونيل "هانزو" في بداية القرن العشرين وتحديدًا سنة 1905، اكتشفنا أن الصادقية مقصود بها قصبة سوسة".

 

صورة
لعبت "قصبة سوسة" أدوارًا عسكرية ودفاعية وإدارية كما تحولت إلى سجن في الفترة الاستعمارية (Tuul & Bruno Morandi/ Getty)

 

ويتابع قائلًا: "انطلقنا عندئذ في تحليل المعطيات التي اكتشفنا أنها تخلّد مجموعة من الأشغال وقعت في قصبة مدينة سوسة سنة 1867 م، وهي من أقدم المعالم و يرجع إنشاؤها للفترة الإسلامية (العهد الأغلبي) وكانت قد تعاقبت عليها العديد من الحضارات وتم تطويرها بعد ذلك وزيادة تحصينها خلال العصر الحديث فكانت "القصبة الدخلانية" و"القصبة البرّانية "، وأصبح لدينا أكبر حصن في المدينة وتتالت عليها عمليّات الترميم والإصلاح باعتبارها الحصن الأقوى والأصلب في المدينة".

الباحث محمد علي الخرشفي: مهام قصبة سوسة تجاوزت الخطة العسكرية فكانت تحتوي مقر الحاكم والجند في بداية العصر الحديث.. وخلال الفترة الاستعمارية فقد المعلم صبغته الدفاعية والعسكرية والإدارية وتحوّل لسجن مدني ومقر الجيش الفرنسي في المدينة

"الصادقية" مصطلح مرتبط بمحمد الصادق باشا باي فسمّيت المدرسة باسمه، ويعتبر اسم محمد الصادق باي جديدًا في سياق الحديث عن قصبة سوسة ولم نجد أيّ مصدر سابق يتعلق بمدينة سوسة، وخلال البيت الخامس في القصيد المذكور يذكر أن محمد الصادق باي المؤسس لقصبة سوسة، وهو في الحقيقة ليس مؤسسها وإنما قام بعملية ترميمها لأننا نعلم أن المعلم موجود منذ الفترة الأغلبية".

ويضيف الدكتور الخرشفي: "مهام قصبة سوسة تجاوزت الخطة العسكرية فكانت تحتوي مقر الحاكم والجند في بداية العصر الحديث لينتقل مركز الحكم بعد ذلك إلى دار الباي ودار الشرع غير البعيدين عن هذا المكان، وخلال الفترة الاستعمارية فقد المعلم صبغته الدفاعية والعسكرية والإدارية وتحوّل إلى سجن مدني ومقر الجيش الفرنسي في المدينة".

ويذكر الخرشفي أن "هناك مصادر تثبت أنه تم خلال الفتنة الباشية الحسينية سجن مراد الثالث في قصبة سوسة قبل أن يهرب ويلجأ إلى جبل وسلات لينتقم".

 

صورة
تخطيط القصبة في العهد الأغلبي مغاير لتخطيطها في العصر الحديث (Jose-Fuste RAGA/Getty)

 

ويواصل الخرشفي حديثه لـ"الترا تونس" قائلًا إنّ "قصبة سوسة تغيّر تخطيطها العمراني، فتخطيط القصبة في العهد الأغلبي مغاير لتخطيطها في العصر الحديث لأنها شهدت مجموعة من التحويرات بما يتماشى مع الفترات التاريخية. ونرصد في الوثيقة أن الأشغال شملت مثلًا بابًا تاريخيًا كان موجودًا تظهره بعض البطاقات البريدية القديمة وتبرز زخرفته، لكن تمت إزالة الباب في فترة لاحقة ولربما تزامنت مع إحداث السجن بالقصبة التي تغيرت وظيفتها لتتحول إلى مؤسسة سجنية".

ويكشف لنا محمد علي الخرشفي أن هناك طريقة تأريخ موجودة في أغلب القصائد الموجودة في العصر الحديث وهي الحساب بحساب الجمل، ولنتأكد من صحة الوثيقة وتاريخها وكونها مختومة بالأصل احتسبنا قيمة الحروف العددية لأن كل حرف يحمل قيمة، ولمّا نجمع القيمة الجملية نجدها تساوي 1283 وهو العدد الموافق للسنة الهجرية التي حررت فيها الوثيقة. القيمة الجملية للكلمات تذكر في المصادر بعد تلاوة كلمة تاريخه أو مؤرخ فتحتسب الكلمات التي بعده وهي طريقة متداولة في أغلب القصائد، وفقه.

 

 

وينصح الدكتور محمد علي الخرشفي بكتابة تاريخ مدينة سوسة من خلال وثائق مصدرية موثوقة، مؤكدًا أنّ ذلك ما ساعدهم في بحث الحال على اكتشاف اسم جديد لقصبة مدينة سوسة وهو "صادقيّة سوسة" و قد اعتد بهذه الوثيقة المختصون واعتبروها قيمة مضافة في تأصيل معلم عسكري تاريخي مشهود مما دفع بوزارة الدفاع إلى تبني هذا البحث بعد إحالته على اللجنة الوطنية للتاريخ العسكري ونشر المقال من قبل إدارة التراث والإعلام لوزارة الدفاع في ديسمبر/كانون الأول 2022 ضمن المجلة التونسية للتاريخ العسكري.

مراد البحري (صاحب الوثيقة محلّ الدراسة) لـ"الترا تونس": تحصلت على هذه الوثيقة من ضمن الأرشيف العائلي وبقيت وثيقة مجهولة لا نحمل أي تفسير لها وتعود إلى القرن 13 هـ وهي تؤرخ عملية ترميم معلم القصبة في عهد محمد الصادق باي

أما عن التدخلات وإحداثات الترميم على معلم القصبة في العهد الصادقي، فيبدو أنها "تتعلق بالقسم الشمالي من المعلم ما يتوافق مع ما أشارت له بعض الدراسات الحديثة التي تذكر أنه تم التدخل بالجهة الشمالية بالقرب من الباب الرئيسي للقصبة بعد هدم مدخل حصن صغير الحجم كان موجودًا بهذه المنطقة وتم بناء مقرّ للقيادة العسكرية ومخازن"، وفق ما ذكره الدكتور الخرشفي.

 

صورة
الباحث في التاريخ والآثار محمد علي الخرشفي

 

من جهته، يقول مراد البحري صاحب الوثيقة التاريخية لـ"الترا تونس":"تحصلت على هذه الوثيقة من ضمن الأرشيف العائلي لأسرة البحري وبقيت وثيقة مجهولة لا نحمل أي تفسير لها وتعود إلى القرن 13 هـ وهي تؤرخ عملية ترميم معلم القصبة في عهد محمد الصادق باي، ونظرًا لمعرفتي بالباحثين في المعهد الوطني للتراث وصلتي بالدكتور محمد علي الخرشفي أطلعته عليها ليحلل مضامينها التاريخية وكان لها إضافة مهمة وإنارة على حقبة زمنية حديثة في تاريخ المعلم الذي تحول من ثكنة عسكرية إلى سجن مدني ثم متحف أثري ضخم الأبرز في البلاد التونسية بعد متحف باردو".

مراد البحري (صاحب الوثيقة): الوثائق الأرشيفية العائلية مادة هامة في التأصيل العلمي لتاريخ المعالم القديمة في تونس لذلك أشجع أصحابها على مد المختصين بها نظرًا لأنها تكشف حقائق قد تحقق مكاسب في الدراسات التاريخية

واعتبر مراد البحري أن الوثائق الأرشيفية العائلية مادة هامة في التأصيل العلمي لتاريخ المعالم القديمة في تونس، مشجعًا ماسكيها وأصحابها على مد المختصين بها نظرًا لأنها تكشف حقائق قد تحقق مكاسب في الدراسات التاريخية الوطنية والعالمية.

 

صورة
مراسل "الترا تونس" في مقابلة مع صاحب الوثيقة التي تعود للقرن 19 حول صادقية سوسة