14-أبريل-2022
هاجر العبيدي الترا تونس

أنشئت المقبرة المسيحية بمنطقة "بورقبة" بالمرناقية في الفترة الاستعمارية أي بعد سنة 1881 (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

 

في مدينة تعج بالمعالم الأثرية والتاريخية، شُيّدت على أنقاض رومانية، يلفت انتباهك مقبرة تحتوي على حوالي 15 تابوتًا بُنيت في شكل بيوت صغيرة، تعود حسب شكلها وطابعها المعماري إلى حقب تاريخية قديمة.

ظلّت مقبرة تاريخية بمنطقة "بورقبة" بالمرناقية طيلة سنوات، عرضة للنهب والسرقة والاعتداءات، حتى تحولت إلى زريبة لتربية الماشية ومصبًا للنفايات

ولعلّ ما يثير الاهتمام، هو الغياب الكلي لأي حماية أو صيانة لهذه المقبرة على أهميتها التاريخية، علاوة على غياب أي معلومات على الإنترنت حول فترة وتاريخ إنشائها، وهل أنها تندرج ضمن المعالم التاريخية المصنفة من عدمه.

ولئن تزخر تونس بالمعالم الأثرية والتاريخية التي تشهد على تعاقب العديد من الحضارات على البلاد، فإن البعض منها يعاني التهميش والإهمال على غرار مقبرة  بمنطقة"بورقبة" التابعة لمعتمدية المرناقية التي ظلت طيلة سنوات عرضة للنهب والسرقة والاعتداءات، حتى تحولت إلى زريبة لتربية الماشية ومصبًا للنفايات.

مقبرة المسيحيين "بورقبة" بالمرناقية (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

مقبرة مسيحية

تؤكد الباحثة بالمعهد الوطني للتراث وجيدة السكوحي، أن التوابيت الموجودة بمنطقة "بورقبة" هي مقبرة معمّرين مسيحيين، أنشئت في الفترة الاستعمارية أي بعد سنة 1881.

وأوضحت السكوحي في حديثها لـ"الترا تونس"، أن "هذه المقبرة خاصة بالرهابنة ورجال الدين المسيحيين، أقيمت على أرض على ملكهم آنذاك ليتم دفن ذويهم"، مضيفة أن هذا الموقع التاريخي موجود في خريطة المعالم التاريخية بالمعهد لكنه غير مرتّب، ولا وجود لنصوص قانونية تحميه، كما أنه أقل قيمة من مواقع تاريخية أخرى، وفقها. 

وجيدة السكوحي (باحثة بالمعهد الوطني للتراث) لـ"الترا تونس": الموقع التاريخي للمقبرة موجود في خريطة المعالم التاريخية بالمعهد لكنه غير مرتّب، ولا وجود لنصوص قانونية تحميه

وحول وضعية هذا المعلم التاريخي، أكدت المتحدثة أنه ليس المعلَم الوحيد الذي تم إهماله، وأن العديد من المعالم الأخرى تفتقد لأسوار أو حراسة، قائلة: "لا تملك الدولة التونسية الإمكانيات الكافية لحماية جميع المعالم التاريخية، والمعهد الوطني للتراث يسعى جاهدًا للحفاظ على المعالم المرتبة.. ظاهرة الاعتداء على هذه المعالم منتشرة في كامل أنحاء البلاد. في المقابل، هناك مقبرة يهودية بالقرجاني محميّة من قبل جمعية ويتم إلى الآن الدفن فيها".  

فضلات بالموقع التاريخي للمقبرة التاريخية بمنطقة "بورقبة" (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

وبيّنت الباحثة بالمعهد الوطني للتراث الدكتورة منية عديلي بدورها، أن المقبرة المسيحية بـ"بورقبة"، معلم تاريخي لم يدخل في الحقبة الأثرية، مبيّنة أن منطقة "بورقبة" برمّتها غنية بالآثار، وأنها كانت أهم طريق يربط قرطاج-تبسة، يمرّون عبره، وهو شبيه بالطريقة الحزامية الآن.

وتابعت في حديثها لموقع "الترا تونس"، أن العديد من المدن الأثرية كانت موجودة بالمنطقة، بعضها موجود والبعض الآخر اندثر، مشيرة إلى أن المعالم الأثرية بالمنطقة أكثر من التاريخية. 

منية عديلي (باحثة بالمعهد الوطني للتراث) لـ"الترا تونس": منطقة "بورقبة" برمّتها غنية بالآثار، والمقبرة المسيحية معلم تاريخي لم يدخل في الحقبة الأثرية

ويقدّر عدد المعالم التاريخية والأثرية المرتبة والمحمية بالمئات، وهي متنوعة بين أضرحة ومساجد وأسوار ومقابر وحمامات ومعابد وغيرها.

وقد حددت مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية في فصلها الأول بباب الأحكام العامة أنه "يعتبر تراثًا أثريًا أو تاريخيًا أو تقليديًا كل أثر خلّفته الحضارات أو تركته الأجيال السابقة، كما يكشف عنه أو يعثر عليه برًا أو بحرًا سواء كان ذلك عقارات أو منقولات أو وثائق أو مخطوطات يتصل بالفنون أو العلوم أو العقائد أو التقاليد أو الحياة اليومية أو الأحداث العامة وغيرها مما يرجع إلى فترات ما قبل التاريخ أو التاريخ، والذي تثبت قيمته الوطنية أو العالمية، ويعدّ التراث الأثري أو التاريخي أو التقليدي ملكًا عامًا للدّولة، باستثناء ما أثبت الخواص شرعية ملكيتهم له".

مقبرة المسيحيين بمنطقة "بورقبة" بالمرناقية (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

وعلى الرغم من ترسانة القوانين التي سنّها المشرّع التونسي لتجريم الاعتداء على المعالم التاريخية والأثرية، وتسليط عقوبات على مرتكبيها، فإن العديد من المعالم تواجه الإهمال والاندثار، مما يستوجب وضع استراتيجية وطنية ناجعة تحمي هذه المعالم وتحافظ عليها.

 معلم تاريخي يتحول إلى زرائب للأغنام  

يوسف، شاب ثلاثيني أصيل منطقة "بورقبة" أبًا عن جدّ، يروي لـ"الترا تونس" ما آلت إليه أوضاع المعلم التاريخي بالمنطقة بعد أن أهملته السلطات المشرفة وطالته أيدي المخربين والعابثين، فيقول: "المقبرة تتمثل في عدة توابيت كانت العائلات الإيطالية والإسبانية تقبر فيها الأموات، ويُكتب في أعلى كل قبر على حجر من رخام رقم واسم العائلة..".

كتابة لاسم أحد العائلات في أعلى القبر (هاجر عبيدي/ الترا تونس) 

ويضيف الشاب أصيل المنطقة: "التوابيت تتكون من عدة طوابق، وكانت مجهّزة في السابق بثريات ورخام وأبواب، ويوضع الموتى في صناديق، لكن تم نهب كل محتوياتها وأصبحت توابيت قافرة استُغلت من قبل أهالي المنطقة لتربية الأغنام ورمي الفضلات، حتى أنه تم حرق وتخريب جلّ المعلَم".

يوسف (أصيل منطقة "بورقبة") لـ"الترا تونس": راجت أخبار حول نية هدم المقبرة وتحويلها إلى مسجد، وهو ما أثار حفيظة متساكني الجهة الذين رفضوا رفضًا قاطعًا هذا المقترح

ويضيف يوسف أن آخر رفاتين، تم نقلهما منذ حوالي سنتين من قبل أهاليهم، وإثر ذلك راجت أخبار حول نية هدم المقبرة وتحويلها إلى مسجد، وهو ما أثار حفيظة متساكني الجهة الذين رفضوا رفضًا قاطعًا هذا المقترح لإمكانية وجود بعض الرفات الذي لم يتم نقله.     

وقد بيّن رئيس بلدية المرناقية فيصل الدريدي من جانبه، أن المقبرة تمتدّ على مساحة نصف هكتار، وأنها استُعملت لدفن المسيحيين الفرنسيين والإيطاليين إبّان الحرب العالمية الثانية، وتم رفع آخر رفات ونقلها لفرنسا منذ 10 سنوات.

فيصل الدريدي (رئيس بلدية المرناقية)لـ"الترا تونس": إذا تدخل معهد التراث وصنّف المقبرة وتحصلت البلدية على وثيقة رسمية، يصبح بالإمكان حينها التدخل والتنسيق مع جمعيات لترميم المقبرة لتتحول إلى مسلك سياحي

وأضاف الدريدي في حديثه لـ"الترا تونس"، أن البلدية طالبت بتحويل المقابر إلى فضاء ومتنفس لأهالي الحي لأنها أصبحت بنايات آيلة للسقوط وتُستعمل كزرائب لتربية الماشية، متابعًا: "الأرض التي أقيمت عليها المقبرة على ملك الدولة، وقد كانت مخصصة للمسيحيين، والآن أصبحت تحت تصرّف وزارة الخارجية. راسلنا الوزارة والوالي لتسريع الإجراءات بعد أن ارتأينا أن الخيار الأمثل استغلاله لفائدة الشباب والأطفال خاصة وأن الفضاء حاليًا لا يمكن استغلاله أو ترميمه لأنه ليس تحت كلفة البلدية".

كما أشار إلى أن "البلدية قدمت مقترحًا لتغيير صبغته، وإذا تدخل المعهد الوطني للتراث وصنّف هذه المقبرة وتحصلت البلدية على وثيقة رسمية بذلك، فيصبح بالإمكان حينها التدخل والتنسيق مع جمعيات لترميم المقبرة لتتحول إلى مسلك سياحي"، وفق تعبيره.  

مقبرة المسيحيين بمنطقة "بورقبة" بالمرناقية (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

وفي سياق متصل، لفت رئيس البلدية إلى وجود سور في مدخل مدينة المرناقية قيل إنه كان قصرًا حسينيًا، ويتم استغلاله حاليًا كمقهى، لافتًا إلى أن البلدية راسلت المعهد الوطني للتراث وأفادت بأنه لا يندرج ضمن المعالم التاريخية، فتم التدخل بالإمكانيات المتاحة لتحسينه "وكان يُفترض أن يكون رمزًا لمدينة المرناقية" وفقه.

تواجه المعالم الأثرية والتاريخية في تونس، العديد من الإشكاليات المتمثلة في غياب الصيانة والحراسة الرسمية وتكرّر عمليات النهب، علاوة على ظاهرة النبش والحفر بحثًا عن الآثار، وأمام عجز المؤسسات الرسمية عن حماية آلاف المعالم، فإن العديد من الجمعيات التي تُعنى بصيانة المدن وبحماية التراث، تسعى جاهدة لترميم هذه المعالم وحمايتها بالوسائل المتاحة.

وتظل نتائج هذه المجهودات محتشمة، ويبقى على عاتق الدولة أن تعي بأهمية هذه المعالم التي تختزل تاريخ البلاد والحضارات التي تعاقبت عليها، والتي بإمكانها استقطاب عدد هام من السياح الباحثين عن معرفة تاريخ البلاد وثقافتها.