14-مايو-2021

أساطير وحكايا عديدة ينقلها مُريدو سيدي علي الحطاب وأتباعه عمّا يعتبرونه "معجزات" و"خوارق" حصلت في علاقة بالوليّ الصالح (صفحة جمعية مهرجان سيدي علي الحطاب/ فيسبوك)

 

"دأبنا، في شهر ماي/آيار من كل عام، على الاحتفاء بِـوَليّنا سيدي علي، نزوره، نشعل الشمع قبالة ضريحه، نقدّم له الأضاحي، ونحتفل..." هكذا بدأ منّوبي (67 سنة)، الذي يعتبر نفسه من "أبناء" الولي الصالح سيدي علي الحطاب، حديثه لـ"الترا تونس" موضّحًا أنّ لكلّ وليّ أبناؤه (أتباعه والمؤمنون به).

ويستدرك منوبي متنهّدًا: "طيلة هاتين السنتين مثلما قيّدوا حريتنا وحبسونا بمنازلنا بين الفينة والأخرى، حرمونا أيضًا من التبرّك عند "زاوية" (مقام) ولّينا وحبيبنا وسيدنا علي الحطاب، بسبب ما يسمّونه كورونا".

وكان من المبرمج، ككل عام، أن يُقام مهرجان سيدي علي الحطاب الوطني في الفترة المتراوحة بين موفّى شهر أفريل/نيسان ومنتصف شهر ماي/آيار بمنطقة "سيدي علي الحطاب" -التي باتت منذ عقود تحمل اسم الوليّ الصالح علي الحطاب- الواقعة ببلدية البساتين من معتمدية المرناڨية بولاية منوبة. لكن بسبب أزمة كورونا قامت وزارة الثقافة سنة 2020 بإيقاف كافة الأنشطة والمهرجانات والاحتفالات الثقافية لوضع حد لانتشار الوباء، مما حال دون تنظيم المهرجان، ويبدو أن الحال سيّان لهذه السنة أيضًا في ظلّ تواصل صعوبة الوضع الوبائي.

من هو "علي الحطّاب"؟

وعلي الحطاب، كما تعرّفه "الموسوعة التونسية المفتوحة" التي أعدّها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، هو أحد أبرز أقطاب التصوّف بإفريقيّة (الاسم التاريخي لتونس) من أولئك الذين ظهروا في القرن 7 هجري/13 ميلادي وأوّل أصحاب أبي الحسن الشاذلي الأربعين.

سيدي علي الحطاب هو أحد أبرز أقطاب التصوّف بإفريقيّة (الاسم التاريخي لتونس) من أولئك الذين ظهروا في القرن 7 هجري/13 ميلادي وأوّل أصحاب أبي الحسن الشاذلي الأربعين

اسمه أبو الحسن علي الأبرقي ولُقّب بالحطّاب نسبة إلى امتهانه التّحطيب، قطن في منطلق حياته بمنطقة شاذلة (اسمها السابق) بقرب المرناقية (مقام ضريحه حاليًا). وكان علي الحطّاب يكثر من الزهد والتعبّد، ويجدّ في طلب المعارف الدينية والأسرار في العلوم الصوفيّة وكان له ميل شديد إلى السياحة الروحية وزيارة مقامات الأولياء، مكتفيًا في عالم الدنيا ببيع الحطب لتأمين حاجته وحاجة عائلته من الغذاء، وفق ما دوّنته موسوعة "بيت الحكمة". ولكثرة أعماله الخيرية وزهده لُقّب بـ"بوّاب مكّة".

اقرأ/ي أيضًا: السطمبالي بين الأهازيج والموسيقى.. أين يكمن العلاج؟

مقام الولي سيدي علي الحطاب (صفحة جمعية مهرجان سيدي علي الحطاب/ فيسبوك)

وكان علي الحطاب في مقدمة شيوخ التصوّف ومريدي الطريقة الشاذلية في تونس، بعد عودة أبي الحسن الشاذلي إلى مصر، وهو ما ظلّ يتأكد على مرّ الزمن بتنظيم "خرجة" سيدي علي الحطاب التي كانت تقام بمقامه كل سنة من آخر فصل الربيع، ويسهر على إقامة هذه "الخرجة" مريدو الطريقة الشاذلية، وفق ما جاء في موسوعة "بيت الحكمة".

لئن تعوّد أتباع الولي علي الحطاب زيارة ضريحه كل يوم خميس وأحد للتبرك عند ضريحه منذ قرون طويلة، فإن تنظيم مهرجان باسمه يعدّ حدثًا مستجدًّا لا يتجاوز 40 عقدًا

ولئن تعوّد أتباع الولي علي الحطاب زيارة ضريحه كل يوم خميس وأحد للتبرك عند ضريحه منذ قرون طويلة، فإن تنظيم مهرجان باسمه يعدّ حدثًا مستجدًّا لا يتجاوز الأربعين عقدًا، إذ أرادت الحكومة التونسية، خلال فترة حكم الحبيب بورقيبة، أن تضفي الصبغة الثقافية على الاحتفاء بالأولياء الصالحين، وقررت تنظيم مهرجانات لعدد منهم، خاصة منهم ذائعي الصيت وأكبرهم شأنًا لدى المعتقدين بهم، ضمن برنامج متكامل ومنوع يضم وصلات مسرحية وغنائية واستعراضية، وعروضًا فروسية، وعزف الموسيقى الصوفية والرقص حدّ الإغماء، و ذبح أضاحٍ وطبخ الكسكسي وتوزيعه على الحاضرين فيما يسمّى بـ"الزردة".. وتندرج هذه المظاهر ضمن طقوس العبور من الذنب إلى المغفرة ومن الضيق إلى الراحة.

تندرج هذه المظاهر ضمن طقوس العبور من الذنب إلى المغفرة (صفحة المهرجان/ فيسبوك)

عادات تتوارثها الأجيال في عدّة مناطق، وبالكاد تخلو جهة ما من زاوية لولي صالح تُقام له في محيطها مهرجانات سنوية يحتشد فيها الناس لزيارة وليّهم وممارسة طقوس مختلفة للتبرك به والتقّرب منه.

كورونا حالت دون تنظيم "مهرجان الحطاب"

يقول محمد علي العوني، رئيس جمعية مهرجان سيدي علي الحطاب، لـ"الترا تونس" إنّ الدورة 44 للمهرجان تم إلغاؤها العام الفارط، حسب التعليمات الحكومية بإيقاف كافة الأنشطة الثقافية إلى غاية أفول أزمة كورونا، لكن يبدو أن الأزمة متواصلة وليس من الواضح حاليًا متى سيتم تنظيمها"، معبرًا عن أسفه الشديد لعدم تنظيم هذه الدورة لما يزخر به البرنامج المعدّ لها من تنوّع وثراء في الأنشطة والعروض.

محمد علي العوني (رئيس جمعية مهرجان سيدي علي الحطاب) لـ"الترا تونس": الدورة 44 للمهرجان تم إلغاؤها العام الفارط بسبب جائحة كورونا، ويبدو أن الأزمة متواصلة وبالتالي ليس واضحًا حاليًا متى سيتم تنظيمها

وبالعودة إلى الدورات الأخيرة التي وقع تنظيمها -آخرها سنة 2019، لفت محمد علي، الذي أشرف على إدارة المهرجان طيلة الخمس سنوات الأخيرة، إلى أنّ مهرجان سيدي علي الحطاب توقّف بعد ثورة 2011 ولم يُستأنف تنظيمه إلّا سنة 2015.

"في 2015 تم تنظيم المهرجان ببرنامج بسيط وعادي لا يختلف عن برامج دورات ما قبل الثورة. وانطلاقًا من سنة 2016 باشرنا إدخال إضافات وتطويرات على محتوى المهرجان لإثرائه وإعادة الحياة إليه". ويوضّح مدير المهرجان أنّ العروض كانت تقتصر في السابق على العروض الصوفية فقط، أما خلال السنوات الأخيرة فقد تمّ إثراؤها بإدخال عروض غنائية منوعة بين الطرب والفن الشعبي، معرض للصناعات التقليدية، معرض الأكلات الشعبية، معرض للمنتوجات الفلاحية البيولوجية، معرض للأطفال يتضمن ألعابًا وأنشطة منوعة.. كما تمّ تخصيص ساحة للفنون، من أجل إضفاء الطابع الثقافي على المهرجان ذي الطابع العقائدي.

اقرأ/ي أيضًا: الصوفية في تونس.. رقم بلا معنى؟

وتابع مدير المهرجان: "أصبحنا ننوّع العروض الصوفية، فيجد الزائر مزيجًا فسيفسائيًا منوّعًا يضم "العيساوية" لسيدي بوعلي السنّي، و"القادرية" لسيدي عبد القادر، و"الشاذلية" لسيدي بلحسن الشاذلي، والحطابية لسيدي علي"، مشيرًا إلى أنّ هذا التنويع في العروض من شأنه أن يستقطب عددًا كبيرًا من زوار المهرجان من أبناء العيساوية والقادرية والشاذلية.

وأردف محمد علي العوني لـ"الترا تونس" أنه يقع أيضًا تقديم عروض فروسية مصحوبة بفرقة للفنون الشعبية بشكل يومي على مدى الأيام الأربعة للمهرجان، إضافة إلى عروض ألعاب بهلوانية التي تضم فقرات لـ"شمشون العرب" أو ما يُعرف في تونس بـ"عكاشة"، وتنشيط الأطفال، "قرية ثقافية للأطفال" تضمّ عروضًا رياضية فردية تقدّمها النوادي الناشطة بالمنطقة، (جودو، تايكواندو، كاراتيه...)، عروض رقص تراثي، مداخلات شعرية مغاربية.

العوني لـ"الترا تونس": يجد الزائر مزيجًا فسيفسائيًا منوّعًا من العروض الصوفية يضم "العيساوية" لسيدي بوعلي السني، و"القادرية" لسيدي عبد القادر، و"الشاذلية" لسيدي بلحسن الشاذلي، والحطابية لسيدي علي"

كما يتم، وفق مدير المهرجان، تقديم عروض "السطمبالي" التي تتضمّن أناشيد بـ"العجمي" وموسيقي إفريقية تعزف بآلات متنوعة بين الشقاشق (صفائح معدنية ذات جرس نحاسي تشير إلى صوت الأغلال وطرق الحديد الذي رافق رحلة العبيد الزنوج إلى شمال إفريقيا)، والغمبري (آلة وترية وإيقاعية ويعتبر تاج موسيقى السطمبالي الذي يُرشد السامعين إلى بوابات اللحن الإفريقي الشجي) والطبلة، مرفوقة برقصة "بوسعدية" الزنجي الذي يرتدي فراء الحيوانات فوق ملابس مزركشة بالألوان.

وللسطمبالي، حسب محمد علي، وظيفة روحية تظهر من خلال حالات "التخميرة"، وهي انتشاء روحاني بالموسيقى.

وكشف رئيس جمعية "مهرجان سيدي علي الحطاب" لـ"الترا تونس" أنّ نسبة إقبال الزّوار من الافتتاح إلى الاختتام (4 أيام) تبلغ حوالي 50 ألف زائر من كافة أنحاء الجمهورية التونسية ومن دول المغرب العربي أيضًا خاصة المغرب والجزائر، مشيرًا إلى أنه "في سنة 2018 تم تنظيم أول دورة مغاربية منوعة تنفتح على ثقافات مختلف دول المغرب العربي، حضر فيها شعراء وفنانون مغاربة على غرار الفنان الجزائري "رياض الجزائر" والفنان المغربي "الشاب أحمد"، "أردنا استقطاب أكبر عدد ممكن من مريدي الحطّاب لأننا نعلم جيّدًا أنّ صيته يتجاوز القُطر التونسي ويمتدّ مغاربيًا وعربيًا"، حسب تقدير مدير المهرجان.

العوني لـ"الترا تونس": نسبة إقبال زوار المهرجان من الافتتاح إلى الاختتام (4 أيام) تقدر بحوالي 50 ألف زائر من كافة أنحاء الجمهورية التونسية ومن دول المغرب العربي أيضًا خاصة المغرب والجزائر

"هناك ثلاثة أصناف من الزوار"، يقول محمد علي، "هناك الذين يقبلون من أجل الاستمتاع أو الاكتشاف، وهناك من يجيئون خصيصًا من أجل التبرّك بالولي الصالح وتقديم الأضاحي له وممارسة الطقوس العقائدية التي تخصّه، بينما هناك من يأتون أساسًا للتجارة من أجل البيع والشراء وعرض السلع والترويج للمنتوجات.

اقرأ/ي أيضًا: "حِدّي"، "معيوفة" و"عَبْشَة": أسماء تمنع الموت حسب البعض؟

زيارة زاوية سيدي علي الحطاب متواصلة بشكل يوميّ وخاصة أيام الآحاد، تكثر الزيارات بالخصوص بين شهر مارس/آذار وماي/آيار، يقومون بمختلف الطقوس؛ مثلًا هناك من يشتري سيارة جديدة فيزور الحطاب ويخلط الحناء في مقامه ثمّ يطلي بها عجلة سيارته بنيّة حفظه وحمايته من الحوادث، وهناك من يأتون لملء قوارير ماء من بئر الشفاء يرشون منها أركان منازلهم لحمايتها وحفظها من الشُّرور...

زيارة زاوية سيدي علي الحطاب متواصلة بشكل يوميّ وخاصة أيام الآحاد (صفحة المهرجان/ فيسبوك)

"الصُّلَّاح دڨّاڨة و يدُڨُّوا"

عدم تنظيم الدورة الـ44 من مهرجان سيدي علي الحطاب للسنة الثانية على التوالي لم يَرُق بعض متساكني المنطقة الذين عبروا لـ"الترا تونس" عن استنكارهم لهذا القرار "الجائر" وفق تعبيرهم، معتقدين أن "لعنة الصالحين" ستزيد من تأجيج الأزمة.

بريكة (85 سنة) لـ"الترا تونس": "الصُّلَّاح غُشّهم واعر و راهم دڨّاڨة ويدڨّوا، وسيدي علي الحطاب قادر، بتكليف من الله، على تحقيق المعجزات وسيرته مليئة بالخوارق"

"الصُّلَّاح غُشّهم واعر و راهم دڨّاڨة و يدڨّوا" (بما معناه أن غضَبَ الصالحين ليس هيّنًا وهم قادرون على تسليط لعنتهم إذا غضبوا) تهمس بريكة (85 سنة) لـ"الترا تونس" وهي تبتلع ريقها بصعوبة كَمَن اقترف إثمًا، "شاي الله أولياء الله سيدي علي الحطاب" -عبارة يقولها التونسيون مع ذكر أسماء الأولياء سواء لتقيهم لعنتهم وغضبهم أو لتُحقق أمانيهم وطلباتهم حسب الأسطورة-.

وتابعت، وهي ترمق ابنتها مريم (52 سنة) الجالسة القرفصاء قبالتها في منزلهما الذي يبعد حوالي 200 متر عن مقام الوليّ الصالح، "سيدي علي الحطاب قادر، بتكليف من الله، على تحقيق المعجزات وسيرته مليئة بالخوارق.. ومريم على كلامي شاهدة، أليس كذلك؟" وتضيف "كان من المفروض أن يُقام المهرجان ونقدّم الاضاحي لموْلانا وحبيبنا "بوّاب مكّة" ونجثو قبالة ضريحه نتهجّد له وندعوه لفكّ كربنا وإزاحة غمّنا بدل أن نجفوه ونوليه ظهورنا في أمسّ حاجتنا إليه..".

"لم يسبق لنا أن سألنا طلبًا من سيدنا علي وردّنا خائبين" تقول مريم معقّبة على ما قالته والدتها، "لقد تعوّدنا على أن نقصده في السّرّاء والضرّاء.. سواءً لمباركة أفراحنا أو لرفع همومنا وأكدارنا.. سيدنا علي لم يفارقنا بروحه الطاهرة ونحن له ممتنّون".

بريكة لـ"الترا تونس": كان من المفروض أن يُقام المهرجان ونقدم الاضاحي لموْلانا وحبيبنا "بوّاب مكة" ونجثو قبالة ضريحه نتهجد له وندعوه لفك كربنا وإزاحة غمّنا بدل أن نجفوه ونوليه ظهورنا في أمسّ حاجتنا إليه

وتضيف محدّثة "الترا تونس": "الصَّبِيّةُ التي تريد الزواج تقصدُ مقام الحطّاب وتشعل شمعة عند ضريحه تركع له وتتوسّل إليه ثم تغتسل بمياه "بئر الشفاء" سبع مرات فـ"يجيء مكتوبها- (أي تتزوج). والطفل المختون يحممونه بمياه البئر سبع مرات فيبرأ جرحه بسرعة".

وتتابع القول: "من خير سيدنا 'بوّاب مكّة' بئره لا تجف من المياه، وإذا نضب مخزون مياهها من كثرة الزّوار، تقوم النسوة بالزغردة سبع مرّات ويلقين بـسبع قطع من الحلوى داخله وسرعان ما يمتلئ بالمياه من جديد. شاي الله أولياء الله سيدي علي الحطّاب".

تعوّد زوّار ضريح علي الحطاب على عيادته محمّلين بطلباتهم حاملين شمعة وبعض الدنانير (صفحة المهرجان/ فيسبوك)

النّذر أو ما يُعرف بـ"الوَعْدَة"

وتعوّد زوّار ضريح علي الحطّاب على عيادته محمّلين بطلباتهم ودعوتاهم المرفوقة بشمعة وبعض الدنانير التي تُلقى من شبّاك حديديّ فاصل بين "صحن" الزاوية (وسطها) والغرفة التي يوجد بها ضريح الحطّاب. و دائمًا ما يقدّم زوّار الحطّاب "وعدة" له وهي تعني النذر، لتحقيق طلباتهم ومزيدِ التقرّب من الوليّ الصالح.

اقرأ/ي أيضًا: حدوة الحصان والخرزة الزرقاء والخُمسة.. عن أشهر أساطير طرد النحس في تونس

"كلّ قدير وقدره.. هناك من يذبح ديكًا، وهناك من يذبح خروفًا، وهناك من يذبح ثورًا.. لكن كلّ ما كان القربان أعلى قيمة كلّ ما ضَمَنَ حُظوة أكبر عند الوليّ" تقول بريكة، وهي تعيش في منزل بسيط متواضع الأثاث، متابعة: "كانت لديّ بقرة في السابق، كلّ عجل تنجبه أنذره للحطّاب. أرعاه وأكبّره وعندما يصبح مكتنزًا وجاهزًا يأخذه المرحوم زوجي إلى زاوية أبينا الحطّاب ليذبحه هناك. الرُّبع للحطّاب والبقيّة إما نوزّعها لحمًا على الجيران والأحباب أو نطهو كمية كبيرة من الكسكسي باللحم ونوزّعه عليهم".

تعوّد زوار ضريح علي الحطاب على عيادته محملين بطلباتهم ودعوتاهم المرفوقة بشمعة وبعض الدنانير التي تُلقى من شباك حديدي فاصل بين "صحن" الزاوية (وسطها) والغرفة التي يوجد بها ضريح الحطاب

وتُعَدُّ الذبائح التي تنذر للأولياء إحدى أبرز وسائل التقرّب إليهم وأكثرها شيوعًا، وتُقام الذبائح في أغلب الأحيان بالقرب من أضرحة الأولياء في طقوس احتفالية ممتزجة بالزغاريد والأهازيج والدعاء، يحضرها أقرباء وجيران صاحب "الوعدة".

وتستأنف بريكة الحديث: في إحدى المرّات، جاءنا صهرنا في زيارة إلى منزلنا، وعندما أخبرناه أننا سنأخذ عجلًا لنذبحه نذرًا للحطاب، قال لنا "توقّفوا عن هذه الترهات، وضعكم لا يسمح لكم بتقديم القرابين. العجل بِيعُوه أو اذبحوه وبِيعوا لحمه". كاد زوجي يرضخ له، لكن من الغد عندما كنت عائدة إلى المنزل من الرعي بالبقرة وابنها، لم يطاوعني العجل بالعودة واتجه إلى زاوية الحطاب ووقف عند بابه رافضًا العودة.. تركته هناك وأسرعت إلى زوجي أخبره، وما طلعت شمس اليوم الموالي إلا وأتممنا نذرنا للحطاب".

تصمت هنيهة ثم تتابع: "أما بالنسبة لصهري، فلم تمضِ أيام قليلة إلا وقد شُلّت يده وعجز عن تحريكها. حار في أمره الأطباء ولم يستطيعوا علاجه. وانتهى به الأمر راكعًا عند ضريح الحطّاب يعتذر باكيًا عمّا بدر منه. صحيح أنّ يده لم تتعافَ، لكنّه على الأقلّ استجدى مغفرة الحطّاب".

مريم (52 سنة) لـ"الترا تونس": من خير سيدنا "بوّاب مكّة" بئره لا تجف، وإذا نضب مخزون مياهها من كثرة الزوار، تقوم النسوة بالزغردة سبع مرات ويلقين بسبع قطع من الحلوى داخله وسرعان ما يمتلئ بالمياه من جديد

وتعقّب مريم على كلامها: "صحيح أننا لسنا ميسوري الحال، لكنّنا لم نخلف يومًا عهدنا لوليّنا بتقديم عجول بقرتنا قربانًا له. ولم تتوقّف هذه العادة إلّا بموت بقرتنا، وليس بإمكاننا شراء غيرها فكما ترين ظروفنا لا تسمح لنا بذلك".

يقع تنظيم حلقات الذكر في مقامات الأولياء بشكل دوريّ وهو ما يضمن استمراريتها (صفحة المهرجان/ فيسبوك)

"تونس صوفيّة أمس، اليوم وغدًا"

يقول حمزة (27 سنة)، أحد مُريدي سيدي علي الحطّاب، لـ"الترا تونس": "منذ وعيتُ على نفسي لم أفوّت خرجة لسيدي علي الحطاب. وعندما كنت صغيرًا كنت أحضر دائمًا حلقات الذّكر رفقة والدي بمقام الوليّ. يشعرني ذلك بالنشوة وأحسّ في كلّ مرّة بأنّني أرتفع من هذه الدنيا إلى عالم آخر نقيّ، فهذه الحلقات هي شكلٌ من أشكال التطهير الداخلي الذي ينقّي النفس ويصفيها من كل شوائب الدنيا".

حمزة (أحد مريدي سيدي علي الحطاب) لـ"الترا تونس": تونس صوفيّة أمس، اليوم وغدًا. وحلقات الذكر في مقامات الأولياء موروثة جيلًا عن جيل وتنظيمها دوريًّا هو الذي يضمن استمراريتها بالأساس في تونس

"أترابي لا يتقبّلون حقيقة ميولي إلى التصوّف ويربطونها بالاختبال والهُتر، لذلك قليلون من يعرفون تصوّفي"، يضيف الشاب الذي يرتدي قميصًا عصريًّا ودجينز وحذاء رياضيًا من آخر الصيحات، مشيرًا إلى أنّ التصوف ليس مرتبطًا بالشكل وبالحداثة لأن المسألة وببساطة روحانية وذاتية، وفق تعبيره.

اقرأ/ي أيضًا: في تونس.. صوفيون بربطات عنق

ويضيف حمزة، في سياق آخر: "تونس صوفيّة أمس، اليوم وغدًا، وستبقى صوفيّة ما بقيَ الإنسان فيها"، موضّحًا أنّ حلقات الذكر في مقامات الأولياء موروثة جيلًا عن جيل وتنظيمها دوريًّا هو الذي يضمن استمراريتها بالأساس في تونس".

"التصوف ليس مرتبطًا بالشكل وبالحداثة لأن المسألة وببساطة روحانية وذاتية"، وفق أحد مريدي الحطاب (صفحة المهرجان/ فيسبوك) 

هروب من الواقع إلى الوهم

من المنظور السوسيولوجي، يرى الباحث في علم الاجتماع سامي نصر أنّ "ظاهرة الاعتقاد بالأولياء ليست جديدة في تونس، وتدخل في جذور وخصوصية المواطن التونسي"، وفق تقديره.

سامي نصر (باحث في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": الأولياء الصالحون لهم مكانة هامة لدى الشعب التونسي، ومهما بلغت نسبة التحضّر والتقدّم، يبقى الوليّ ذا شأن كبير لدى شريحة كبرى من التونسيين

وأضاف نصر لـ"الترا تونس"، في هذا السياق، أنّه "عندما جاءت فرنسا لاحتلال تونس، ومن خلال تجربتها في احتلال الجزائر وجدت أنها كلّما مارست ضغوطًا أكثر على الجزائريين كلّما التفّوا أكثر حول هويتهم، فقرّرت ألّا ترتكب نفس "الخطأ" في تونس. فنصبت مكاتب مخابرات فرنسية في الجزائر، تدرسُ فيها خصوصية الشعب التونسي ومن بينها علاقته العميقة بالأولياء الصالحين".

زاوية سيدي علي الحطاب (صفحة المهرجان/ فيسبوك) 

وتابع الخبير السوسيولوجي القول: "بعد أن فهم الفرنسيّون جيدًا خصوصية التونسي، واستخلصوا من الدراسات التي أجروها أن الأولياء الصالحين يحظون بمكانة كبيرة لدى التونسيين، قرّروا أخذ ذلك بعين الاعتبار"، موضّحًا أنه "بالعودة إلى أحداث الاستعمار الفرنسي لتونس، عندما كانت تقع مطاردة أحد المجاهدين، إذا ما احتمى داخل زاوية أحد الأولياء كان الجنود الفرنسيون يتوقفون عن إطلاق النار، ولم يعمد المحتل الفرنسي على تفجير أيّ مقام للأولياء الصالحين نظرًا لإدراكه أهمية الأولياء عند التونسي وما من شأنه أن ينجرّ عن ذلك من وقع اجتماعي ربما هو أفدحَ من قتل نصف الشّعب، مما من شأنه أن يفجّر غضبًا شعبيًا محتملًا في وجه المحتلّ"، وفق تقديره.

نصر لـ"الترا تونس": أمام تراكم الأزمات، يحتاج التونسي إلى الهروب من الواقع والبحث عن أي خيط غيبي للتمسك به، وبالتالي فإن الرجوع إلى الأولياء الصالحين هو شكل من أشكال الهروب من الوضع المَعيش

ويعتبر سامي نصر أنّ"الأولياء الصالحين لهم مكانة هامة لدى الشعب التونسي، ومهما بلغت نسبة التحضّر والتقدّم، يبقى الوليّ ذا شأن كبير لدى شريحة كبرى من التونسيين"، مستدركًا أنّ "ما يختلف بين الأمس واليوم في علاقة التونسي بالأولياء، هو أن الناس كانوا في السابق يشهّرون بولائهم للأولياء ويفتخرون بكونهم من أتباع هذا الوليّ أو ذاك، أما في يومنا هذا، فمن الملاحظ أن الاحتفاء والتباهي بالأولياء شهد تراجعًا بنسبة كبيرة".

ويضيف محدّث "الترا تونس" أنه "أمام تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يحتاج التونسي إلى الهروب من الواقع والبحث عن أيّ خيط غيبيّ للتمسّك به، وبالتالي نعتبر أنّ الرّجوع إلى الأولياء الصالحين هو شكل من أشكال الهروب من الوضع الاجتماعي المَعيش. التونسي اليوم يبحث عن طرف أي خيط أملٍ حتّى ولو كان وهمًا"، متابعًا القول إنّ العقل عندما يعجز عن تحمّل واستيعاب ما هو واقعيّ يخيّر اللجوء إلى الخرافة والأسطورة من أجل إيجاد ما يطمئنه.

وأردف الباحث في علم الاجتماع، في السياق ذاته، أنّ "التقدّم الذي حصل هو تقدم وتطور في الشكل وليس في المضمون، فالتونسي دائمًا يجد نفسه مرتبطًا بكلّ ما هو قديم وروحاني وله علاقة بالزمن البسيط الجميل"، حسب تقديره.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأولياء الصالحون في تونس.. ذاكرة وطقوس

"الزردة" و"الوعدة".. احتفالات وطقوس لطلب الأمنيات