27-مايو-2022
فيسبوك

"من الواضح أن هناك غضبًا متصاعدًا غربيًا مما يحدث في تونس"

مقال رأي

 

لا نحتاج إلى الكثير من المؤشرات لنفهم أن "الحوار الوطني" كما حدده قيس سعيّد في المرسوم عدد 30 آيل إلى الفشل. تحديد مكونات "حوار"، بعد أن أعلنت في أغلبها خاصة منها اتحاد الشغل وعمداء كليات الحقوق، عدم مشاركتهم فيه، لا يمكن أن يكون سوى فشل موثّق في مرسوم.

السؤال يصبح في الواقع من شقين: هل سعى قيس سعيّد أصلًا إلى إنجاح الحوار؟ وقبل ذلك وبعده في نهاية الأمر، هل فشلُ الحوار يمكن أن يؤدي إلى فشل الاستفتاء، أهم محطة في إنجاح خارطة طريق قيس سعيّد، وأول مناسبة جدية لتفعيل شعاره الفخم "الشعب يريد؟".

لم يبد سعيّد في السابق أي حماس أو عاطفة قوية تجاه "الحوار الوطني". قبل انتخابه.. وذلك موقف منسجم مع تصوره العام: الحوار المغلق بين ممثلين للنخبة هو التعبير ذاته عن مأزق الديمقراطية التقليدية كما يراها

ماذا فعل قيس سعيّد حتى ينجح الحوار؟ لنبدأ تحديدًا من اتحاد الشغل. تجاهل الاتحاد لأشهر طويلة، وباستثناء استقبالات قليلة تحصى على أصابع اليد الواحدة، وكانت شكلية في علاقة بالملف السياسي، الذي أصر الاتحاد على التعرض إليه وخاصة منه محور لعب دور أساسي في تقرير مضمون الدستور، وأيضًا محور المواعيد وأولوية الانتخابات المبكرة على أي استفتاء، حيث رفض قيس سعيّد أي تشاركية مع الاتحاد في هذه المحاور. في حين تركز حديث الرئيس مع الأمين العام للمنظمة حسب شهادات متقاطعة على الشأن الاجتماعي، والتأكيد على اتفاق الرئيس معه حول أولويات المفاوضات مع صندوق النقد. بالمحصلة، كان ذلك تنويمًا مطولًا من الرئيس للمنظمة التي تتقن عادة ألعاب السياسة.

لم يبد قيس سعيّد في السابق أي حماس أو عاطفة قوية تجاه "الحوار الوطني". قبل انتخابه، كان عادة ما يتندر منتقدًا الجولات السابقة للحوار الوطني ناعتًا إياه بـ"الحمار الوطني"، مستعيرًا زلّة لسان العميد عبد الستار بن موسى عند افتتاح الحوار الوطني في 2013. وذلك موقف منسجم مع تصوره العام: الحوار المغلق بين ممثلين للنخبة هو التعبير ذاته عن مأزق الديمقراطية التقليدية كما يراها. الفعل الديمقراطي بالنسبة له يجب أن يكون بعيدًا عن غرف الحوار النخبوية. استعداؤه الجذري للنخبة، وأنها موطن الشرور مقابل "الشعب الطيب" موطن كل الخير، وهي أحد الأركان الرئيسية للفكرة الشعبوية، منهجية أساسية عند الرجل.

"الحوار" بين ممثلي النخبة هي الفكرة المضادة لما يؤمن به. بهذا المعنى، إن جنح للحوار فإن ذلك سيكون نتيجة عن أمر واحد: موازين قوى تجبره على ذلك. أما إذا لم يفعل فيكون عندها من المسلّم أنه يرى موازين القوى لصالحه، بمعزل عن واقعية ذلك من عدمه.

لا يرى سعيّد حوارًا صوريًا، أمرًا ضروريًا وشرطًا لتحقق خارطة الطريق.. وكل ما يحصل لن يجعله يتراجع سنتمترًا إلى الوراء، لأنه يرى أن موازين القوى في صالحه

وحتى نتحرى الدقة، لا يعني ذلك بالمناسبة أن الرئيس لم يكن يحتاج حوارًا صوريًا يشارك فيه جميع من حدد مشاركتهم. لكن في كل الحالات، لا يرى حتى حوارًا صوريًا بمشاركتهم أمرًا ضروريًا وشرطًا لتحقق خارطة الطريق. في النهاية، خارطة الطريق تضمنت محطات لم يكن الحوار من بينها، حتى في إطاره الصوري. إذًا كل ما يحصل لن يجعل قيس سعيّد يتراجع سنتمترًا إلى الوراء، لأنه يرى أن موازين القوى في صالحه. فهل هي فعلًا كذلك؟

ما الذي يمكن أن يقف عقبة أمام الاستفتاء؟ هناك صيغتان لإفشال محطة الاستفتاء: إما خلق ظروف لإبطالها، أو إفشالها عبر حملة تصل بأغلبية "لا". ما هي الظروف التي يمكن أن تصل بنا وضع يبطل الاستفتاء؟ بالتأكيد ليس إجماع النخبة المعنية بالحوار. داخليًا، النخبة السياسية المنقسمة إلى ثلاثة فرق أساسية، لا تقدر مجتمعة على تعبئة الشارع. أكثرها قدرة، أقصى ما يمكن أن يعبّئه مثلما أوضحت التحركات السابقة، لا يتجاوز خمسة آلاف شخص. 

هناك صيغتان لإفشال محطة الاستفتاء: إما خلق ظروف لإبطالها، أو إفشالها عبر حملة تصل بأغلبية "لا"

تبقى النخبة الاجتماعية بدءًا من الاتحاد، الذي يواجه انقسامات داخلية عميقة: إذ هناك فرق بين أن يحقق إجماعًا داخليًا على رفض المشاركة في حوار صوري يحقّر من دوره (والعصبية النقابية كما تفعل تاريخيًا تجمع كل الفرقاء حول هذه النقطة)، وبين أن يتجنّد في سبيل إسقاط الاستفتاء عبر تحركات اجتماعية صاخبة. حتى الإضراب العام المقرر في الوظيفة العمومية تجنبت الهيئة الإدارية تحديد تاريخ له، وحتى لو تم تنفيذه لا يمكن الجزم أنه سيلقى مقبولية شعبية واسعة، إذ أن الاتحاد يعاني أيضًا، وللمفارقة، في أوساط جزء من المعارضة الموالية للنهضة خاصة المعنية بمواجهة قيس سعيّد، بصد كبير وتسويق أنه مسؤول عن "العشرية السوداء" كما يسميها أنصار الرئيس، ولكن أيضًا، جزء مهم من كوادر الاتحاد. 

يبقى العامل الرئيسي الوحيد داخليًا الذي سيكون قادرًا على إيقاف قيس سعيّد، هو حراك اجتماعي صاخب في مختلف الجهات سيجعل القوات الحاملة للسلاح غير متحمسة في الوقوف أمامه

يبقى العامل الرئيسي الذي أكرر أنه داخليًا الوحيد الذي سيكون قادرًا على إيقاف قيس سعيّد: حراك اجتماعي صاخب في مختلف الجهات سيجعل القوات الحاملة للسلاح غير متحمسة في الوقوف أمامه، وربما يساهم في جعلها تضغط على الرئيس لتعديل أوتاره في أقل الحالات. لكن ما هي أفق تحركات مماثلة؟ أوضاع المواد الأساسية من قموح وغيرها وأيضًا المحروقات، يمكن أن تشعل فتيلًا سريعًا، لكن ليس هناك ما يشير إلى حتمية وقوع ذلك هذا الصيف.

يبقى العامل الخارجي. من الواضح أن هناك غضبًا متصاعدًا غربيًا مما يحدث في تونس. وما هو في أهمية تصريحات الرئيس تبون غير المسبوقة حول "المأزق في تونس"، في إيطاليا ربما الموقف الإيطالي المضمر والذي يرى بدوره نفس "المأزق". إيطاليا مهمة في قياس التوجه الأوروبي لأنها الأقرب إلى الرضا عن تونس بسبب التزام قيس سعيّد بسياسة هجرة منضبطة ومتماهية مع الطلبات الإيطالية. لكن أوروبا أيضًا من قررت في هذا السياق تحديدًا صرف 300 مليون يورو كان يمكن أن تماطل قبل صرفها. 

أقل من 15% نسبة مشاركة في الاستفتاء ستكون سياسيًا، ضربة إضافية لخارطة طريق سعيّد

إذًا، هذا مؤشر صامت وبالممارسة على أن الخوف الأوروبي من فوضى وانفلات الهجرة، أكبر حتى الآن على الأقل من غضبها على قيس سعيّد. أيضًا الجزائر التي تعتبر ما يحصل "مأزقًا" سياسيًا، هي تقوم كذلك بحل مشاكل الغاز في تونس. فقد صادق مجلس الوزراء الأخير (25 ماي/ أيار) على"مشروع مرسوم يتعلق بالموافقة على اتفاقية الضمان المبرمة بتونس بتاريخ 13 أفريل/ نيسان 2022 بين الجمهورية التونسية والمصرف المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية والمتعلقة بالقرض المسند للشركة التونسية للكهرباء والغاز لتمويل شراءاتها من الغاز الطبيعي الجزائري بصفة جزئية". ويبدو ذلك في تماهٍ مع إعلانات وزارة الطاقة أن مخاوف قطع الغاز عن تونس غير دقيقة.

أخيرًا، إن فشل كل ذلك، هل يمكن أن تكون نسبة "صغيرة" من المشاركة، لنقل أقل من مليون أو أقل من 15% فشلًا للاستفتاء؟ سياسيًا، وعلى مستوى الصورة، ستكون ضربة إضافية لخارطة طريق قيس سعيّد. لكن عمليًا، سيعني الأمر أيضًا تمرير دستور جديد وقواعد لعبة جديدة، وستنطلق ديناميكية سياسية جديدة نحو انتخابات ديسمبر/ كانون الأول، إن لم يوقفها أي من العوامل أعلاه.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"