20-أبريل-2022
سليمان

الجامع الكبير بمدينة سليمان (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

 

أحيانًا يصير المكان سحرًا منظورًا، يحني العالم ويهز التاريخ وينعكس وجوده في ظلال الحديث جيلًا بعد جيل، وترتقه قصائد الشعر أمجادًا تليدة بين الفضاء وأعماقه والشمس ومسافاتها والعدم والحرية والغبطة والاكتمال.

هناك أمكنة لها قدرة على رفع العالم إلى مستوى "الفرح الكلياني" الأسمى أو الانتصار إلى الجمال الطقوسي الطاغي الذي يشبه الحب العذري حيث يكون الظمأ أبديًا والروح شريدة بين أزقة المكان.

مدينة "سليمان" شيدها الفينيقيون إبان استقرارهم بشمال إفريقيا وسموها "كازولا"، ثم استوطنها الرومان بعد الحرب البونية الثانية وكانت تعرف لديهم بـ"الميغالوبوليس" أي المدينة الكبيرة

قد ننخطف إلى مدينة ما انخطافًا ما بعده عوْد فنغرق فيها كقوة هائلة وسرعان ما نتلاشى ونرقد في أحشائها كطفل وليد ونظل نرقب عالمها ومرور الغيم من تحت سماواتها ونصغي إلى خطوات نسائها تفترش الأقمار على أديم أزقتها الضيقة فتنزعج عريشات الياسمين في الجنبات.

من هذه المدن التي تشعرنا بسطوة تاريخها نجد مدينة "سليمان" التونسية، بوابة الوطن القبلي وثغرها الباسم، مدينة لا مفرّ من فتنتها وجنونها وجمالها، فبمجرّد المرور منها والنظر إليها بطرف عين تدخلك عالم الانخطاف والانتشاء، إنها موجة لا شاطئ لها.

مدينة "سليمان" تبعد عن العاصمة تونس حوالي 30 كيلومترًا وقد شيدها الفينيقيون إبان استقرارهم بشمال إفريقيا وسموها "كازولا"، ثم استوطنها الرّومان بعد الحرب البونية الثانية وكانت تعرف لديهم بـ"الميغالوبوليس" أي المدينة الكبيرة، كما يشير المهتمون بالتاريخ القديم للوطن القبلي إلى وجود العنصر البشري بمدينة سليمان في موقعين يعود الأول إلى العصر الحجري الحديث (النيوليتيك) أي إلى حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وهو الموقع المعروف بـ"سيدي بوحمودة" وقد تم العثور بهذا الموقع على نصال من حجر الصوّان.

مدينة "سليمان" في سنوات التأسيس الأولى (الموسوعة التونسية المفتوحة/ بيت الحكمة)
مدينة سليمان في سنوات التأسيس الأولى (الموسوعة التونسية المفتوحة/ بيت الحكمة)

أما الموقع الثاني فيعرف بموقع "عرقوب المنقوب" الذي يعود إلى فجر التاريخ (البروتوهيستوريك) وتوجد بهذا المكان مجموعة من القبور الجلمودية (الدولمن) والحوانيت المحفورة في الصخر، ويرجح علماء الآثار أن هذه المواقع استوطنها البربر إلى حدود القرن 11 ميلادي وهو ما تشير إليه آثار قرية "صلتان" التي تبعد عن سليمان حوالي 5 كيلومترات.

المعروف والمتداول أن "سليمان" أسسها الموريسكيون الفارون والمهجرون من أرض الأندلس مع بدايات القرن 17 ميلادي وقد نزلوا بها سنتي 1609 و1610 وكان استقرارهم الأول قرب  "برج أبي سليمان" نسبة إلى أبي سليمان ربيعة الجزري

لكن المعروف والمتداول أن "سليمان" أسسها الموريسكيون الفارون والمهجرون من أرض الأندلس مع بدايات القرن السابع عشر ميلادي وقد نزلوا بها سنتي 1609 و 1610 وكان استقرارهم الأول قرب  "برج أبي سليمان" نسبة إلى أبي سليمان ربيعة الجزري وهو من أشهر عبّاد ومرابطية الوطن القبلي... أو قصر الرباط  أو برج البليّدة الذي تحدث عنه ابن أبي دينار في كتابه المؤنس قائلًا: "وهي اليوم ملاحة عليها قصر ورباط يعرف ببرج أبي سليمان وبه داموس لم يعلم أحد منهى طرفه، وهي الآن البلد التي عمرها أهل الأندلس"، وهو واحد من جملة رباطات بنيت في فترة الدولة الأغلبية وتوجد على طول سواحل الوطن القبلي (جزيرة شريك سابقًا) مثل قصر سعد وقصر النخلة وقصر النوبة وقصر الزيت ورأس أدار.

ويبدو أن الأندلسيين وأثناء استقرارهم بالمكان حذفوا كلمة "أبو" من الكنية للتخفيف وسمّوا مدينتهم "سليمان" كما استغلوا خلال السنوات الأولى "قصر جهم" الموجود قرب الشاطئ أو ما يعرف بـ"برج الجهمي" كمسجد للصلاة وككتاب لتربية الأجيال الجديدة على قيم الدين الإسلامي الحنيف.

خلال تلك البدايات الساحرة كانت قلة من العائلات القشتالية والإشبيلية والأراغونية التي اختارت هذا المكان الشبيه برياض الأندلس المفقود، لقد كانت عائلات فلاحية والصنائعية جلبت معها فنون غراسات الرّمان والكروم وشتى أنواع الثمار والحرف اليدوية. ومن هذه العائلات الاندلسية والتي لا يزال بعضها موجودًا إلى اليوم نذكر: "الكسلتيليانو" و"دويك" و"بن ديكو" و"كوورال" و"اللّونقو" و"ماضور" و"الريشيكو" و"باشكوال" و"ليبريزو" و"بن إسماعيل" و"الري" و"جحا"، وفق ما توثقه "الموسوعة التونسية المفتوحة" التابعة للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة".

بنى الأندلسيون "طاحونة الريح" في "سليمان" ولا تزال بقاياها إلى اليوم شاهدًا على ما أنجزه الآباء الموريسكيون في مدينة سليمان من نهضة فلاحية جعلت من هذه المدينة فناء خلفيًا تتزود منه مدينة تونس بشتى المنتوجات الفلاحية

بعد أن استقر أمر الأندلسيين بمدينة "سليمان" وراقت لهم امتدادات سهولها الخصبة، توجه وفد من العائلات المذكورة إلى حاضرة تونس والتقى "عثمان داي"، حاكم البلاد، واقترح عليه بناء "طاحونة الريح" بالمدينة وهي ماكينة فريدة تبنى خصيصًا من أجل استخراج الماء بتوظيف قوة الرياح على غرار ما هو موجود في أراضي الأندلس والتي مازالت تعمل إلى اليوم بمدريد وبرشلونة وإشبيلية. فشجع الداي العائلات على ذلك بعد أن راقت له الفكرة معتبرًا إياها سابقة على أرض تونس فبنت طاحونة الريح التي مازالت بقاياها إلى اليوم شاهدًا على ما أنجزه الآباء الموريسكيون في مدينة سليمان من نهضة فلاحية جعلت من هذه المدينة فناء خلفيًا تتزود منه مدينة تونس بشتى المنتوجات الفلاحية.

سليمان
المدينة العتيقة بسليمان

كما سارع أبناء الأندلس إلى بناء الجامع الكبير سنة 1616 الذي يعتبر من أهم المعالم الدينية بالوطن القبلي إذ يمتاز بطريقة بناء فريدة وخاصة صومعته التي بنيت بنفس الطريقة التي بنيت بها صوامع قرطبة وغرناطة وإشبيلية وبلنسية وأراغون.

أما قاعة الصلاة فلها سقفان سقف أول مبني وآخر خشبي مغطى بالقرميد وهو بمثابة العازل الحراري والمكيف لبيت الصلاة وتوجد بها 24 سارية بتيجان جلبت من المواقع والآثار الرومانية القديمة.

ويُعتبر منبر الجامع الكبير بسليمان تحفة فريدة من نوعها فهو مصنوع من خشب الأبنوس الحامل لنقوش يدوية ويتحرك على سكة حديدية على غرار منبر الجامع الكبير بتستور.

وتذكر "الموسوعة التونسية المفتوحة" أن نقيشة موجودة على واجهته إلى أن سليمان الأندلسي هو من بادر بتأسيس الجامع، وتذكر نفس النقيشة أن أسطا مراد الذي كان قائد الأسطول العام ثم أصبح دايًا سنة 1637 كان قد حبّس بعد ستّ سنوات من توليه الحكم ثلث عائدات حمام البلدة على الجامع الكبير . وخلال معارك الحرب العالمية الثانية التي دار بعضها بتونس تعرض جانب من السور القديم لهذا المعلم التاريخي إلى الهدم من قبل القوات العسكرية للمحور التي كانت مرابطة قربه.

بنى الأندلسيون الجامع الكبير سنة 1616 الذي يعتبر من أهم المعالم الدينية بالوطن القبلي إذ يمتاز بطريقة بناء فريدة وخاصة صومعته التي بنيت على نفس شاكلة صوامع قرطبة وغرناطة وإشبيلية

ومن معالم المدينة أيضًا نجد "سبيل السوق" والذي تشير النقيشة الموجودة على واجهته إلى أنه تم تشيده خلال العهد الحسيني (سنة 1794) وهو منشأة مائية لها عدة أدوار فلاحية واجتماعية وخيرية.

ويذكر أن مدينة سليمان وبعد أن عرفت ازدهارًا كبيرًا على جميع الأصعدة خلال العهد الحسيني مقارنة بباقي المدن الأندلسية الأخرى، أصبحت محل أطماع بطانة الباي ووزرائه فتم ابتزاز بعض أعيان البلدة وافتكاك بعض الأراضي، الأمر الذي دفع بالعديد من العائلات إلى تغيير وجهتها إلى مدن أخرى وهو ما يفسر زوال بعض الألقاب من قائمات الأنساب الأولى.

"سليمان" بوابة الوطن القبلي من ولاية نابل وهِبة الأندلس العظيم إلى تونس هي الآن مدينة حضريّة تحمل تاريخها وأمجادها على أكفها، تمنحه للعابرين ضياءات من نور، لكن ما ينقصها هو إرادة تثمين رصيدها الثقافي والحضاري التثمين.

  • المصادر: 

"الموسوعة التونسية المفتوحة" التابعة للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"