20-أبريل-2018

قطعت تونس خطوات هامة في مواجهة الإخفاء القسري إلا أن أمامها المزيد لمحاسبة المسؤولين (ألترا صوت)

مارس نظام الاستبداد في تونس، خلال عهد ما قبل الثورة، أشنع انتهاكات حقوق الإنسان وأكثرها جسامة، ومن بينها الإخفاء القسري الذي تجرّمه مختلف المواثيق الدولية، إذ يرتقي إلى درجة الجريمة ضد الإنسانية. وإن كان نظاما بورقيبة وبن علي، اللذين حكما تونس بالحديد والنار أكثر من نصف قرن، لم يتواريا في انتهاك الحقوق السياسية والمدنية عبر الإيقافات العشوائية والتعذيب والمحاكمات غير العادلة وغيرها من الانتهاكات، فإن كليهما لجأ كذلك لممارسة الإخفاء القسري في أشدّ فترات حملات القمع.

تلقت هيئة الحقيقة والكرامة المسؤولة عن تنفيذ مسار العدالة الانتقالية في تونس، 199 شكوى حول الإخفاء القسري في زمن الاستبداد

وقد تلقّت هيئة الحقيقة والكرامة، التي تتولى تنفيذ مسار العدالة الانتقالية، 199 ملفًا حول الإخفاء القسري، تعمل حاليًا على معالجتها وفق آليات هذا المسار الذي يمثل شرطًا للانتقال من دولة الاستبداد إلى دولة ديمقراطية تُصان فيها الحقوق وتُحمى فيها الحريات.

اقرأ/ي أيضًا: الذكرى الأولى لـ"الحقيقة والكرامة".. 5 شهادات عن القمع والفساد قبل ثورة تونس

وإن قطعت تونس حاليًا خطوات لافتة في مواجهة الإخفاء القسري بهدف القضاء عليه تمامًا ومنع تكراره في المستقبل، فإنه لا زالت ثمة مطبات تحول دون كشف الحقيقة بخصوصه بالشكل المطلوب ومحاسبة المتورطين في ارتكابه.

الإخفاء القسري في مرمى العدالة الانتقالية

عرّف قانون العدالة الانتقالية في تونس الانتهاك، بأنه كل اعتداء جسيم أو ممنهج على حق من حقوق الإنسان، صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرّفوا باسمها أو تحت حمايتها. وأُوكلت لهيئة الحقيقة والكرامة مهمة كشف هذه الانتهاكات بتحديدها ومعرفة أسبابها ومصدرها والملابسات المحيطة بها.

وفي هذا الجانب، وبخصوص الإخفاء القسري، يتوجّب معرفة مصير الضحايا وأماكن وجودهم وهوية المسؤولين عنها. وأعلنت هيئة الحقيقة والكرامة التي تتمتع بصلاحيات واسعة للقيام بمهامها، أنها تلقت 199 ملفًا حول حالات إخفاء قسري حصلت خلال المدة الزمنية التي تغطيها أعمالها، أي من منتصف 1955 إلى نهاية 2013.

ولا يشمل الإخفاء القسري فقط الأشخاص الذين لا زالوا مختفين ولا يُعرف مصيرهم بعد، بل يشمل كذلك الأشخاص الذين تعرضوا ولو لمرة واحدة في حياتهم لإخفاء قسري ثم ظهروا في محاكمات غير عادلة. وسبق أن أعلنت هيئة الحقيقة والكرامة، أنها رصدت حالات إخفاء قسري لجزائريين وقعت داخل التراب التونسي، وهي حالات إخفاء جماعية تعلقت بجزائريين عبروا الحدود البحرية التونسية سنة 2008، وتم رصد اعتقالهم على يد أجهزة أمنية تونسية، ومن ثمّ إخفاؤهم قسريًا في ظروف لا تزال غامضة لليوم.

ومن أشهر حالات الإخفاء القسري في تونس زمن الاستبداد، هي حالة كمال المطماطي وهو موظف حكومي من منطقة قابس جنوب تونس، نشط ضمن حركة النهضة حين كانت تسمى "حركة الاتجاه الإسلامي". وقد شملته حملة القمع ضد الإسلاميين بداية التسعينات، فقبضت عليه أجهزة الشرطة في تشرين الأول/أكتوبر سنة 1991، وظل مختفيًا بصفة قسرية عن عائلته التي عانت التضييقات زمن المخلوع بن علي.

وتبيّن لاحقًا أن أجهزة الأمن قامت بتعذيبه إلى حدّ الموت، ولم تُعلم عائلته. وقد كشف عبد الفتاح مورو، نائب رئيس مجلس نواب الشعب، وكذا نائب رئيس حركة النهضة، قبل ما يزيد عن سنة، أن قيادات أمنية أعلمته في وقت سابق أنه تم رمي جثة كمال المطماطي في خرسانة معدّة لإقامة جسر مشيّد حاليًا، وهو ما يعني عدم إمكانية استرداد جثته، كما طالبت والدته في شهادة مؤثرة لا تزال عالقة في أذهان التونسيين، في أول جلسة استماع علنية نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة قبل نحو سنة ونصف.

وتواجه الهيئة صعوبات في كشف الحقيقة حول حالات الإخفاء القسري، وتحديدًا كشف هويات مرتكبيها وذلك في ظل غياب الإرادة السياسية المطلوبة في تنفيذ مسار العدالة الانتقالية. حيث لا تستطيع الهيئة بعدُ مثلًا النفاذ لأرشيف البوليس السياسي بوزارة الداخلية، رغم أن قانون العدالة الانتقالية يمنحها صلاحيات واسعة للحصول على الأرشيفات دون أي قيود.

تونس بعد الثورة في مواجهة الإخفاء القسري

رغم ذلك، قطعت تونس بعد الثورة خطوات نحو مكافحة جريمة الإخفاء القسري، وتوفير ضمانات بعدم تكرارها، حيث صادقت في شباط/فبراير 2011، على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2006، والتي لم تصادق عليها إلا 58 دولة فقط من بينها ثلاث دول عربية هي العراق والمغرب وتونس، التي بدأت تقدم خلال السنوات الأخيرة تقارير دورية حول مكافحة الإخفاء القسري للجنة المعنية بحالات الإخفاء القسري.

قطعت تونس بعد الثورة خطوات هامة نحو مكافحة جريمة الإخفاء القسري، لكن لا يزال أمامها مزيد من الجهود لمحاسبة مرتكبي هذه الجريمة

وإضافة لذلك، وضمن مجهودات مواجهة الإخفاء القسري، أصدرت تونس قانون العدالة الانتقالية سابق الذكر، كما أنشأت هيئة مختصة للوقاية من التعذيب. كما عزّزت ترسانتها التشريعية سنة 2016 عبر قانون يتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته، ويتضمن مفهوم الاتجار تحويل وجهة الأشخاص باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بغاية استغلالهم.

اقرأ/ي أيضًا: انتهاكات تونس.. المقاومة مستمرّة لكشف الحقيقة ومنع الإفلات من العقاب

ولعلّ من أهم الإصلاحات التشريعية التي اتخذتها تونس، في هذا المجال، هو تقليصها سنة 2016 لمدة الاحتفاظ بالمشتبه فيهم من ثلاثة أيام إلى يومين فقط، مع اشتراط الإذن الكتابي من وكيل الجمهورية/وكيل النيابة، ولا يمكن تمديد هذه المدة إلا ليوم واحد في مادة الجنح، ويومين في مادة الجنايات، وذلك قرار معلل يتضمن الأسانيد القانونية والواقعية.

فيما تتمثّل الإضافة الأهم في تقنين حضور المحامي أمام باحث البداية، وهو ما يعتبر تتويجًا للنضالات الحقوقية طيلة عقود. ويبدو أنه وعرفانًا بكل هذه المجهودات في مجال مكافحة الإخفاء القسري، استطاعت تونس السنة الماضية الفوز بمقعد في اللجنة الأممية المعنية بمتابعة تنفيذ اتفاقية حماية الأشخاص من الإخفاء القسري.

ولكن، يظلّ على تونس قطع خطوات إضافية في اتجاه معالجة حالات الإخفاء القسري، والقضاء على هذا الانتهاك بتوفير الضمانات اللازمة، حيث تطالب اللجنة الأممية المختصة، تونس بتجريم الإخفاء القسري كجريمة مستقلّة في قانونها المحلّي، وبتحديد المسؤولية الجنائية على الرؤساء المباشرين. كما دعت اللجنة في تقريرها الختامي، سنة 2016، تونس باستثناء حالات الإخفاء القسري صراحة من القضاء العسكري، وأن تكون المحاكم المدنية هي الوحيدة المختصة في التحقيق فيها ومحاكمة المتورطين، فيما تظل الدعوة الدائمة نحو محاسبة المسؤولين.

اسأل عن المحاسبة؟

في الواقع، دائمًا ما يطرح سؤال المحاسبة نفسه كلما جاء الحديث عن معالجة انتهاكات حقوق الإنسان زمن الاستبداد في تونس وذلك في ظل مناخ الإفلات من العقاب وحماية الجلّادين، إذ ليس انتهاك الإخفاء القسري باستثناء في هذا الجانب. حيث تتواطأ الطبقة السياسية الحاكمة دون المضي نحو محاسبة المسؤولين، وهو ما يمثل أحد نكسات مسار الانتقال الديمقراطي.

ولذلك تشدّد اللجنة الأممية المعنية بالإخفاء القسري، على أن تقوم الدولة التونسية بمحاكمة جميع الضالعين في حالات الإخفاء القسري "بمن فيهم عناصر الجيش والرؤساء المباشرون والمدنيون، ومعاقبتهم إذا ثبتت إدانتهم بما يتناسب وخطورة أفعالهم"، وهو ما لم يتمّ لليوم في ظلّ غياب الإرادة السياسية في تتبع مرتكبي الانتهاكات ورفع الحواجز التي تحول دون محاسبتهم.

ففي قضية كمال المطماطي على سبيل المثال، تحرّكت عائلته بعد الثورة بهدف محاسبة المسؤولين الذين تورّطوا في إخفائه قسريًا وتعذيبه وقتله، ولكن حفظت المحاكم التهم لمرور الزّمن وهو ما يخالف المواثيق الدولية وأهمها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري واتفاقية مناهضة التعذيب، والتي تنص على أن الإخفاء القسري جريمةٌ لا تسقط بالتقادم.

ولكن ما تزال عائلة المطماطي، وعائلات جميع ضحايا الإخفاء القسري، يأملون في تحديد المسؤوليات ومحاسبة مرتكبي هذا الانتهاك الشنيع عبر بوابة العدالة الانتقالية، التي ينصّ قانونها على إحداث دوائر قضائية متخصّصة للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتي ذكر القانون الإخفاء القسري ضمن قائمة الأمثلة عن هذه الانتهاكات.

وقد أكد ذات القانون على عدم سقوط الدعاوى الناجمة عن هذه الانتهاكات وهو ما يسمح بتفادي العائق القانوني الذي حال دون استمرار مسار تتبع المسؤولين في القضاء طيلة السنوات الماضية.

تتواطأ الطبقة السياسية الحاكمة في تونس، على منع محاسبة المسؤولين في الانتهاكات الحقوقية وعلى رأسها الإخفاء القسري

ومن المنتظر أن تبدأ هيئة الحقيقة والكرامة في إحالة الملفات للدوائر القضائية في شهر آذار/مارس القادم، ومن المتوقع أن تتضمن حالات إخفاء قسري، وذلك في سبيل تحقيق المساءلة والمحاسبة وللقطع مع الإفلات من العقاب والتنصل من المسؤولية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

5 مؤشرات على عرقلة الرئيس التونسي لمسار العدالة الانتقالية

حصاد تونس 2017.. المسار الديمقراطي مستمر رغم الخيبات