25-أبريل-2022
ماهر جعيدان

يُنسب الكتاب إلى "ابن عبد ربه الحفيد" وكان نقله خليطًا من مصادر سابقة وشهادات عيان (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

كل يوم نفتح أعيننا على وطن يشدنا الحنين إلى أديمه والشوق إلى الكشف عن تاريخه وآثار الغابرين ورائحة الأجداد الأولين. كلّما ضاق بنا الحاضر، ننفلت إلى الماضي نبحث عنه في صبانا وسيرة آبائنا وما بقي منهم فينا. وكلما اشتدت الغربة، عاد بنا الشوق إلى أمجاد خِلناها قد اندثرت، ولكن نجد آثارها في المتاحف وبين الورق الذي صبر على مرّ الزمن وقد وشم الحبر كفّه.

قد نعود إلى مؤلفات قديمة وحكايات بعيدة وطرائف جميلة وعجائب غريبة تروي تاريخ أرض قد اختفت أو جغرافيا قد امّحت أو غراسة قد انقطعت أو بناءات قد ردمت أو واقعة قد انفصلت فيها الرواية حتى تركت.

"الاستبصار في عجائب الأمصار" كتاب يعود إلى القرن السادس للهجرة لرجل مراكشيّ مجهول، يحتوي عن معلومات دقيقة وأساطير طريفة عن مناطق في إفريقية خصّ منها العديد من البلدان التونسية

وفي إحدى البحث عن تاريخ المزارعين في إفريقية، عثرتُ على أثر مكتوب يجمع بين التاريخ والجغرافيا ويروي رحلة بين البدو والحضّر، يعود إلى القرن السادس للهجرة – 587 هجرية-، مؤلَف قيل إنه لرجل مراكشيّ مجهول يحمل عنوان "الاستبصار في عجائب الأمصار" يحتوي عن معلومات دقيقة وأساطير طريفة عن مناطق في إفريقية خصّ منها العديد من البلدان التونسية، فتحدثت عن منسوجات سوسة وحرير قابس وثمر الواحات وفستق قفصة وموز قابس، وتوغل في أعماق الجريد التونسي وخصائص الساحل وخصب الشمال فأتحفنا بوصف فريد وصورة نادرة عن زمن مفقود.

تجوّل صاحب الكتاب بين ربوع البلاد التونسية في حدود لم تكن موجودة، فأفرد البلدان الساحلية المطلة على البحر بالحديث عنها منفصلة عن البلدان الواقعة في الجريد وعلى مشارف الصحراء، كما تنقل إلى أراضي الشمال وانعطف إلى تونس وقرطاجنة.

كنا قد وصفنا بعض البلاد من خلال معالم ما تزال قائمة وأخرى قد اندثرت، ولكن بقي من آثارها في المتاحف شيء قليل، ومن ذلك أننا كنا قد أشرنا إلى وجود ملعب روماني في سوسة يلقب اليوم بمنطقة "الحجرة المقلوبة" التي تحوم حولها الأساطير وتصنف من أعاجيب البلاد السبعة، وها نحن اليوم نجد أثرها في كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار إذ يقول المؤلف "فيها (سوسة) بنيان عظيم يسمى الملعب وهو من أغرب البنيان فيه أقباء معقودة بحجر النشف الذي يطفو فوق الماء المجلوب من بركان صقلية".

كما يذكر المؤلف "برج خلف الفتى" الذي يعلو أسوار سوسة ويشرف على البراري والسواحل فيقول فيه "وداخل سور المدينة هيكل عظيم يسميه البحريون الفنطاس وهو أول ما يرون من البحر إذا قصدوا من صقلية وغيرها".

وينوّرنا الكتاب بما هي عليه البلدان التي زارها من نشاط فلاحي وصناعي وتجاري فذكر عن سوسة بأنها "مخصوصة بكثرة الأمتعة وجودة الثياب الرفيعة في طرزها وكمدها لا يصنع ببلد مثل صنعته بهذه المدينة، والثياب السوسية معلومة لا يوجد لها نظير لها بياض رائق وبصيص لا يوجد في غيرها. ومنها تجلب الثياب الرفيعة مثل عمائم المعمور وغيرها وتساوي منها العمامة 100 دينار وأزيد يحمله التجار إلى جميع البلاد شرقًا وغربًا".

وللاستئناس بما ذكر في الكتاب، اتصلنا بالباحث المختص في التاريخ أحمد الباهي فأقر بالمعطيات المذكورة عن سوسة وذلك بالنظر إلى جملة من التقاطعات في الروايات والمؤلفات والوقائع، فقد عرفت سوسة منذ العهد الأغلبي بـ"القماش السوسي" إلى حد أن الملوك والأمراء والأباطرة يطلبونه من كل الأمصار ويحرصون على التزوّد به.

أحمد الباهي (باحث مختص في التاريخ) لـ"الترا تونس":  المؤلف لم يعد مجهولًا بالنسبة للباحثين، وينسب كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" إلى "ابن عبد ربه الحفيد"، وقد جاء إلى إفريقية وزار تونس مع حملة الموحدين

وأشار أحمد الباهي إلى ضرورة عدم الخلط بين المنتوجات الحريرية والأنسجة من خيط الكتّان، فقد "عرفت سوسة بثروة معتمدة على نبتة الكتان البنفسجية اللون (الخزامى)، وكانت مزارع الكتان مركز قوة القماش السوسي ومصدر ثروة البلاد إلى حد نهاية القرن الثامن عشرة، إثرها كان التحول في القرن التاسع عشر إبان الثورة الصناعية في أوروبا وذلك بظهور المنتوجات القطنية فانهارت المنتوجات الكتّانية في ظرف 20 سنة".

ويضيف الباحث أحمد الباهي أن "الأقمشة الكتانية كانت تحاك في كل بيت، وكانت النساء يغزلن الخيط ويصنعن الملابس، وازدهرت حركة التجارة بين سوسة ومصر على متن المراكب وخاصة مراكب آل الجربوعي الذين اختصوا بتسويق هذه المنتوجات، ومن الموروث الغنائي في ذلك أن النسوة كنّ ينتظرن المراكب القادمة ويغنين "ميلي ميلي يا مركب الجربوعي.." فرحًا بقدومها في الميناء.

كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" عن قابس: الموز بها كثير، وليس بإفريقية موز إلا فيها، وفيها شجر التوت كثير، وبها الحرير، وحريرها أطيب الحرير وأرقه، وليس يُعمل بإفريقية حرير إلا بها

وفي سياق متصل بالكتاب، أكد أحمد الباهي لـ"الترا تونس"، أن المؤلف لم يعد مجهولًا بالنسبة للباحثين، وينسب كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" إلى "ابن عبد ربه الحفيد" وهو حفيد ابن عبد ربّه صاحب كتاب "العقد الفريد"، وقد جاء إلى إفريقية وزار تونس مع حملة الموحدين وقد عاش في مراكش سنة 588 هجرية، وكان نقله خليطًا من مصادر سابقة وشهادات عيان، وكان قد تنقل خاصة إلى الجنوب، ومن ذلك زار توزر وقفصة وقابس ومنطقة الجريد والشمال الغربي، وفق الباحث.

ومن بين ما ذكره الكتاب عن قابس، أنّ من بين أهم الثمار التي كانت تُنتج فيها الموز فيقول: "وهي كثيرة الثمار والموز بها كثير، وليس بإفريقية موز إلا فيها، وفيها شجر التوت كثير، وبها الحرير، وحريرها أطيب الحرير وأرقه، وليس يُعمل بإفريقية حرير إلا بها".

كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" عن صفاقس: زيتها أطيب من كل زيت إلا الشرقي، وتحمله المراكب إلى بلاد الروم وعليه معوّل أهل صقلية وإيطاليا وجميع سواحل الأرض الكبيرة لكثرته وطيبه

كما كشف لنا عن جغرافية المنطقة قائلًا: "مدينة قابس لها حصن حصين وأرباض واسعة وفيها فنادق وحمامات، وقد أحاط بجميعها خندق كبير يجرّون إليه الماء إذا خافوا من نزول عدو إليهم، فيكون أمنع شيء، ولها وادٍ يسقي بساتينها وأرباضها ومزارعها، وأصل هذا الوادي من عين خرارة في جبل بين القبلة والمغرب وهو يصب في البحر".

وضرب لنا قولًا مأثورًا عن قابس تداوله الأولون في إشارة منه إلى موقعها الجغرافي بين البحر والجريد والصحراء وقال: "يقال ما اجتمع في مائدة رجل 3 أشياء متضادة المواضع إلا في مائدة من يسكن قابس: يجتمع فيها الحوت الطري ولحم الغزال الطري والرطب الجني".

قابس 1900 (Roger Viollet /Getty)

وقد أكد لنا أحمد الباهي سلامة هذه المعلومات الواردة في الكتاب إذ تردد القول إن الموز في قابس كانت تنفرد به عن سائر بلدان إفريقية.

أما صفاقس فقد حافظت على إرثها إلى اليوم في إنتاج الزيت وغراسة الزيتون واستئثار الإيطاليين بمنتوجها فقال عنها "زيتها أطيب من كل زيت إلا الشرقي، وتحمله المراكب إلى بلاد الروم وعليه معوّل أهل صقلية وإيطاليا وجميع سواحل الأرض الكبيرة لكثرته وطيبه، وقد كانوا ملكوا هذه الجهات الساحلية حتى أخرجهم منها أمير المؤمنين سنة 555 هجرية".

ولعل ما يشد انتباهنا في الكتاب ما تم وصفه من أحوال الزراعة والمزارعين وطبيعة الأرض والمياه وآليات التزود للسقي والاستهلاك، مما يعطي صورة عن "تونس خضراء" يعم بها الخير ويطيب فيها العيش، فقد وصف صاحب الكتاب بلاد الجريد في إفريقية قائلًا: "كثيرة الخصب والتمر والزيتون والفواكه وجميع الخيرات، وهي آخر بلاد إفريقية من طرف الصحراء وفيها المياه السائحة والأنهار والعيون الكثيرة".

صفاقس 1900 (Roger Viollet /Getty)

ولعلّ أبرز ما انتبه إليه صاحب المؤلَف في رحلته إلى قفصة، النظام الزراعي الذي كانت عليه، ونظام الري الذي يكشف عن مجتمع فلاحي متطور خلال القرن الخامس للهجرة، مما أكسب تلك المنطقة رقيًّا وازدهارًا يضاف إلى ماضيها العريق، فقال فيها: "لأهل قفصة في سقي جناتهم هندسة عظيمة وبرشام شديد وتدقيق حساب". وتابع: "غابة قفصة كثيرة النخيل والزيتون وجميع الفواكه التي لا لبس في بلد مثلها فيها تفاح عجيب جليل زكي الرائحة يسمونه السدسي".

كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" عن قفصة: أكثر البلاد فستقًا، وفي بساتينها من الرياحين كثير مثل الآس والياسمين والنرج والنرجس والسوسن والبنفسج.. وكذلك ليس بإفريقية حريم أجمل من حريم قفصة

وقيل في قفصة إنها "أكثر البلاد فستقًا، وفي بساتين قفصة من الرياحين كثير مثل الآس والياسمين والنرج والنرجس والسوسن والبنفسج"، ويقول أهل قفصة: "إذا رأيت قومًا يتخاصمون وقد علا بينهم الكلام فتعلم أنهم في أمر الماء، وكان على أحد أبوابها كتابة منقوشة في حجر من عمل الأول ترجم فيها: هذا بلد تحقيق وتدقيق".

كما وصف نساءها قائلًا: "وكذلك ليس بإفريقية حريم أجمل من حريم قفصة مع ملاحة أخلاقهن ورخامة منطقهن".

قفصة 1910 (Roger Viollet /Getty)

وعن مدينة تونس قال أشرف مدن إفريقية وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة، فمن ذلك اللوز الفريك يفرك بعضه بعضًا دون أن تمسّه يد لرقة بشرته، وكذلك الرمان والأترج والسفرجل والتين وجميع الفواكه لا يوجد لها نظير".

ويقال إنه "كان اسمها في القديم ترشيش وإنما سميت تونس في أيام الإسلام وكان بقرب ترشيش هذه صومعة راهب فكانت سرايا المسلمين تنزل بإزاء تلك الصومعة وتأنس بصوت الراهب فيقولون هذه الصومعة تُؤنس فلزمها الاسم فسميت تونس".

كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" عن مدينة تونس: أشرف مدن إفريقية وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة، كان اسمها في القديم ترشيش وإنما سميت تونس في أيام الإسلام

إن كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" وإن يكشف بعض ما تختص به البلاد التونسية من ثروات اقتصادية، فإنه يكشف كذلك عن خصائص المجتمع المحلي في بنيته الاجتماعية والسياسية، ولعل تقاطعات الكتاب مع مؤلفات أخرى قد أكسبته مصداقية علمية أثنى عليه الباحثون في التاريخ والجغرافيا. 

ولعلّ ما ذكره المؤلف عن القيروان ورقادة وجلولاء والمهدية وقصر الجم وباجة وقرطاجنة وبنزرت.. ما يجعله مادة دسمة يستنجد بها في التحقيق والتدقيق عن تاريخ شعوب سكنت هذه البلاد. كما نلاحظ أن اختفاء هذه المعلومات الواردة عن الكتب المدرسية والتربوية اليوم، هو جزء من القطع المتعمّد مع حقبة تاريخية في ظل صراع مؤدلج محوره "الغزاة وأصحاب الأرض".