29-سبتمبر-2019

الاستغوار هو عالم ساحر وغامض لرياضة تلقى انتشارًا متزايدًا في تونس (Getty)

 

عالم المغاور والكهوف، هو عالم ساحر وغامض له قواعده وعلماؤه ودراساته وقصصه ومستكشفوه المنبهرون بأسراره. وركّزت عديد الدراسات حول الكهوف والمغاور على بعدين، أوّلًا فهم الجيولوجيا ودراسة النظم الأيكولوجية والمناخيّة والتنوّع البيولوجي الفريد داخل الكهوف (أنواع النباتات والحيوانات)، وثانيًا دراسة تطوّر حياة الإنسان منذ أزل التّاريخ الذّي استخدم الكهوف لأغراض ووظائف عديدة. وتتواجد الكهوف والمغاور في البرّ والبحر، في الغابات والصحراء، ولعلّ أشهر الكهوف هي الجبلية وهي الأكثر ارتيادًا في تونس.

ظهر نشاط الاستغوار في تونس مع فترة الاستعمار مع المستغورين الفرنسيين وشهدت هذه الرياضة انتشارها في السبعينيات بفضل النوادي التونسيّة في جهتيْ زغوان وبنزرت قبل انتشارها على كامل جغرافيا البلاد 

وسعيًا لاستكشاف هذه العالم الغامض وسبر أغواره، التقى "ألترا تونس" هواة من ممارسي هذه الرياضة من جمعية الاستغوار بسليانة للحديث عن رياضة الاستغوار والأنشطة المتعلٌّقة بها، وفوائدها وكذا تحدياتها.

الاستغوار.. مغامرة اكتشاف أحشاء الأرض

يبيّن الناشط في جمعية الاستغوار بسليانة مختار الزريبي بداية، لـ"ألترا تونس"، أن المصطلح العلمي للأنشطة في المغاور والكهوف هو "الاستغوار" مبينًا أن من أبرز هذه الأنشطة هو الاستكشاف. ويوضح أنّ ظهور هذا النشاط في تونس تزامن مع فترة الاستعمار تحديدًا مع المستغورين الفرنسيين.

وأضاف أن نشاط الاستغوار شهد انتشارًا في فترة السبعينيات بفضل بعض النوادي التونسيّة التي تكوّنت في جهتيْ زغوان وبنزرت، ثمّ انتشرت أكثر على كامل جغرافيا البلاد، خاصّة في جهات مثل رادس وصفاقس ومنزل كامل وسليانة وقابس وباجة وغيرها.

تتواجد الكهوف والمغاور في البرّ والبحر (Getty)

 

وأكد أنّ منطقة سليانة كانت ولا تزال أبرز الوجهات الاستغوارية نظرًا لخصوصياتها الجيولوجية والمناخيّة والطبيعيّة، ولمناظرها الجبلية الساحرة، وتتجلى هذه الخصائص خاصّة في جبل السرج الذي يضم أكبر وأجمل مغارتين: "عين الذهب" و"المنجم".

من جهته، حدثنا عن تجربته شاهين الزريبي، 29 سنة، درس بمجال التهيئة الترابية والتعمير وهو من هوّاة الاستغوار، قائلًا إنّه واكب لأوّل مرّة تظاهرة نظّمتها جمعية الاستغوار بسليانة، في إطار فعاليات مهرجان قرية الزريبة من ولاية سليانة سنة 2010. وقد زار وقتها "مغارة عين الذهب" بجبل السرج بسليانة، ثم أتيحت له الفرصة للمشاركة في حملات استكشاف مثل "مغارة عين الذهب" و"داموس الضربان" بجبل السرج والمينة.

 تعد سليانة من أبرز الوجهات الاستغوارية نظرًا لخصوصياتها الجيولوجية والمناخيّة والطبيعيّة وتتجلى هذه الخصائص خاصّة في جبل السرج الذي يحتوي أكبر وأجمل مغارتين هما "عين الذهب" و"المنجم"

يواصل شاهين حديثه عن عالم الكهوف والمغاور قائلًا: "إنّ استكشاف المغاور هو استكشاف لنظام بيئي معين، ولكلّ مغارة نظامها البيئي الذّي يختلف من مغارة لأخرى. كما أنّ المغاور تعطينا لمحة تاريخية عن تكوّن الأرض وعن مراحل تطورها. وأكثر من هذا، تساعدنا على اكتشاف وتحقيق لذواتنا من جديد".

شاهد/ي أيضًا: فيديو: الرحلات الجبلية في تونس.. استكشاف ورياضة

من جانبها، تقول وصال الزريبي، وهي شابة متحصّلة على ماجستير في المالية، أنّها تعرفت على نشاط الاستغوار في عمر 17 سنة، من خلال أخيها وأبيها المولعين بهذا النشاط. وتؤكد أن شغفها بالطبيعة هو ما يحرّك فضولها لاكتشاف الكهوف وممارسة هذه الرياضة عدا على أن الإستغوار هو نشاط ممتع لإمكانية مشاركته مع العائلة والأصدقاء، وفق حديثها.

وتضيف وصال في حديثها لـ"ألترا تونس": "نشاط الإستغوار هو نشاط مثري معرفيًا وإنسانيًا، فأنا أستمتع في كلّ مرّة بلقاء أشخاص جدد وتبادل الخبرات والمغامرات معهم".

ويذهب شاهين الزريبي، من جهته، إلى نفس الفكرة، موضّحًا أنّ نشاط الاستغوار يجمع بين ممارسة الرياضة والاستكشاف والمغامرة وأنّه يستهوي أساسًا هواة الطبيعة. ويخبرنا هنا قائلًا: "لا أنكر أنّ تجربة الاستغوار هي من أهم التجارب التّي خضتها حتى الآن. الإستغوار هو منفذ إلى الطبيعة وملاذي من عالم مليء بالفوضى والمشكلات".

تنظّم جمعياتي وأنشطة منوّعة

وبخصوص النشاط الجمعياتي حول الاستغوار في سليانة، أخبرنا مختار الزريبي أنه تم بداية تأسيس نادي الاستغوار والبحوث البيئية بدار الشباب سليانة سنة 2009 قبل بعث جمعية الاستغوارسنة 2011 لتكون أول جمعية تونسية بهذا الاسم وتنشط في هذا المجال، وفق تأكيده، مبينًا أن هذه الجمعية علمية رياضية ولها أبعاد أخرى بيئية وتنموية.

تُمارس رياضة الاستغوار في شكل جماعي مع العائلة والأصدقاء (المصدر: جمعية الاستغوار بسوسة)

 

ويرى النشطاء في مجال الاستغوار أنّ الكهوف والمغارات تمثل عنصرًا من عناصر التنمية المحليّة والمستدامة وقد تعود بالنفع على ولاية سليانة. وانطلقت أوّل تظاهرة بمنطقة عين الذهب وتطورت سنة 2011 لتتكثف الأنشطة، واقترح النشطاء على بعض المواطنين فكرة الإعاشة والإقامة لهدف التنمية المستدامة بالمنطقة، فوجدوا تجاوبًا كبيرًا من المتساكنين المحليّين وتشجيعًا من شركاء الجمعيّة.

وانطلق النشطاء في مشروع تهيئة المسالك الاستغوارية البيئية المستدامة بما يتوافق مع الموارد الطبيعية والتنوّع الحيوي بطرق مستدامة. ووقع، في البداية، اختيار ثلاثة مسالك ثم تأهيل أحدها وهو مسلك عين الذهب. وعمل النشطاء على التوعية بدور الكهوف والمغاور كثروات طبيعيّة في تنشيط المجتمع المحليّ، من خلال توفير الإقامة والإعاشة للزائرين والمستكشفين على الطريقة المحليّة الأصيلة قصد تنمية المنتوج المحليّ ودمج السكان على غرار مشروع قرية الزريبة عبر اقتراح مقاربة تنموية محليّة مستدامة.

شاهين الزريبي (جمعية الاستغوار بسليانة): تعطينا المغاور لمحة تاريخية عن تكوّن الأرض وعن مراحل تطورها ولكل مغادرة نظامها البيئي الخاصّ

اقرأ/ي أيضًا: على خطّ الوصول للنهاية.. قصص شغف جعلت من الرياضة بداية!

وإلى جانب الزيارات الإستكشافية للمغاور، يشارك المستغورون أيضًا في العديد من الأنشطة التّي تتماشى مع أهداف الجمعية، من بينها أهداف علمية مثل التعرّف على الكهوف والمغاور في البلاد التونسيّة وإحصائها والقيام بدراسات علمية تهتم بالجوانب الجيولوجيّة والبيولوجيّة والمناخيّة للكهوف.

وتنظم جمعية الاستغوار بسليانة ملتقيات علمية وطنية ومغاربية في سليانة وبنزرت، هذا إلى جانب المشاركة في الأيّام الوطنية للاستغوار بسليانة. كما يهتم نشطاء الجمعية بعديد التظاهرات الرياضية المحلية والجهوية والوطنية وتحديدًا التظاهرة الوطنية المنظمة تحت إشراف المرصد الوطني للرياضة، وتظاهرة البحث عن الكنوز البيئية بالشراكة مع جمعية الاستغوار والسياحة البديلة بالوسلاتية.

عن التحديات في نشاط الاستغوار

رغم فرادة رياضة الاستغوار وتعدّد فوائدها على الفرد والمجموعة، فهي تشكو من عدم تنظيمها وهيكلتها على المستوى الوطني. وفي هذا الجانب، أعلمنا مختار الزريبي، الناشط في "جمعية الاستغوار بسليانة"، أنّ النشطاء في هذه الرياضة يطالبون، منذ سبعة أعوام، بتكوين جامعة تونسيّة للاستغوار، وأنّهم مازالوا يأملون بتأسيسها بعد اعتماد المرصد الوطني للرياضة للأنشطة الجسدية وسط الطبيعة واعتماد الاستغوار كرياضة.

نشاط الاستغوار هو نشاط رياضي يتطلب تكوينًا رياضيًا مخصوصًا داخل الكهف أو المغارة وخارجها، وهو نشاط علمي قوامه الاستكشاف والبحث

ويقول الزريبي: "نشاط الاستغوار هو نشاط رياضي يتطلب تكوينًا رياضيًا مخصوصًا داخل الكهف أو المغارة وخارجها. وهو نشاط علمي كذلك قوامه الاستكشاف والبحث يتطلب القدرة على إنجاز كل أشكال البحوث العلمية تحت الأرض لمعرفة التغيرات على الأرض".

وتعدّ ولاية سليانة قطبًا للاستغوار، ولكن أمام غياب هيكل مختص بالرياضة وغياب الإجراءات المنظمة لهذا النشاط على غرار تحديد مواعيد فتح وإغلاق المغارات، وكيفية تنظيم الزيارات الاستكشافية، والعلاقة بين المستغورين وإدارة الغابات، تظلّ هذه الرياضة تشكو من نقائص وتحديّات عديدة.

اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

فوائد عديدة لرياضة الاستغوار

يؤكد شاهين الزريبي، في الأثناء، أن رياضة الاستغوار في تونس تحمل مستقبلًا واعدًا خاصّة إذا لقيت الاهتمام اللازم من وزارة الشباب والرياضة. وهو يقول إنه لا يمكن إحصاء فوائد هذه الرياضة وهي التي تمثّل "علاجًا طبيعيًا مكملًا بل ضروريًا" حسب تعبيره.

وينصح محدثنا بممارستها، مبينًا أنها تحمل فوائد عديدة، منها فوائد تربوية ومن ذلك تدريس مادّة الاستغوار في المدرسة الفرنسية، وفوائد نفسية عبر مقاومة الاكتئاب والتوتر، وأخرى جسدية باعتبار الاستغوار من الرياضات التي تستدعي دربة متكاملة، وكذلك فوائد صحية من خلال النشاط الجسدي وسط الطبيعة، عدا على أنها رياضة صديقة للبيئة والتنمية المستدامة عبر مقاومة كلّ أشكال التلوث داخل المغارة وخارجها.

تتعدّد فوائد رياضة الاستغوار خصوصًا على المستوى البدني والنفسي وكذا المعرفي (المصدر: جمعية الاستغوار بسليانة)

 

ويرى الناشط في "جمعية الاستغوار بسليانة"، أيضًا، أنّ هذه الرياضة تمنح لممارسيها فرصة للتفكير عبر صفاء الذهن بعيدًا عن ضوضاء المدن متحدثًا: "أقول لمن لم يخض هذه التجربة أنّ الاستغوار قد يضيف إليك الكثير دون أن تعلم بذلك، أنصح الجميع بأن لا يضيعوا عليهم فرصة ممارسة هذا النشاط. ربما تفتقر بلادنا الى ثروات طبيعية ولكن الطبيعة لم تحرمنا من جمالها وعطائها الدائم". وختم حديثه لـ"ألترا تونس" بالقول إن "الاستغوار هبة من الطبيعة أهدت ممارسها فرصة التنعم في أحشائها" في إشارة إلى الكهوف والمغاور.

ومن جهتها، ترى وصال أنّ رياضة استكشاف المغاور، تتيح الفرصة لمحبيها لاكتشاف أمكان جديدة والتمتّع بجمال الكهوف التونسية وقضاء أيام في الطبيعة. وتضيف أنّها رياضة متاحة لكلّ الشرائح العمريّة، وهي تنصح النساء والأطفال والشباب والكهول بممارسة هذه الرياضة رفقة عائلاتهم أو أصدقائهم.

وخلاصة، إن رياضة الاستغوار هي رياضة استكشافيّة غير مألوفة بالنسبة للمجتمع التونسي، ولكنها تشهد إقبالًا متزايدًا من مختلف الفئات، وهي التي تجمع بين النشاط الجسدي من جهة والمعرفة وحب المغامرة والاستكشاف من جهة أخرى.



اقرأ/ي أيضًا:

الـ"بلوغينغ".. صيحة رياضية جديدة في تونس

أمين الزين.. قصة تونسي عانق الموت من أجل حلمه