22-مايو-2020

وفد العديد من المتبرعين بالألبسة والأحذية والحلويات على قرية "س و س" أكودة (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

 

لست اليوم في قرية ككلّ القرى. أرى هناك أطفالًا يهرولون نحو المنازل، يقفون مشدوهين إلى زائر غريب.. تقدّمت قليلًا نحو هذا الزقاق الذي تترامى على جنباته الورود وعلى اليمين واليسار منازل حديثة على هندسة "الفيلات". كلما توغلت في الزقاق، أطلّ عليّ من الشباك طفل يلمحني بدهشة، تنظر إليه فيرمقك بابتسامة جافّة ملؤها الحيرة. في هذه القرية لا ترى شابًا أو كهلًا بل الأطفال أمراؤها. وتتناهى إلى مسامعك أحيانًا صيحة رضيع لعلّه يطلب حليبًا من صدر أمّ.

ما هي إلا خطوات في هذا الحيّ الهادئ إلا وتجد نفسك أمام صغيرين أطلاّ من النافذة وتسمع حشرجة وضحكات متقطّعة وتسمع كلمة " يا عمّي.. من أنت؟".

اقرأ/ي أيضًا: الختان في تونس... أصول وتقاليد

في هذه القرية لا ترى شابًا أو كهلًا بل الأطفال أمراؤها (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

التفتّ إلى طفلة صغيرة في الثامنة من عمرها، وجدتها مبتسمة، وفجأة لفني طفل في العاشرة بذراعه مرحّبًا ثم تفرّس في وجهي. وما إن رفعت رأسي حتى أطلت عليّ امرأة وقد وقفت أمام باب المنزل وقد بادرت بالترحاب بي وقالت "مرحبًا بك في قريتنا بين أبنائي.. لعلكم جئتم لتكتشفوا عائلتي التي أحب".

لم تصمت المرأة للحظة وكأنها قد تعوّدت على زيارة أغراب مثلي لهذه القرية وواصلت قولها "هذه ابنتي الأولى وهذا ولدي الذي احتضنته بعد شهرين من الأولى، وهذه طفلتي الثالثة الهادئة وذاك ابني الرابع المشاغب". بين هؤلاء الأطفال، وأمام هذا المنزل، في قرية "SOS" أكودة من محافظة سوسة، كنا نعيش لحظات ذات طابع مختلف، فلا يكفي أننا في شهر رمضان بل كذلك في ظروف صحية خاصة، تحيط بنا مخاطر جائحة الكورونا وتفصلنا عن العيد بضع ساعات. هنا نرى الحركة على غير المألوف. مزيج من المشاعر وأعاصير من الأحاسيس تهزنا نحو هؤلاء الأطفال الذين يعيشون هنا، ودافع لأن نكتشف بعضًا من هذه البيئة الاجتماعية والنفسية والمعيشية.

أحلام (أم بقرية "س و س" أكودة) لـ"ألترا تونس": رغم أن عيد الفطر هذه السنة سيكون مختلفًا نظرًا لظروف الحجر الصحي فسنحافظ على الاحتفال هنا في قريتنا الصغيرة

"أحلام" (اسم مستعار)، إحدى الأمهات، وقفت أمامنا مبتسمة تروي لنا قصة هؤلاء الأطفال التي ضمتهم تحت جناحها ترعاهم بما وهبها الله من حكمة وصبر وحنان فطريّ، قائلة "منذ فيفري/ شباط 2010، كان أول قدومنا إلى هذا الحي. وكان هذا الحي يضم 14 أمًا و6 خالات حسب النظام العائلي لهذه القرية، بقيت لشهر كامل لوحدي في هذا المنزل ثم استقبلت أول طفلة، وبعد يوم واحد جاءني الابن الثاني".

وتضيف محدثتنا "بعد فترة قليلة، التأمت لدي هذه العائلة الصغيرة المتكونة من 6 أطفال.. وقد غادرني من قبل ثلاثة أبناء نحو عائلاتهم الطبيعية وقد حزنت كثيرًا لفراقهم. ولن أخفيكم أني أتعلق بأبنائي بشدة ولو أن ذلك غير محمود حسب الخبراء النفسيين".

صمتت أحلام قليلًا ثم قالت " ؤلاء أبنائي الذين تعلقت بهم بشدّة، ها أنا اليوم أستعدّ معهم لاستقبال عيد الفطر، سعادتي من سعادتهم، ابنتي الصغرى ذات الخمس سنوات تنتظر معي بفارغ الصبر إطلالة صباح العيد لترتدي أجمل ثيابها. ورغم أن عيد الفطر هذه السنة سيكون مختلفًا نظرا لظروف الحجر الصحي، فسنكون محتفلين هنا في قريتنا الصغيرة التي تضم أربعة عشرة بيتًا".

يقف الأطفال مشدوهين إلى زائر غريب (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

كانت أحلام متقطّعة الأفكار، تريد قول كلّ شيء ولكن يثنيها لسانها عن النطق بأي شيء، بل هي تعبّر عن أحاسيسها تجاه أطفالها الذين ترعاهم قائلة "أودّ أن أراهم متفوّقين في دراستهم وأحاول بشتى السبل مرافقتهم دراسيًا وأملي أن أراهم من الأوائل".

ولم تخف أحلام دور إدارة القرية في التسيير الجيد خاصة خلال فترة الحجر الصحي لضرورة عدم مغادرة القرية من أي العملة فيها سواء مربين أو أخصائيين، مضيفة "اتخذنا كافة إجراءات الوقاية وحاولنا توعية الأطفال بكافة الأساليب التربوية المعتمدة وعزلناهم على العالم الخارجي بالكامل".

محمد يسري ضيف الله (مدير قرية "س و س" أكودة): نحن نوفر للأطفال مقومات المنزل العائلي الطبيعي

اقرأ/ي أيضًا: ناجيان من شبح كورونا يتحدثان لـ"ألترا تونس" عن تجربتهما

كانت هذه الجولة بين بيوت القرية الممتدة على مساحة هكتارين سريعة، أمكننا من خلالها اكتشاف عالم خفيّ لفئة هشّة في المجتمع لها خصوصيّتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية.. قرية أمراؤها الأطفال وملكاتها الأمهات المربّيات.

أثناء هذه الجولة القصيرة في القرية، التقينا محمد يسري ضيف الله، مدير قرية الأطفال "SOS" أكودة، الذي قدم لـ"ألترا تونس" نبذة عنها قائلًا "هي قرية تنشط تحت الجمعية التونسية لقرى أطفال "س وس"، التي هي بدورها تنشط تحت الجمعية العالمية لقرى الأطفال "س وس" المتواجدة في 137 دولة في العالم وتضم 538 قرية عائلية".

مراسل ألترا تونس مع مدير "س و س" أكودة

تضم قرية "س و س" أكودة 14 منزلًا ويتوزع عليها 95 طفلًا من ذوي فاقدي العائلة ( 49 ولدًا و46 بنتًا)، وتضم القرية إخصائيين نفسيين واجتماعيين ومنشطين، وهم عبارة عن فريق دعم من مشمولاته مساعدة "الأم" و"الخالة" على رعاية الأطفال، والخالة في نظام القرية هي التي تساعد الأم على رعاية أطفالها أثناء غيابها في العطلة، فالأم تعمل لثلاثة أسابيع متتالية مع أبنائها ثم تتمتع براحة في الاسبوع الرابع.

وقال مدير القرية "نحن نوفر للأطفال مقومات المنزل العائلي الطبيعي، وحريصون على أن يعيش الطفل في بيئة متوازنة، وتوفر له "الأم" مقومات التوازن النفسي والاجتماعي، فالأم هي المسؤولة على المنزل والرعاية والإعاشة والنظافة والصحة. ونوفر لكل أم وأطفالها ميزانية مالية كل أسبوع، ويقع احتساب نصيبها بحساب الأطفال وأعمارهم واحتياجاتهم، وتقوم الأم باقتناء لوازم بيتها رفقة أبنائها تمامًا كما البيت الطبيعي العائلي العادي، فهامش الحرية في التصرّف موجود لغايات تربوية واجتماعية، فأطفالها يخرجون معها للتسوق في الفضاءات المفتوحة ".

محمد يسري ضيف الله لـ"ألترا تونس": لقد وقع تراجع في الإعانات منذ أن تخلت الكنفدرالية العالمية عن الدعم لقرى الأطفال في أواخر 2019

وأضاف يسري ضيف الله أن "الحجر الصحي العام قد أثر في نظام القرية ككل، فقد كنا نحيي شهر رمضان بالسهرات والفقرات التنشيطية الليلية، وكنا نحيي السهرات بمناسبة ليالي رمضان، ولكن توقيًا من وباء كورونا فرضنا نظامًا صارمًا منذ تاريخ 6 مارس/ آذار 2020 ومنعنا بذلك الزيارات من خارج القرية، وأغلقنا الأبواب أمام الوافدين مهما كانت الأسباب كما منعنا "الأمهات" من الخروج في إجازات وعطل، وبقي من هم خارج أسوار القرية في مدنهم حتى إشعار آخر. كما تم إلغاء النوادي ذات الاستقطاب العددي، إلى جانب استدعاء عدد من الأخصائيين في الأمراض الجرثومية للتحسيس والتوعية".

كما أشار إلى أن "الإدارة قد وفرت جميع الوسائل الوقائية من تعقيم للمنازل ومستلزمات التنظيف والكمامات وقامت بتوزيعها على جميع البيوت، كما سعت كل من بلدية أكودة وسيدي بوعلي وجمعيات مثل الهلال الأحمر والكشافة التونسية إلى توعية الأطفال في شكل مجموعات حسب التواصل العمري".

الحجر الصحي العام قد أثر في نظام القرية ككل (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

زيارتنا للقرية اقترنت بالاستعداد لعيد الفطر، وقد تحولت الأخصائية النفسية إلى محلات بيع اللعب لاقتناء مشتريات لأطفال القرية قدّمت في شكل هبات من منظمة وطنية، كما شاهدنا وفود العديد من المتبرعين بالألبسة والأحذية والحلويات حتى تدخل البهجة على كل بيت في القرية.

وفي خصوص التبرعات، قال يسري ضيف الله " لقد وقع تراجع في الإعانات منذ أن تخلت الكنفدرالية العالمية عن الدعم لقرى الأطفال في أواخر 2019 وذلك في سياق سياساتها، وانتقلنا إلى التمويل الذاتي والتعويل على الهبات المحلية والتبرعات، والتبرع للقرية أنواع بعضه عيني والآخر مالي، والتبرعات المالية بدورها تنقسم إلى قارة في شكل عقود كفالة تعقد مع أشخاص أو شركات تتكفل بمصاريف دار كاملة لمدة سنة أو صغير واحد بالكامل، وتبرعات مالية غير قارة".

وختم بالقول "الجديد خلال هذه السنة والسنة الفارطة فتوى من دار الإفتاء للجمهورية التونسية بجواز دفع أموال الزكاة وزكاة الفطر لقرى الأطفال SOS، وتمكنا من خلالها من جمع تبرعات الزكاة التي ساهمت بشكل كبير في دعم القرية والرفع من إمكانياتها في رعاية الطفل".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"رمضان الافتراضي" في تونس

عائلة تروي تجربتها لـ"ألترا تونس": احتمينا بالصحراء هربًا من كورونا