12-مارس-2022

"سينتج عن الحراك المواطني المعارض برنامج سياسي انتقالي للإنقاذ" (صورة أرشيفية/الشاذلي بن ابراهيم/Nurphoto)

 

مقال رأي

 

في مواجهة الانقلاب وتوجّهه إلى الحكم الفردي المطلق تتشكّل ملامح "المجتمع المدني الجديد" في تونس وهو خلاصة لعملية رأب الصدع الهووي/الاجتماعي. صدع قديم بين "المجتمع المديني" (= صنيعة الدولة وقد درجنا على تسميته بالمجتمع المدني) و"المجتمع الأهلي" (= الهامش) السابق على الدولة وموضوع سلطتها وتهميشها دون أن يحظى برعايتها. فطبيعتها المركزيّة (الجهوية) تمنعها من أن تغطّي كلّ المساحة الثقافية والاجتماعية، لذلك اقتصرت تغطيتها على "مجتمعها المدني". ولم تمنع هذه التغطية توتّره معها في أكثر من محطة كان أبرزها أحداث 26 جانفي 78. غير أنّه لم يبخل عليها بالإسناد والانحياز التام إليها حين يندلع خلافها العميق مع الهامش. 

اقرأ/ي أيضًا: 26 جانفي 1978.. أحداث على هامش الذاكرة الوطنية

  • المجتمع المدني صنيعة الدولة

الهامش لم يعد الدواخل فحسب بقدر ما هو "مستوى معيشي" تستوي فيه أحياء "منزل بوزيان" و"الڤُلعة" في الدواخل و"حي بوسلسلة" و"سيدي حسين" في العاصمة وضواحيها. كان توتّر الدولة مع هامشها في محطات عديدة معلومة، ومثّل انتفاض الهامش المواطني في 17 ديسمبر 2010 حالة قصوى من التحدّي ورفض التنازل عن حقّ الدواخل الاجتماعي في العيش الكريم. ولقد تواصلت آثاره في مرحلة التأسيس وفي منعطفات مهمة من مسار الانتقال الديمقراطي (الحوار الوطني).

مثّل "انقلاب 25 جويلية" في أسابيعه الأولى صورة من انحياز "المجتمع المدني" تحت عنوان تصحيح المسار وإنقاذ الدولة، قبل أن يتبين أنّه انحياز إلى انقلاب على الدستور والديمقراطية وليس انحيازًا إلى الدولة

ومثّل انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 في أسابيعه الأولى صورة من انحياز "المجتمع المدني" تحت عنوان تصحيح المسار وإنقاذ الدولة، قبل أن يتبين أنّه انحياز إلى انقلاب على الدستور والديمقراطية يشارك فيه جزء من "السيستام"، وليس انحيازًا إلى الدولة. فقد كان الانقلاب بمنحاه السلطوي الفردي المطلق تهديدًا لوحدة الدولة واستمرارها.

وكان لبعض مراجع القانون الدستوري (عياض بن عاشور) وبعض نخب "المجتمع المدني" الثقافية والسياسية دور فاعل في التنبيه إلى حقيقة "25 جويلية" وتصويب التقدير السياسي باتجاه التمسك بمرجعية الدستور ومهمة استكمال البناء الديمقراطي.

من جهة أخرى، كانت للانقلاب بخطابه الشعبوي وادعائه التصحيح وتمثيل ثورة 17 القدرة على الوصول إلى جانب من الهامش، أمام ما عرفته سنوات الانتقال العشر من تفريط وعجز عن الأدنى من سياسات الإدماج. وإذا استحضرنا حقيقة الانقسام الاجتماعي نكون أمام اقتصاد رسمي واقتصاد مواز وأمام مجال سياسي رسمي ومجال سياسي "هامشي"، وإذا كانت طبيعة التأسيس تجعل منه بالقوة عملية إدماج للاقتصاديين والمجالين السياسيين، فإنّ الانتقال الديمقراطي بديمقراطية تمثيلية كان يتمّ داخل المجال السياسي الرسمي فحسب وبالدولة الجهوية (أي المركزية) الموروثة، بمعزل عن تفاعلات الهامش ومطالبه الاجتماعيّة.

كان لبعض مراجع القانون الدستوري وبعض نخب "المجتمع المدني" الثقافية والسياسية دور فاعل في التنبيه إلى حقيقة "25 جويلية" وتصويب التقدير السياسي باتجاه التمسك بمرجعية الدستور ومهمة استكمال البناء الديمقراطي

اقرأ/ي أيضًا: المدني والأهلي في الاحتجاجات الاجتماعية في تونس

  • خياران لا ثالث لهما

حرّكت غلبةُ المواطني في الهامش نخبةً من "المجتمع المدني" وبتأثير من أصولها الهامشية انتصرت للثقافة الوطنية أي الأهليّة وانحازت إلى الثورة والديمقراطية وطرحت فكرة التأسيس من داخل الدولة في 2011 (صارت تعرف بالصف الثوري، وأحياناً باسم الجديد في مقابل القديم ونظامه).

وقد بادرت بعض مكوناتها المستقلة بمعيّة من كانوا من ضمن "جبهة الإنقاذ" بتدشين الحراك المواطني المناهض لإجراءات 25 جويلية لإنقاذ الدولة واستعادة الديمقراطية. ويضم هذا الحراك المواطني جنبًا إلى جنب من تواجهوا في 2013 بين معارض لاعتصام الرحيل ومساند له. فقد كان الانقلاب صدمة إيجابية للنخبة الأكثر تمثيلاً لـ"المجتمع المدني" بالحدود التي رسمناها ليعيد قسم مهم منها بناء موقفه على ضوء أداء الانقلاب وعلاقته بفكرة الدولة والدستور والديمقراطية.

تظهر ملامح التشكل الجديد المشار إليها في التوسع المطّرد لمعارضة الانقلاب. ويتجلّى في المواقف المتحولة من الانقلاب وفي عرائض تتصدّى لأدائه في التضييق على الحريات واستهداف القضاء وعجزه عن مواجهة الأزمة وبقائه في حدود عناوين عامة ساذجة لا يمكن أن تعالج أزمة مالية اقتصادية هيكلية. ولن تجد تفهّمًا من شركاء يدركون حقيقة هذه الأزمة وخلفيتها السياسية.

مثّل الانقلاب هزّة قويّة للمشهد السياسي الاجتماعي مذكِّرًا بحقيقة الانقسام المضاعف (هووي/اجتماعي) وأنّه لا سبيل إلى استقرار التجربة إلا برأب الصدعين

ومثّل الانقلاب هزّة قويّة للمشهد السياسي الاجتماعي مذكِّرًا بحقيقة الانقسام المضاعف (هووي/اجتماعي) وأنّه لا سبيل إلى استقرار التجربة إلا برأب الصدعين. ويكون ذلك بإعادة بناء الدولة لتغادر جهويتها فتغطّي كل مجالها السياسي والاجتماعي، وذلك بتجاوز الانقسام الهووي (بناء مشترك وطني) والانقسام الاجتماعي (تنمية شاملة مستدامة).

ونرى رأب الصدعين وشروطهما واضحة في ملامح "المجتمع المدني الجديد" البادية بالتشكل.  وهذا التشكل، الذي "توهمنا"، هو في الآن نفسه شرط لما نسمّيه بالتسوية التاريخية. وقد أظهرت انتخابات 2014 (الرئاسيّة خاصة) وجود "نمطين" هما بين خيارين لا ثالث لهما: الاحتراب الأهلي أو التسوية التاريخيّة على قاعدة المشروع الديمقراطي الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: النخبة في تونس وشروط بناء الديمقراطية

  • من "التسوية التاريخيّة" إلى "التنازل التاريخي"

ولسنا في حاجة إلى التذكير بأنّنا بإزاء جيل جديد من الثورات الإصلاحيّة يعاد فيه ترتيب العلاقة بين السياسة والاقتصاد، ومن نتائجه متصور جديد للثورة مداره على فكرة الإصلاح. وأساس الإصلاح تحقيق "أعلى النتائج السياسيّة بأقل الخسائر البشرية والنفسية والمادية". وفي هذا المستوى يرسم مفهوم الإصلاح تمايزه عن جيل الثورات الجذريّة السابق وتصوّرها للتغيير بما هو "تصفية القديم شرط لقيام الجديد".

وإذا كان لا بديل عن التسوية التاريخية بين إرث الدولة الجهوية وآفاق المجتمع الأهلي السياسيّة فإن موضوع المنافسة السياسية والبرامجيّة سيكون حول شروط هذه التسوية.

وما نراه من تشكّل جديد يشير إلى أنها لن تكون خارج مرجعية الدستور والديمقراطية، فالانقلاب قوس في المسار الديمقراطي، ويبدو أنّ غلقه ومحوَ آثاره يتزامنان مع بروز مقومات قوة سياسية جديدة نرى نواتها في الحراك المواطني المدافع عن الدستور والديمقراطية وفي محيطه من بقايا الأحزاب الديمقراطية والشخصيات الوطنية والقوى الشبابية. وستكون هذه الكيانات عنصرًا ضروريًا وفاعلاً في إعادة تشكيل البنية الحزبية والمشهد السياسي كي لا نعود بعد الانقلاب إلى الشروط التي سبّبته.

الانقلاب قوس في المسار الديمقراطي، ويبدو أنّ غلقه ومحوَ آثاره يتزامنان مع بروز مقومات قوة سياسية جديدة نرى نواتها في الحراك المواطني المدافع عن الدستور والديمقراطية وفي محيطه من بقايا الأحزاب الديمقراطية والشخصيات الوطنية والقوى الشبابية

لن تستقرّ الديمقراطية إلاّ عند توازن بين الدولة والمجتمع، بعد أن تكون قد اكتسبت بجدارة صفة الوطنية وشرط هذه الوطنيّة تغطية كل مجالها. ويمكن الحديث حينها عن ميلاد " المجتمع المدني الجديد " نتيجة رأب الانقسامين الهووي والاجتماعي. وهذا هو جوهر المشروع الوطني المأمول.

تصطدم دعوتنا إلى فكرة التسوية التاريخيّة بنقيضة سياسيّة كنّا أشرنا إليها في مناسبات سابقة، وتتمثّل في أنّ شرط الديمقراطيّة الأساسي وأحد طرفي التسوية (حركة النهضة) هو في الآن نفسه عقبة في سبيل بلوغ المسار الديمقراطي غاياته. وجانب من هذه النقيضة عائد إلى ضعف الثقافة الديمقراطيّة وعمق الانقسام الهووي الذي حوّل الإيديولوجيا والمرجعيّة الفكريّة إلى حدود طائفيّة في بلد ليس فيه طوائف.

تصطدم دعوتنا إلى فكرة التسوية التاريخيّة بنقيضة سياسيّة وتتمثّل في أنّ شرط الديمقراطيّة الأساسي وأحد طرفي التسوية (حركة النهضة) هو في الآن نفسه عقبة في سبيل بلوغ المسار الديمقراطي غاياته

ولن تتجاوز هذه النقيضة التاريخيّة إلاّ بما نسمّيه "التنازل التاريخي". وهو يعني في بعده السياسي التكويني حلول شرط الديمقراطية الأساسي المشار إليه في هويّة جديدة. ويعني في بعده السياسي الميداني إعطاء الفرصة لكي تتولّى قيادات حداثيّة مؤمنة بالديمقراطيّة قيادة مرحلة ما بعد الانقلاب حتّى تستقرّ الديمقراطية، وتتوفّر شروط تكون فيها الشرعية الانتخابيّة مطابقة للشرعية السياسيّة والقدرة على الحكم وإنفاذ البرامج. عندها يمكن الحديث عن "مجتمع مدني تونسي جديد" بأحزابه ومنظّماته وروابطه وقواه البانية للتقدّم. 

سيكون هذا التحوّل العميق من النتائج السياسيّة للحراك المواطني في مواجهة الانقلاب والدفاع عن الدستور والديمقراطيّة وسيتبلور في برنامج سياسي انتقالي للإنقاذ. هذا مسار قد يتعثّر ولكنّه بالغ مداه لا محالة. 

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تُقرر معركة المجلس الأعلى للقضاء مصير الانقلاب؟

يوم 14 جانفي 2022: الانقلاب في مواجهة النخبة