29-يوليو-2021

شاهد عيان لـ"الترا تونس": القبور ليست بالعمق المطلوب ما يسبّب رائحة كريهة تفوح في المكان (وسيم الجديدي/ SOPA Images)

 

"إكرام الميت دفنه" مقولة تتفق حولها كل البشرية لعمقها الإنساني، فمنها تتدفق مشاعر الاحترام للإنسان الذي أعدّ حقائبه للعودة بعد رحلة الحياة. في لحظة التوديع تلك والتي يبدو فيها الرّاحل مسجّى بين أحبائه ومودّعيه، فإنّه لا يطلب سوى طلبات بسيطة وهي عودة آمنة ولائقة إلى التراب بعد أن تكون الروح قد استقرّت على شرفات السماء.. الرّاحل لا يطلب سوى قبر لائق ونظيف وتراب خفيف وعطر لطيف وحوض نعناع في الجنبات وبعض الأزهار تنبت على دمنة القبر حتى يحسن استقبال زائريه من الحياة السابقة.

المقولة الإنسانية السمحة "إكرام الميّت دفنه" لا تستقيم في تونس وتحديدًا بأهم مقابر العاصمة وأعرقها وهي "مقبرة الجلّاز" التي تضم حوالي 5 ملايين قبر

لكن المقولة الإنسانية السمحة "إكرام الميّت دفنه" لا تستقيم هنا في تونس وتحديدًا بأهم مقابر العاصمة وأعرقها وهي "مقبرة الجلّاز" التي تديرها وتشرف عليها بلدية تونس العاصمة، وهي ذات هندسة دائرية عفوية وتتناضد قبورها البيضاء على سفوح جبل سيدي بلحسن الشاذلي، وتضم منذ بداية الدفن فيها زمن الدولة الحفصية (بدايات سنة 1200) إلى الآن حوالي خمسة ملايين قبر، وبها ترب أعرق العائلات التونسية التي سكنت الحاضرة على مر القرون وبها ما يعرف بمربّع الشهداء الذي يضم أضرحة الذين خلّدتهم الذاكرة الوطنية والشعبية من سياسيين وشعراء ورجال دين ونقابيين..

المقبرة العريقة تراجع الدفن فيها بشكل ملحوظ مع بداية الألفية الجديدة خاصة مع إحداث بلدية العاصمة لمقابر جديدة بالضواحي والأحياء الشعبية لعل أشهرها وأكبرها مقبرة "العطّار" ببرج شاكير بالضاحية الغربية. لكن بعد الثورة عادت الحركة لمقبرة الجلاز وأصبحت تستقبل الموتى بشكل مكثّف كما كانت من قبل وسبب ذلك هو تهيئة البلدية لمناطق مهجورة بسفح الجبل كانت فيما مضى مقاطع حجرية استغلتها الجالية الإيطالية أيام الاستعمار الفرنسي لتونس وحولتها فيما بعد البلدية لمصبّ للفضلات المنزلية ومكبًا لنفايات البناء (مزبلة) لعقود طويلة (لحدود تسعينات القرن  العشرين). 

اقرأ/ي أيضًا: الوداع الأخير في زمن الكورونا.. كل التفاصيل عن دفن ضحايا الوباء في تونس

وقد عهدت البلدية لمقاول مختص من أجل التهيئة التامة وإعداد القبور وتنظيمها وبنائها وتجميل الفضاء. لكن على ما يبدو أن ما حدث هو عكس ما اتفق عليه الطرفان، فالأمكنة العلوية الجديدة بالجلاز المهيأة للدفن تبدو للزائر العادي غير لائقة بالمرة، بل هي مهينة للموتى ولأهلهم إذ تحاصرك رائحة الجثث أينما ولّيت وجهك بهذه الأمكنة لأن القبر غير عميق الحفر وجنباته تنقصها العناية وليس فوقه القدر الكافي من التراب، كما أن الفضلات تنتشر في كل الجهات (أكياس سوداء في كل مكان وفضلات منزلية وحصالة بناء..).

منذ بداية جائحة كورونا عرفت مقبرة الجلاز تدفقًا يوميًا كبيرًا للجنازات (رمزي العياري/ الترا تونس)

ومع صعود الأرقام والمؤشرات المخيفة لموتى "جائحة كورونا" التي تعاني منها تونس منذ سنة 2020 إلى اليوم من دون أن تكون لديها سياسة مجابهة ووقاية واضحة، وتأكيد اللجان العلمية الصحية ضرورة الالتزام بالبروتوكول الصحي الخاص بعملية دفن موتى كورونا، عرفت مقبرة الجلاز بالعاصمة تونس تدفقًا يوميًا كبيرًا للجنازات وصل أقصاه خلال النصف الأول من شهر جويلية/ يوليو الجاري حيث سجل في يوم واحد 60 جنازة بين موتى عاديين وموتى فيروس كورونا.

اقرأ/ي أيضًا: ميتتان لموتى كورونا

وفي ظل استقالة الإدارة البلدية المعنية بالمقابر وغياب المراقبة وعدم الالتزام بالقانون وبروتوكول الدفن، شهدت هذه المناطق من المقبرة القديمة المزيد من الانتهاكات في حق كرامة الموتى وخصوصًا موتى كورونا وموتى أولئك الذين يبيتون في الشارع من دون مأوى ولا سقف لهم سوى السماء العارية.. فكرامة هؤلاء لا تختلف في شيء عن كرامة الأحياء، فالميت صاحب حقوق حتى ولو هو تحت التراب، وهذه الحقوق تضمنها له قوانين الأرض والسماء.

"الترا تونس" تجوّل في الجلاز ذات مساء وعاين الإهانة التي تلحق الموتى واستمع إلى شهادات تدمي القلب عمّا يحدث في هذا المكان المهيب والمقدس:

شهادات حية: التونسي يهان حيًا وميتًا

سخونة الطقس لم تمنع زوار مقبرة الجلاز من تجشم صعود سفح الجبل من أجل الوصول إلى الطابق العلوي حيث مقابر أحبتهم أسفل الصخور الرمادية التي خلفها المقطع الحجري الذي كانت تستأثر به الجالية الإيطالية زمن الاستعمار الفرنسي. كانت رائحة الموت تنبعث قاتمة خانقة من تراب القبور التي لم تبن بعد، الصمت والحزن يخيم على المكان عدا حركة أولئك المتمعشين من المقبرة والذين يبتزون الزوار فيبيعونهم عنوة الزيوان والماء والأدعية ودخان البخور.

  • فتحي العرفاوي: روائح الجثث تملأ المقبرة وحفر النسيان تبتلع أولئك الذين بلا مأوى ويموتون في العراء 

التقينا "فتحي العرفاوي" الذي يعمل حلاقًا بالعاصمة والذي وصف ما شاهده وعاينه وعايشه في هذه المقبرة في الآونة الأخيرة بالانتهاك المطلق لحقوق الإنسان قائلًا إنه يزور المقبرة بانتظام منذ توفي والده سنة 1984، وكثّف من الزيارات في الآونة الأخيرة عندما توفيت والدته ولم يُخفِ محدثنا خوفه من الاعتداء على قبريْ والديه فأصبح يأتي بشكل مستمر بحكم قربه سكناه من الجلاز مؤكدًا أنه شاهد بأمّ عينه العديد من الوقائع والأحداث التي تمس من كرامة الميّت مثل حضوره عمليات دفن الأشخاص الذين لا أهل لهم ويعيشون في الشوارع بلا مأوى فيرمى بهم في حفر لا ترقى إلى وصفها بالقبور فهي وفق قوله لا تليق بكرامتهم البشرية ولا توضع شواهد على قبورهم، وتجوّل معنا فتحي ليشير أيضًا إلى مجموع الحفر التي توضع بها الأطراف البشرية الوافدة من المستشفيات والمصحات الخاصة، موضحًا أن هذه النفايات الجسدية تبقى معروضة تحت الشمس لأيام عديدة قبل أن يوضع فوقها التراب. 

فتحي العرفاوي (حلاق) لـ"الترا تونس": عادت بعض الجنازات من حيث جاءت لعدم توفر اللّحود وهناك استغلال فاحش لأهل الميت من طرف المقاول

كما تطرق فتحي إلى الزحمة التي حصلت في المقبرة في الأيام الأخيرة جرّاء موتى كورونا وتحدّث هنا عن عدم التزام اللحادين بالبروتوكول الصحي، فالقبور ليست بالعمق المطلوب، والمطابق غير سميكة لذلك تفوح رائحة كريهة في كل المكان، وروى فتحي أنه حدث أن عادت بعض الجنازات من حيث جاءت لعدم توفر المطابق (اللّحود) وتكرّر ذلك العديد من المرات، كما باتت بعض صناديق الموتى في مسجد المقبرة وتم الدفن في اليوم الموالي وأرجع ذلك لتهاون المقاول وتلاعبه بمشاعر الناس واستغلاله الفاحش لأهل الميت من دون أن يحاسبه أحد.

من القصص الرائجة في المقبرة هي بيع القبور المنسيّة (رمزي العياري/ الترا تونس)
  • غيث: مصب فضلات تحول إلى مدفن وتجاوزات بالجملة للمقاول المسؤول عن التهيئة

كما التقينا غيث وهو شاب عشريني يعمل دهّانًا لحسابه الخاص يأتي يوميًا إلى الجلاز ليطلي القبور إن طلب منه أهل الميت ذلك، ويقومون بعد ذلك بتأجيره.. وقد أشار في بداية تدخله أن هذا المكان الذي نقف فوقه هو مصب قديم للفضلات وتم تحويله إلى مدفن، وأضاف أن هذه القبور جميعها مقامة على مزبلة، وتطرق غيث إلى التجاوزات التي يقوم بها المقاول المعتمد لدى إدارة المقبرة والمتمثلة أساسًا في القبور المغشوشة والتي لا يتم تهيئتها حسب المواصفات الدينية والأخلاقية والقانونية.. فيقول: "همّو كان كيفاش باش يربح في الياجور والسيمان..".

  • نوفل: ساعدت في دفن سيدة مسنّة والمقبرة يغيب عنها الأمن

أما نوفل وهو موظف في قطاع التربية والتعليم والذي التقيناه قرب قبر والده المتوفى حديثا فقد قال متألمًا: "ما يحدث هنا في مقبرة العاصمة اعتداء على الإنسان والإنسانية، وحرمة المكان وكرامة الميت لا تحترم من قبل عصابات تشتغل هنا مثل اللحادين الذين يعملون لدى المقاول المشرف على المدافن الجديدة ومنها من يأتي من تلقاء نفسه للاسترزاق والتسول والقيام بعمليات إجرامية كالسرقة والاعتداء على الزوار وابتزازهم.." وأشار نوفل إلى الغياب التام لدوريات الأمن والحراسة وتطرّق أيضًا إلى غياب كاميرات المراقبة ونقص الإضاءة وانعدام الصيانة والنظافة وهو ما يجعل المقبرة مكانًا غير آمن. 

نوفل (موظف في قطاع التربية والتعليم) لـ"الترا تونس": المقبرة تشكو غياب كاميرات المراقبة ونقص الإضاءة وانعدام الصيانة والنظافة

وروى نوفل لـ"الترا تونس" بعض الوقائع المؤسفة التي كان شاهد عيان عليها ومنها أنه منذ شهر تقريبًا كان بالمقبرة لزيارة قبر والده كما جرت العادة، وعندما غابت الشمس وبدأ الظلام يعم المكان واستعد للمغادرة توقفت سيارة إسعاف تبيّن فيما بعد أنها تابعة لأحد مراكز المسنين ونزل السائق ونادى عاملًا كان بانتظاره وفتح الباب الخلفي للسيارة وأخرج كيسًا أسود ووضعه مباشرة على قارعة الطريق وغادر مسرعًا.. ويضيف أن المكلّف بالدفن طلب منه المساعدة، فسارع لذلك مندهشًا مما شاهدت عيناه فتمّ إكرام الميّت ليعلمه العامل فيما بعد أنها جثة لسيّدة مسنّة.

ومن القصص الرائجة في المقبرة هي بيع القبور المنسيّة في المناطق القديمة للمقبرة والقريبة من البوابات حيث يصل سعرها لمئات الدنانير، كما تحجز لأصحاب رأس المال وذويهم وللمتنفذين في السلطة.

إكرام الميت دفنه تبقى مقولة طوباوية في إحدى أقدم المدافن والمقابر التونسية بالعاصمة وهي مقبرة الجلاز التي دافع عنها التونسيون بصدور عارية في حوادث الجلاز سنة 1911 من أجل حمايتها من اعتداءات المستعمر الفرنسي، لكن ها هي تنتهك هذه المرحلة التاريخية من قبل أبناء البلد في شأن موتاهم. 

إن ما يحدث في الجلاز يرقى إلى مستوى الفساد الأخلاقي والقانوني والصحي زمن الجائحة، وعلى السلط المعنية جميعها أن تتحرك عاجلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقابر بلا هوية.. عن جثث مهاجرين باتت مجرّد أرقام منسية

المقابر في تونس: من رمز للموت إلى مصدر للحياة