15-يوليو-2020

أخذت جغرافية قطاع "البرباشة" في إعادة التشكّل على نحو جديد في تونس (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

سادت بتونس لعقود طويلة صورة نمطية عن "البرباشة" (منقّبو النفايات)، فهم في المخيّلة الشعبية رجال الهامش الاجتماعي الذين لا يعوّلون على الدولة بمختلف مؤسساتها لدحر الفقر والخصاصة، فتراهم يختلقون حلولًا فردية لمواجهة صعوبات الحياة، فتصبح مصبّات النفايات المنزلية والصناعية المنتشرة بالأحياء السكنية للمدن الكبرى أو تلك الموجودة بالضّواحي وتشرف عليها البلديات ملاذًا بل هي مجالهم الحيوي الذي يؤمّنون من خلاله قوت عوائلهم بشرف المحاربين في ساحة وغى الحياة الواسعة.

تحوّل لفظ "البرباشة" إلى مصطلح سوسيولوجي رائج ضمن العديد من الدراسات الاجتماعية، فهو يحيل مباشرة على نشاط غير نظامي لشريحة مجتمعية تعيش في أقصى هامش المجتمع

كما تحوّل لفظ "البرباشة" إلى مصطلح سوسيولوجي رائج ضمن العديد من الدراسات والبحوث الاجتماعية، فهو يحيل مباشرة على نشاط غير نظامي لشريحة مجتمعية تعيش في أقصى هامش المجتمع وتنشغل بالنفايات المنزلية أو الصناعية فتبيعها أو تعيد إليها الحياة ضمن دورات تجارية متعددة.

اقرأ/ي أيضًا: سوسيولوجيا "النّصبة"... أو الفقر الدّابغ في وطن لا يبالي

ومع تنامي الأزمة الاقتصادية في تونس، أخذت جغرافية قطاع "البرباشة" في التوسع وإعادة التشكّل على نحو جديد. إذ تبيّن المؤشرات الإحصائية للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات أن أكثر من 150  ألف شخص ينشطون في مجال النفايات من بينهم ما يناهز 70 ألف "برباش" ينتشر أكثر من نصفهم بجهة تونس الكبرى، وقد سعى المئات منهم إلى بعث جمعيات مدنية تعنى بهذا القطاع الهامشي وتطالب بهيكلته والاعتراف به كنشاط اقتصادي نظامي. ومن هذه الجمعيات، نجد "جمعية البرباشة بحي التضامن"، كما يعتبر حيّ "دوّار هيشر" من ولاية منوبة ذي الكثافة السكانية العالية واحدًا من الأحياء النشطة في هذا المجال.ص

لكن في السنوات الأخيرة، برزت داخل عالم "البرباشة" ظواهر جديدة منها تنامي الوسطاء بينهم وبين مصانع الرسكلة والتحويل التي تستقبل آلاف الأطنان من النفايات المتنوعة، وأيضا تشكل عصابات صغيرة تحتكر أحياء بعينها. أما الظاهرة اللّافتة للانتباه، وجعلت"ألترا تونس" يستعرض هذا التقرير، فهي بروز "برباشة" بسيارات رباعية الدفع يختص بعضهم في أماكن ونفايات بعينها فينتشرون مساءً في أحياء العاصمة بكل همة فيغنمون بقوة السواعد وقوة الميكانيك ما يريدون ثم يتركون لبقية "البرباشة" النزر القليل.

مع نزول الليل وخفوت حركة المارّة وتكدّس القمامة والنفايات بأنواعها في أماكنها المعتادة عند الزوايا والمنعطفات المهجورة بالأحياء وناصيات الشوارع، يبدأ فعل "التبربيش" بأنواعه وأصنافه، فترى "البرباشة" فرادى وجماعات من مختلف الأعمار ومن الإناث والذكور يحملون أكياسًا على ظهورهم وبدراجات هوائية وأخرى نارية بمجرورات صغيرة.

السيارة لا تخرجك من دوائر الشقاء

بإحدى الأماكن المخصصة لوضع القمامة المنزلية بمدينة منوبة، تتقدّم سيارة رباعية الدّفع من المزبلة التي تفوح منها روائح كريهة، يتعالى من مضخم صوت السيارة أغنية الجزائري رشيد طه "يا الرّايح وين مسافر تروح تعيا وتولّي". ينزل شاب ثلاثيني بلباس رياضي وسروال دجينز أزرق، يتقدّم بثبات من الأكياس المكدسة عشوائيًا، يشعل كشّاف الضوء من هاتفه الشخصي ويشرع في تفقد غنيمته ويبدأ في العمل، ثم يخرج، بسرعة الخبير، من تلك المزبلة التي تشبه الجبل الصغير مجموعة من أكياس تحوي "بقايا الخبز".

تنشط جمعيات مدنية تعنى بقطاع "البرباشة" تطالب بالاعتراف به كنشاط اقتصادي نظامي (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تظاهرتُ بإلقاء كيس القمامة واقتربت من الشاب وبادرته بالسؤال ولم يمانع من الإجابة، فقد تبيّن أن شغله هو "الخبز البايت" (بقايا الخبز)، وقال إنّ والده يتاجر في  أكياس الخبز منذ عشرين سنة فهو يبيعها لمربّي الماشية بالأسواق الأسبوعية بالشمال الغربي الذين يستعملونها كعلف لحيواناتهم في أيام الجفاف وعند اشتداد المضاربة في الأعلاف المركّبة. 

وأكد الشاب أن السيارة التي يقودها هي مصدر قوت عائلته وفيرة العدد، إذ للسيارة أدوار أخرى يقوم بها بقية إخوته كبيع ماء الشرب بالأحياء الشعبية بالعاصمة، وجلب "بالات التبن" من المناطق الفلاحية وبيعها في المدن وخاصة في أسواق الأحياء الشعبية. وبيّن أنّه أصبح "برباشًا" بعد أن كثر "برباشة الخبز"، وتنامى عددهم وكثر الوسطاء الذين تحوّل بعضهم إلى محتكرين باتوا يتحكمون في هذه البضاعة في كل مراحلها وذلك كأن يدفعوا مسبقًا لأصحاب المخابز حتى لا يبيعوا "الخبز البايت" إلى غيرهم.

ذكر محدّثنا أن ثمن كيس الخبز المتعارف عليه في السوق كان يقتنيه من عند "البرباش" أو "اللّقاط" بخمسة دنانير تونسية، ولكنه ارتفع في السنوات الأخيرة إلى ثمانية دنانير، وأحيانًا يتضاعف الثمن، وبالتالي بات من الضروري النزول إلى الميدان والقيام بجهد إضافي من أجل المحافظة على مستوى دخل العائلة والإيفاء بالإلتزامات مع تجار الولايات الفلاحية. وأضاف أن هذه المهنة شاقة ومليئة بالأخطار الصحية، مشيرًا إلى أنه يتعرّض أحيانًا إلى العنف من قبل بعض "البرباشة" الذين يرون في السيارة مزاحمة قوية وربما زوالًا لرزقهم. وختم بأنّ عالم "البرباشة" مليء بالرزق لكنه يتطلب صبرًا ومجالدة والتفاتة من الدولة من أجل تنظيمه وضبطه.

محرز: المنافسة شديدة على الكرتون والسيارة ضروري

في وسط البلد بالعاصمة وتحديدًا بنهج الجزيرة والأنهج المتفرعة عن السوق المركزية وتلك المتاخمة لسوق سيدي بومنديل حيث يكثر باعة الرصيف و"النّصب" و"البسطات" بمختلف أنواعهم، وحيث تجد كل السلع المحلية والصينية خاصة، ومع حلول الليل وخاصة قبل قدوم المكانس والحاويات المجرورة لأعوان البلدية بعد العاشرة ليلًا، تلوح سيارات رباعية الدفع لأصحابها من "البرباشة الجدد" راسية هنا وهناك على أرصفة الأنهج المذكورة، ولكل سيارة مهمة واضحة وسط تلك الأكوام من القمامة التي يتركها التجّار وباعة الرصيف.

محرز (برباش) لـ"ألترا تونس": توجد منافسة شديدة على علب الكرتون لأنها مطلوبة من قبل المصانع التي تحولها إلى عجين ثم تعيد تدويرها من جديد

توجه "ألترا تونس" إلى هذه الأمكنة وتحادث بواسطة أحد تجار سيدي بومنديل مع "برباش" مختص في جمع علب الكرتون التي يخلفها الباعة. تردد في البداية قبل أن يسترسل في الحديث عن تجربته، إذ يقول "محرز" وهو أصيل ولاية القصرين إنه امتهن "البربشة" أو التنقيب في النفايات قبل الثورة، وكان يجمع علب الكرتون في "برويطة" (عربة)، ثم أصبح يكتري شاحنة إلي أن اشترى سيارة رباعية الدفع بالتقسيط عن طريق إحدى شركات الايجار المالي. وذكر أنه يتوجه كل يوم إلى أنهج بعينها بالعاصمة ليقضي جزء كبير من الليل في جمع علب الكرتون ثم يتولى بيعها لأحد مصانع الرسكلة المختصة بمقابل محترم يمكّنه من العيش الكريم وتسديد أقساط السيارة. وأكّد أن هناك منافسة شديدة على علب الكرتون لأنها مطلوبة من قبل المصانع التي تحولها إلى عجين ثم تعيد تدويرها من جديد من أجل صناعة كراتين جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: كنوز ورقية.. عن حكايات "كتب الفريب" القادمة من وراء البحار

"محرز" أوضح أنه يأتي يوميًا وهو غير متأكد من وجود ضالته، فأحيانًا يأتي المنافسون قبله فيحصدون كل شيء حتى أن بعضهم لديه "صنّاع" يحلّون منذ المساء للتجميع قبل قدوم السيارات والشاحنات التي ستحمّل السلع، مبينًا أنه يعول على نقاط تجميع أخرى لا يعرفها البقية.

أما أسوأ الأيام بالنسبة لمحرز، كما يحدثنا، فهي تلك التي تنزل فيها الأمطار حينما تبتلّ علب الكرتون وتصبح غير صالحة للبيع أو أيام العطل الرسمية عندما تغلق الأسواق. أما عن مضايقة الشرطة البلدية، أكد لنا أنهم لا يلقون أي مضايقة لأنهم في النهاية يساعدون عمّال البلدية على رفع الفضلات التي يخلفها التجار وباعة الرصيف.

أحمد (اسم مستعار): "التبربيش" بأشكاله الكلاسيكية سينتهى قريبًا

قرب السوق المركزية تتكدس زبالة يوم كامل وتتجمع قربها مياه أسنة تفوح منها روائح كريهة لكن ذلك لا يمنع بعض "البرباشة" من الانغماس والبحث ولكل واحد ضالّته. يتقدّم أحدهم من الأكداس مزودًا ببعض أدوات النبش و"التبربيش"، ويضع كمّامة على وجهه وبيديه قفازات، كان شابًا نحيفًا بقبعة رياضية على رأسه. كان التواصل معه سهلًا، فبعد أن فهم قصدي من المهمة، أشار إلى سيارته الراسية في أقصى الشارع وقال إنه متخرج من الجامعة وحاصل على ليسانس في التصرف، وهو يشتغل في مجال النفايات ليس من باب البؤس وإنما هو اختيار مدروس لأن "-التبربيش- وعالم النفايات ورسكلتها بات يسهم في اقتصاد العديد من الدول مثل البرازيل والهند ومصر".

أحمد (اسم مستعار): اخترت الاشتغال في مجال النفايات ليس من باب البؤس فهو اختيار مدروس لأن "التبربيش" بات يسهم في اقتصاد العديد من الدول مثل البرازيل والهند ومصر

وأضاف "أحمد" (اسم مستعار) أنه درس بالجامعة بمدينة صفاقس، واختار منذ تخرجه مع صديقين أن يدخلوا غمار "التبربيش" من زوايا غير معهودة، فهم يختصّون في جمع قلوب غلال المشمش والعوينة والخوخ لتجفيفها ثم بيع الحبوب الداخلية لمخابر التقطير أو لتجار البقول، أما الصلب منها، وهو الأهم بالنسبة لاختيارهم، يضعونه في أكياس جميلة ويعرضونه للبيع عبر الأنترنت، وهو يُشترى ليوضع في المدافئ ليذكي النار ويعطر الفضاء وخاصة قلوب المشمش التي تلقى رواجًا كبيرًا ببعض البلدان الأسكندنافية.

كما ذكر "أحمد" أنهم يختصون أيضًا في جمع "البلاستيك النبيل"، وهو الذي نجده في علب "الياغورت" دون غيره وعادة ما يجمعونه من المحاضن المدرسية ومن نفايات المدارس الخاصة والمطاعم الجامعية.

وأكّد محدثنا أن كامل فريق العمل ينزل إلى الميدان "يبربش"، وأحيانًا يدفع المال من أجل "بربشة" نفايات بعض النزل أو المطاعم الفاخرة أو مدرسة خاصة. وأشار إلى أن "التبربيش" بأشكاله الكلاسيكية سينتهى قريبًا بتونس، وسيتحوّل إلى شركات واختصاصات، وأنه على الدولة أن تتدخل بوضع القوانين من أجل ضمان حقوق الجميع والحد من العنف داخله وتنظيم العلاقة مع البلديات والمصابات الرسمية التي يحتكرها بعض "البرباشة" الكبار دون غيرهم.

حان الوقت لهيكلة قطاع البرباشة  

يبقى "التبربيش" فعلًا إنسانيًا قديمًا يزداد تعقيدًا كلما تشعّبت الحياة بالمدينة. وفي تونس ورغم بداية بروز وعي مدني بوضعية "البرباشة" وشكل جمعيات في الغرض، فإنه يبقى فعلًا مسكوتًا عنه، وغير منظم وكذا مليء بالعنف والمخاطر وتحكمه قوة العضلات والسواعد وتغيب عنه القوانين التي تحمي الجميع.

كما أنّ الرقابة التي تقوم بها المصالح البلدية والشرطة البيئية في هذا المجال هي زجرية بالأساس وخاصة في الحلقات الدنيا، إذ يغيب التأطير والتوعية ومد يد المساعدة ببعض التجهيزات والأدوات التي تساعد على التنقيب السليم والصحي. وداخل هذه الفوضى، يتحرّك بعض "البرباشة" الأقوياء بسياراتهم رباعية الدفع في اتجاه عوالم الزبالة والقمامة، فيقتحمون المجال ويضيقون على البقية وخاصة المسحوقين منهم. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

شباب "الكالا".. عن سوسيولوجيا "النفّة" في تونس

أن تكون مصنفًا "S".. أو عندما تُسلب مواطنتك بجرّة قلم