13-سبتمبر-2018

تناولت المحاضرة الجذور التاريخية لتنصيص بعض الدساتير على العلاقة بين الدين والدولة

-الترا تونس - فريق التحرير

 

"دينها الإسلام" هو عنوان المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها أستاذ القانون الدستوري في الجامعة التونسية قيس سعيد بمناسبة افتتاح الموسم الدراسي 2018/2019 في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، وذلك يوم الأربعاء 12 سبتمبر/أيلول 2018. وعنوان هذه المحاضرة هو جزء من الفصل الأول من الدستور التونسي ونصّه " تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل"، وهو الفصل الوحيد الذي تم الاحتفاظ به من دستور 1959.

حافظ الدستور التونسي بعد الثورة على الفصل الأول من دستور 1959 ونصّه أن "تونس دولة حرة مستقلة... الإسلام دينها" وذلك فيما يتعلّق بالعلاقة بين الدولة والدين

وتأتي هذه المحاضرة لتتناول مبحثًا دائمًا ما يسيل الكثير من الحبر في مجال الأكاديميا وغيره من المجالات، ولكن أيضًا يثير الكثير من الجدل في تونس وفي البلاد العربية وغيرها، إنه مبحث العلاقة بين الدين والدولة. وهو ملف لم ينته الأخذ والردّ بشأنه في تونس بإصدار دستور 2014، إذ عاد للواجهة بقوّة مؤخرًا على وقع التجاذبات حول إرساء المحكمة الدستورية التي ستؤول أحكام دستور "حمّال أوجه" كما يصفه مختصون، وكذا وبالخصوص على وقع الجدل الذي أثاره تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة وما تبعه من تجاذبات وتباين وجهات النظر في الساحة الأكاديمية والسياسية حول تحديد العلاقة بين الدين والدولة في تونس وضبط أطرها.

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيّد في كلمة بمناسبة تقاعده: "تركت والداي على فراش الموت وذهبت لطلبتي"

"الترا تونس" انطلاقًا من سعيه الدائم للمساهمة في مختلف القضايا والمواضيع المطروحة في تونس عبر مواد متميّزة تليق بقرّائه سواء من المتخصّصين أو غير المتخصّصين، وبهدف الدفع نحو تعميق الحوار وتبادل الأراء، واكب هذه المحاضرة، التي تعمّقت في الحفر التاريخي للعلاقة بين الدين والدولة، ويقدّم لكم عرضًا حولها كما قرأها صاحبها:

 


- المحاضرة عنوانها "الإسلام دينها" والأمر يتعلق بالضمير ولم أذكر تونس لأنني سوف لن أتحدث عن تونس بل عن قضية الإسلام والدين في الدستور التونسي وفي غير الدستور التونسي انطلاقًا من هذا الضمير.

- قد يتصل الضمير وقد ينفصل، وقد يسخو أو على العكس يضمر أو يضمحل، كما يظهر أحيانًا وأحيانًا يستتر. له عند البعض وخز وليس له عند الكثيرين حضور أو قليل من أثر. هو مرّة حرف أو حروف، وهو قليل من شعور أو شعور مستعر. قد يكون مفردًا وقد يكون جمعًا، يمكن أن يُذكّر أو يؤنث أو يثنّى.. له في قواعد النحو وظائف وله عند الفراهيدي أو سيبويه وظائف أو دلائل ولكن في فقه القانون لكل واحد مضافه يجرّه إلى حيث أراد وأشاء وكلّ يدعي النصر والفتح والظفر والرأي المخالف عنده افتراء وادعاء من مفتر ومن كذاب أشرّ.

- يتبنى كل فريق ما ظهر له وما بدا، يتبنى تأويلًا ويرى في التأويل المقابل رهقًا وشططا. فتختلط الضمائر بالضمائر ليجرّ الضمير صاحبه إلى ضمير يجد فيه ملجأ وملتحدًا بل وتُحدث قواعد جديدة في النحو وترتّب عليها آثار في القانون. ولا يقبل من تبنى قراءة لها تغييرًا ولا بدلًا، وتكون النصوص وقواعد التأويل في القانون واللغة تنتحر أسفًا وكمدا. فلكل امرء في دهره، في تونس وغير تونس، ما ألف وما كان قد تعودا.

لن أتحدث عن تونس في المحاضرة بل عن قضية الإسلام والدين في الدستور التونسي وفي غير الدستور التونسي

- لا يتعلق الحديث في هذه المحاضرة بتونس فقط وإن كان العنوان هو جزء من الفصل الأول من دستورها، وهو فصل لا نظير له ولا شبيه له في سائر الدساتير في البلاد العربية الإسلامية. واختيار العنوان هو يهدف للحديث عن الدين والدولة في تونس، وفي نفس الوقت عن النصوص الدستورية الأخرى لأن العلاقة بين الدولة والأديان لا تزال محكومة بقانون التدلي بين الأرض والسماء.

- من غير اليسير الإحاطة بكل الجوانب ومختلف التجارب، فهي عديدة ومتنوعة ومختلفة ولكل تجربة أو لكل مثال خصائص يتميز بها عن سائر التجارب والأمثلة الأخرى. ولكن دراسة بعضها يمكن أن تتيح تفكيك بعض الرموز وكشف عدد من الحقائق وفتح مجالات أرحب لمقاربات جديدة غير تلك التي صارت مألوفة على مر الأحقاب وتعاقب القرون.

- يحفل تاريخ الإنسانية بكثير من الأمثلة عمّا يُتعارف عليه اليوم بدين الدولة من مصر القديمة إلى المدن الإغريقية إلى الصين إلى فارس إلى روما. حيث أعلن الامبراطور الروماني سنة 392 ميلادي أن المسيحية هي دين الدولة. وأكثر من ذلك، كانت قصور الأباطرة والملوك تتخذ شكل معابد لأنهم يعتبرون أنفسهم سدنة الآلهة التي يعبدون. لكن لفظ الدولة لم يكن يفيد المعاني التي نشير إليها اليوم رغم أن مستوى العلاقة بين الدين والدولة لم يختلف كثيرًا.

- كثيرة هي الدول اليوم التي تعترف في نصوصها بدين أو أديان محددة ولو اختلفت الصيغ وأشكال الاعتراف. فمن تنصيص صريح عن دين رسمي للدولة لاشتراط اعتناق الملك أو الأمير أو الرئيس لدين أو حتى مذهب ديني أو اعتبار الدين عنصر من عناصر هوية الدولة كما يعترف مثلًا الدستور المجري الصادر سنة 2011 في توطئته بدور المسيحية من أجل الحفاظ على الأمة.

 يحفل تاريخ الإنسانية بكثير من الأمثلة عمّا يُتعارف عليه اليوم بدين الدولة من مصر القديمة إلى المدن الإغريقية إلى الصين إلى فارس إلى روما ولكن لفظ الدولة لم يكن يفيد المعاني التي نشير إليها اليوم

- ومن الأمثلة سيئة الذكر في هذا الإطار ولكن لا مناص من ذكرها، القانون الذي صادق عليه الكنسيت الصهيوني في 19 من جويلية/يوليو الماضي فدولة الاحتلال التي تسمّى "إسرائيل" كما ورد في باب المبادئ الأساسية لهذا القانون هي دولة قومية للشعب اليهودي وفيها يمارس حقه الطبيعي والثقافي والديني لتقرير المصير وممارسة حق تقرير المصير، كما ورد في الفقرة ج من الفصل 1، حصرية للشعب اليهودي.

- وعلى النقيض من ذلك، نصت دول أخرى على فصل واضح بين الدين والدولة. وأول دولة أقرت مثل هذا الاختيار هي المكسيك بمقتضى قانون يعود وضعه لسنة 1859 بعد أن كان دستورها التي وضعته قبل هذا التاريخ بسنتين أقر حرية التعليم وهو ما أدى برئيس الأساقفة في مكسيكو إلى اعتبار كل من يؤدي اليمين بناء على هذا الدستور خارجًا عن الديانة المسيحية.

- وفي نفس هذا الإطار، لا بد للإشارة للقانون الفرنسي المؤرخ في 9 ديسمبر/كانون الأول 1905 المتعلق بالفصل بين الكنائس والدولة والذي أقر عدم مساهمة الدولة في النفقات على الشعائر الدينية. ولكن الوضع لم يكن كذلك في مستعمراتها. ففي سنة 1925، أقامت السلطات الفرنسية بتونس تمثالًا للكاردينال لافيجري يمسك صليبًا قبالة جامع الزيتونة الذي كان يُسمى نهج الكنيسة. وقد علق أحد الصحفيين بعد نصب التمثال ساخرًا، "يا حبذا لو مبتكري نصيب هذا التمثال يعمومنها فينصبون التماثيل قبالة كل حارة إسلامية شاهرين علينا صلبانهم وكتبهم حتى يكتشف للعيان أن الفرنسيين أتونا لبث الدين لا للترقية والتمدين". ثم لم تتوان السلطات الفرنسية بعد 5 سنوات في تنظيم المؤتمر الأفخارستي في ضاحية قرطاج.

أول دولة أقرت فصلًا واضحًا بين الدين والدولة هي المكسيك بمقتضى قانون صدر سنة 1859 وأقرت فرنسا سنة 1905 قانونًا ينص على عدم مساهمة الدولة في النفقات على الشعائر الدينية

- بعد الاستقلال، طُرحت في تونس مسألة دين الدولة في إطار إعداد الدستور. وبعد نقاش وجدل طويلين، انتهى أعضاء المجلس القومي التأسيسي للاتفاق على الصيغة التي تم إقرارها في قراءات ثلاثة وهي أن تونس دولة دينها الإسلام، علمًا وأن هذه الصيغة وردت في إحدى مشاريع توطئة الدستور قبل إعلان الجمهورية ويبدو على الأرجح حسب شهادة أحد أعضاء المجلس أن الذي اقترح هذه الصيغة هو المقرر العام للدستور الأستاذ علي بلهوان. وجدير بالذكر وفق وثائق لجان المجلس القومي التأسيسي قبل إعلان الجمهورية أيضًا اقتراح تقدم به الرئيس الحبيب بورقيبة يتعلق بالفصلين 2 و3 من مشروع الدستور. فأما المادة 2 وفق المقترح ورد فيها أن "الشعب التونسي صاحب السيادة.."، وأما المادة 3 نصت، وفق صياغة بورقيبة وبخطّه والوثيقة موجودة اليوم في باردو، أن "الإسلام دين الدولة والعربية لغتها. والدولة تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون" ثم اقترح بورقيبة تغيير ترتيب المادتين لتكون المادة المتعلقة بالدين هي الثانية والمادة المتعلقة بالسيادة هي التالية.

- حافظ دستور 2014 على الفصل 1 من دستور 1959، وقد جاء في التقرير العام للدستور المؤرخ في 24 جانفي/كانون الثاني 2013 في فقرة المبادئ العامة أنه "بتوافق وطني واضح وبمبادرة تاريخية، تم الاتفاق على الاحتفاظ على الفصل 1 من دستور 1959". ولكن أضيفت لهذا الفصل فقرة ثانية تنص على منع تعديله.

- المجالس بالأمانات ولكن الله وحده يعلم الدور الذي قمته من أجل الاقناع بضرورة الإبقاء على الفصل 1 من دستور 1959 في دستور 2014.

- المجلس الوطني التأسيسي أراد وضع حد لهذا الحكم المتعلق بدين الدولة وأن يحسم مسألة المضاف والمضاف إليه، والتأويل الذي يتبناه البعض بأن الضمير المتصل لا يتصل بالدولة وإنما بتونس، وأن الأمر لا يتجاوز مرتبة الإقرار بوضع اجتماعي دون ترتيب أي نتائج قانونية عليه.

- سيتواصل للأسف تراقص الضمائر لأن الضمير الحقيقي في هذا السجال والصراع هو ضمير متخف ومستتر.

- لم يكن لفظ الدولة لما صار يشير إليه اليوم من معاني، فالدولة لغة لدى صاحب محيط المحيط هي انقلاب الزمان والثروة العاقبة خلفا عن زمن، دالت الأيام أي دارت وتعاقب، وداول الله الأيام عاقبها بين الناس، والدول انقلاب الدهر من حال إلى حال. وقال الجوهري الدولة في الحرب هي إن تداول أحد الفئتين على أخرى ويُقال كانت علينا عليهم دولة وجمعها دول. والدُولة بالضم في المال والدّولة بالفتح في الحرب وقد وردا هذان المعنيان في القرآن الكريم.

أقرّ المجلس القومي التأسيسي في تونس سنة 1959  أن تونس دولة دينها الإسلام وقد قدم الرئيس الحبيب بورقيبة مقترحًا بذات المعنى وقد حافظ دستور 2014 على نفس الصياغة مع إضافة فقرة جديدة تنصّ على عدم جواز تعديل الفصل

- بقي عنصر الزمن هو المسيطر في تعريف الدولة كلفظ وكمفهوم على غرار ما ورد في مقدمة ابن خلدون، ولا أدل على ذلك أيضًا كالألقاب التي حملها الملوك كسيف الدولة وغيرها.

- لم تُعرف الدولة بمفهومها الحالي إلا في منتصف القرن 19 فصارت تشير إلى مؤسسة أو نواة مؤسسة نتيجة لعوامل خارجية أكثر من تطور داخلي لمفهوم السلطة في الداخل. فاختلط عنصر المؤسسة أو نواتها بعنصر المرحلة الزمن فصار يُشار إلى دولة المشير أو إلى دولة الباي كما عند ابن أبي ضياف، وفي نفس الوقت إلى قانون الدولة الذي يُعرف بدستور 1861، أو إلى قانون الوزارة الكبرى قبله سنة 1860 الذي أشار لمداخيل الدولة ومصاريفها.

- لا يتيح المجال للحديث عن ظهور فكر الدولة كمفهوم ومؤسسة في الفكر الغربي، وهي كشخصية مستقلة عن أشخاص الحكام. ولكن لا بد من التأكيد على أنها فكرة ثم هي مؤسسة قانونية قائمة الذات من قبيل التصور والخيال فلم يجلس أحد مع الدولة بتعبير أحد الفقهاء على مائدة الغداء. فكيف لهذه الذات المعنوية أن تكون لها عقيدة وأن تدين بدين من الأديان؟ هل توجد بهذا المفهوم الحديث للدولة دول تطوف بالبيت الحرام أو تسعى بين الصفا والمروى أو تتطهّر أو تصوم؟ هل يوجد يوم حشر للدول فيدخل بعضها للجنة ويُدخل بعضها الآخر للنار بعد أن تمر كل دولة على الصراط؟ هل توجد ذات معنوية قانونية أعلنت توبتها أو غسلت حوبتها أو على العكس أعلنت ردّتها وغيرت ملتها أو كشفت عورتها؟

- لا شك أن أعوار الدول وسياستها كثيرة ولكن لا شك أن أعوار المفاهيم الفكرية على وجه العموم كثيرة أيضًا، لأن بعض المفاهيم قادمة من وراء الصحاري ومن وراء البحار، تُستقبل كأي بضاعة أجنبية من دور العطور أو من أشهر دور الأزياء فيكفي ذكر مصدرها حتى لا يطالها نقد أو حتى قليل من نقاش.

- لم ترد في النصوص التي يمكن وصفها بالدستورية إلى حدود منتصف القرن 19 أي إشارة إلى الدولة أو إلى معتقدها أو إلى دينها، فالأمر محسوم في البلاد الإسلامية لا يحتاج مبدأ قانوني يحميه أو إجراء يوضحه ويجريه.

لم تُعرف الدولة بمفهومها الحالي إلا في منتصف القرن 19 فصارت تشير إلى مؤسسة أو نواة مؤسسة نتيجة لعوامل خارجية أكثر من تطور داخلي لمفهوم السلطة في الداخل

-  يبدو أن التاريخ العربي الإسلامي لم يحفظ أي إشارة للعلاقة بين الدين والدولة إلى حدود القرن 19 إلا في مؤلفين إثنين. فأما الأول فهو "الدين والدولة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليم وسلم" وهو من تأليف علي بن ربن الطبري وقد ساعده في تأليفه الخليفة العباسي، كما ورد في المقدمة، المتوكل على الله. أما المؤلف الثاني فهو لأبي الريحان البيروني الذي وضع مؤلفه تحت عنوان "الصيدلة في الطب" وقد ورد في الفصل 5 منه أن الدين والدولة عربيان يرفرف على أحدهما القوة الإلهية وعلى الآخر القوة السماوية.

- لم تُطرح قضية دين الدولة عند إجراء الإصلاحات في ظل الخلافة العثمانية تحت مسمى التنظيمات الخيرية الذي يعود وضعها لسنة 1839. وقد ورد فيها كما رُويت في باردو أنه من الواضح والجلي أن الممالك التي لا تدار بالقوانين الشرعية ليس لها بقاء. ولا يختلف الحال في تونس فعهد الأمان الصادر سنة 1857 جاء بأمانات أربعة دون أن تُطرح مسألة الدولة والدين بل إنه جاء فيه "إذا اعتبرت مصلحة فهو يشهد بها الشرع لأن الشريعة جاءت بإخراج المكلف من داعية الهوى...".

- أول دستور في البلاد العربية الإسلامية نص على علاقة الدولة والدين هو الدستور العثماني الصادر سنة 1876 فقد نصت المادة 11 أن دين الدولة العثمانية هو دين الإسلام مع المحافظة على هذا الأساس تكون جميع الأديان المعروفة مصونة في البلاد العثمانية.. وتكون تحت حماية الدولة ما لم تمس من الأخلاق. ونصت المادة الرابعة من هذا الدستور أن حضرة السلطان هو الحامي لدين الله.

- غريب أن ينص على دين الدولة في دستور لدولة الخلافة فهل لأن خليفة المسلمين يحتاج لمثل هذا الحكم في نص الدستور وهو يستمد وجوده ومركزه من الدين أو من أحكام الدين؟ هل يمكن أن يكون لدولة الخلافة الإسلامية دين غير دين الإسلام؟ لا يبدو أن هذه الفقرة الأولى من هذا الحكم هي الغاية بل إن الفقرة الثانية المتعلقة بحماية وصيانة الأديان المعروفة هي المقصد والهدف. لقد استوحى الصدر الأعظم مدحت باشا المعروف بأب الدستور العثماني وخالع السلاطين وضع الدستور من الدستور البلجيكي على وجه الخصوص ولكن هل يجوز التقليد أو الاستيحاء والأمر يتعلق بدينين مختلفين وخلافات جوهرية بين المسيحية والإسلام في مستوى العلاقة بين الدولة والدين. لا يمكن تقديم جواب جازم ووحيد فالأحداث أثناء إعداد الدستور وبعده كفيلة بتقديم جواب بل أكثر من جواب بالرغم من تواصل السجال حول هذه الحقبة التاريخية بعد مرور قرن ونصف قرن من الزمن.

 أول دستور في البلاد العربية الإسلامية نص على علاقة الدولة والدين هو الدستور العثماني الصادر سنة 1876 وهو جاء بدفع من الصدر الأعظم مدحت باشا وهو من أصول يهودية

- ليس من اليسير الإحاطة بجوانب حياة كل من تقلد منصب الصدر الأعظم ولكن من غير العسير في المقابل الحديث عن علاقات مدحت باشا في ذلك الوقت ببريطانيا وبوزيرها الأول آنذاك على وجه الخصوص. كما لا يوجد اختلاف عند المؤرخين للأصول اليهودية للصدر الأعظم لدولة الخلافة الإسلامية، الأمر لا يتعلق بشهادة من هذا الطرف أو من طرف يعارض الطرف الأول بل بشهادة من صحيفة "نيويورك تايمز" صادرة بتاريخ 31 أوت/أغسطس سنة 1877 التي قدمت مدحت باشا كأحد قادة "تركيا الفتاة" موضحة أنه يهودي بلغاري أعلن اعتناقه الإسلام بحثًا عن الثروة وأن والدته بنت لإحدى الزعامات الألبان من طبقة النبلاء الذي يُعرفون بذوي الدم الأزرق. وبقطع النظر عن المنشأ والأصل، قضت إحدى المحاكم العثمانية على مدحت باشا ورفاقه بالإعدام بتهمة الضلوع في اغتيال السلطان عبد العزيز قبل أن يقع تغيير الحكم للسجن المؤبد بعد تدخل دول أوروبية وقبل أن يتم نفيه إلى الطائف ليوجد بعد مدة مقتولًا بالسجن الذي أودع فيه.

- أعيد العمل بنفس الدستور سنة 1908 قبل أن يتم عزل السلطان عبد الحميد الثاني في السنة الموالية ووضعه تحت الإقامة الجبرية إلى حين وفاته. وقد وجدت الدول العربية في هذا الدستور العثماني المعروف بـ"المشروطة" مصدرًا للالهام لعدد من الأحكام والاستئناس بها. وقد نص مثلًا مشروع الدستور المغربي سنة 1908 أن دين الدولة الشريفة هو الدين الإسلامي وأن المذهب الشرعي هو المذهب المالكي.

- ما أكثر الضمائر عند النحويين وما أكثرها حين تظهر أو حين تتواري أحيانًا آخرى، وحينما يتولّى إعرابها بعض الساسة فلغة الإعراب كما قال أحمد المطر نصب وارتفاع وانخفاض وسكون صامت في كل باب. ففي علاقة الدين بالدولة، ضمير لكنه ليس بالضمير الظاهر بل هو ضمير ماكر ثم أيضًا ضمير ساتر لأن من وضعوه مصرّون على التستّر والاختفاء ولأن لغة الإعراب دائمًا هكذا عند الساسة والسياسيين.

- حينما قام الفقهاء ورجال الإصلاح بوضع مشاريع دساتير دون تدخل من الخارج، لم يتعرض أصحاب هذه المشاريع لعلاقة الدولة بالدين لأن الأمر محسوم ولا يحتاج لتقنين أو تكريس. ومن بين الأمثلة الجديرة بالذكر مشروعان لدستورين اثنين في المغرب الأقصى أحدها للحاج علي زنيبر من مدينة سلا والآخر للشيخ عبد الكريم مراد وهو من أصل سوري استقر في مدينة فاس.

- ولكن حين تتدخل قوى من الخارج، تنقلب الأوضاع. ومن الأمثلة ما عرفته إيران بداية القرن 20 من ثورة دستورية ولم يطلب الإيرانيون حينها إلا انشاء دار للعدالة "عدالة خان" لوضع حد لظلم الشاه وتجاوزات أعوانه ولكن الأحداث تطورت بسرعة وعادت المواجهات في الشارع، فالتجأ عدد من سكان البزار إلى المدينة المقدسة قم واتجه عدد آخر يقدّر بنحو 50 ألف شخص لمقر السفارة البريطانية طلبًا لدعم لمطالبهم. وتنقل مذكرات الشهرستاني أن زوجة السفير البريطاني قالت للمتظاهرين أن مطالبهم يجب أن تكون الحرية والمساواة والشورى، فاستطاعت أن تحدث فيهم التأثير المطلوب. وحصل اعتصام في مدينة كربلاء وكان يساعدهم من كان يتولى يومئذ وظيفة نائب القنصل البريطاني في المدينة العراقية واستمر هذا الاعتصام لأكثر من 50 يومًا. في ظل هذه الظروف، وضع المجلس الملي دستورًا سنة 1907 استلهمه أيضًا من الدستور البجيكي ورد في مادته الأولى أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام ومذهبها هو المذهب الجعفري الإثني عشري ويجب على الشاه أن يقرّ هذا المذهب ويحميه. وحسب أحد المؤرخين في إحدى المجلات الفرنسية، فهذا الدستور لم يكن من وضع المجلس الملي بل من وضع الفرع الماسوني في إيران "يقظة إيران" وكانت الوسائل التي التجأ إليها هذا الفرع باعتراف أحد أفراده هو دعم رجال الدين للحد من تأثيرهم تمهيدًا لنشر الفكر الذي يصفونه باللانساني وتمهيدًا خاصة لبث الفكر اللائكي. لم تكن هذه الفترة غائبة لدى من أعدوا الدستور الإيراني الحالي الذي أقر أن نظام الجمهورية الإسلامية يرتكز على الإيمان بالله الواحد الأحد واختصاصه بالحاكمية والتشريع وضرورة التسليم بأمره.

عرفت إيران ثورة دستورية بداية القرن 20 وقد وضع المجلس الملي دستورًا سنة 1907 ينص على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام وذلك استلهامًا من الدستور البلجيكي

- أما في تركيا، تم وضع دستور جديد ثم دستور آخر سنة 1924 ليتم التنصيص على أن الإسلام هو دين الدولة قبل التنصيص في مرحلة ثالثة على أن الجمهورية التركية هي دولة علمانية. ومن بين الشروط التي فرضتها بريطانيا على الجانب التركي حين مفاوضات لوزان هو الفصل بين الدين والدولة.

- لا يتوقف الأمر عند تمويت الرجل المريض بل كذلك بالأوضاع المستجدة عند الإطاحة بروسيا القيصرية وانتصار الثورة البلشفية، فكان التنصيص على دين الدولة كجدار ساتر أمام انتشار هذا الفكر الشيوعي الجديد.

- كتب طه حسين وهو بعيد عن مصر في كتابه "من بعيد" عندما اطلع على الدستور المصري لسنة 1923 والذي تم التنصيص فيه أن الإسلام هو دين الدولة. كتب قائلًا "نعم أن دستورنا المصري نص صراحة على أن الإسلام دين الدولة وكان هذا النص مصدر فرقة لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين من أهل مصر، فقد رضيت الفئة المسيحية وغير المسيحية هذا النص ولم تحاور فيه ولم تر فيه عن نفسها مضاضة أو خطر. ولكن نقول إنه كان مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم فهم لم يفهموه على وجه واحد ولم يتفقوا على النتائج التي يجب أن تُرتّب عليه".

- طه حسين ولأنه كان بعيدًا عن مصر فهو لم يكن يعلم بأن هذا النص تم إدراجه في الدستور المصري المذكور إثر تدخل من المندوب السامي البريطاني لدى مفتي الديار المصرية بخيت المطيعي وليس من الصدفة أن يكون ترتيب هذا الفصل في النص النهائي للدستور هو الفصل 149 الذي جاء فيه "دين الدولة الإسلام واللغة العربية لغتها" في حين جرت العادة أن يتم التنصيص في أغلب الدساتير على هذه الأحكام في المواد الأولى منها. لم يكن المندوب السامي البريطاني النبي داعية إسلامية ولم يكن حريصًا على الإسلام أكثر من شيوخ الأزهر وأكثر من أعضاء الهيئة التأسيسية ولكن الإسلام عندهم كان يمكن أن يكون جدارًا أمام انتشار الفكر الماركسي ليس في مصر بل في سائر البلاد الإسلامي.

جاء التنصيص في الدستور المصري لسنة 1923 على أن الإسلام هو دين الدولة بضغط من المندوب البريطاني على مفتي الديار المصرية المطيعي باعتبار أن الإسلام لدى بريطانيا ليس إلا جدار صدّ أمام الماركسية

- صدر منشور سرّي في مصر عثرت عليه صدفة، والأمر يتعلق بوثائق تم تجميعها منذ أكثر من عقدين. هي رسالة موجهة إلى المصريين إثر إدراج الحكم الدستوري المذكور استهله صاحبه بقوله "خدعوك يا بخيت فزغت عن الصواب لخدمة الأنقليز وكذبت على الحق وظلمت العدل فأفتيت عن غير علم وافتريت على الدين يوم استفتاك ألنبي في ثوب السيد حسن الذي تجرأ وفسق فوصف البلشفية بغير الحقيقة مرضاة للأنجليز أعداء الإنسانية والعدل". وكان منطلق هذا المنشور هو رسالة وجهتها المخابرات البريطانية إلى الشيخ بخيت المطيعي باسم شخص وهمي من الهند يُدعى حسن هكذا حتى يوضّح الأزهر موقفه من الثورة البلشفية ثم ليدعوه المندوب البريطاني للتنصيص في الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة.

- الدولة الوحيدة التي اقتصرت دساتيرها أو مشاريع دساتيرها على اشتراط الإسلام لا كدين للدولة ولكن كدين لرئيس الدولة هي سوريا، وذلك رغم الجدل سنوات العشرينيات حول هذه المسألة. وذلك أيضًا بالرغم أن المندوب السامي الفرنسي طالب المجلس التأسيسي بإدراج هذا الحكم في نص الدستور، فقد طالب كذلك أعضاء المجلس بتحية العلم الفرنسي قبل دخول مقر المجلس وهو ما رفضوه ليقع استجلاب الفيلق السينغالي وتعرف سوريا ليالي دامية وقتها.

- تدخلت إيطاليا وبريطانيا من أجل أن ينص الدستور الصومالي على أن الإسلام هو دين الدولة.

- أستلهم من أحمد مطر، إذ الدساتير سُألت بأي حبر كتبت لانتفضت فصولها وصرخت بنودها بحبر مستورد من عواصم غربية.

- إن الإسلام لا يمكن أن يكون إلا دين الأمة وليس دين الدولة بالرغم من كل المحاولات لحصر الأمة داخل حدود الدولة في الفكر السياسي الغربي. ولا أدل على ذلك من تسمية بعض المنظمات الدولية كعصبة الأمم أو منظمة الأمم المتحدة التي لا تتركب إلا من الدول.

- سواء اعترف الفقهاء بالشخصية القانونية للأمة أو أنكروها، فإن الدين لا يمكن أن يكون موجًها إلا لجماعة من البشر.

تسجيل المحاضرة على قناة الأستاذ عبد المجيد الزروقي على اليوتيوب

 

اقرأ/ي أيضًا:

لتنقيح مجلة الأحوال الشخصية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة

لتنقيح المجلة الجزائية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة