08-يناير-2020

تضارب التصريحات الرسمية حول صفقة القمح الأوكراني (Getty)

 

لا تزال قضية الحبوب المستوردة على متن الباخرة "جورج" عبر الميناء التجاري بسوسة في أوت /أغسطس 2019 تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني بعد كشفها من طرف الموظفة في وزارة الصحة نوال المحمودي التي رفضت التأشير على استلام شحنة القمح القادمة من بلغاريا حاملة قمحًا أوكرانيًا لفائدة شركة تونسية خاصة مختصة في تحويل العجين.

لا تزال قضية الحبوب المستوردة على متن الباخرة "جورج" عبر الميناء التجاري بسوسة في أوت /أغسطس 2019 تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني 

الموظفة المبلّغة عن شبهة الفساد تنقلت بين المنابر الإعلامية وعبر منصات التواصل الاجتماعي لتمدّ الرأي العام ببيانات حول "صفقة الفساد" على ضوء عدم صلوحية المنتوج المورّد من دولة أجنبية للاستهلاك البشري، وقد قدمت إعلامًا إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي تكفلت بالقضية ورفعتها إلى القضاء.

كما تبنت لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة ومقاومة الفساد بمجلس نواب الشعب القضية التي باتت تُعرف إعلاميًا باسم "صفقة القمح الفاسد"، وتولت التحقيق بما شمل القيام بزيارة بميدانية للميناء التجاري بسوسة، بتاريخ 6 جانفي/كانون الثاني 2020، وذلك بعد تضارب التصريحات الرسمية للهياكل المعنية وتحديدًا وزارتي الصحة والفلاحة.

اقرأ/ي أيضًا: رحلة "النحاس" في تونس.. من التهريب إلى التصدير

صفقة مريبة وتضارب في التصريحات

تحدثت الموظفة نوال المحمودي أن القضية تتعلق بمعاينتها حبوب فاسدة قادمة من أوكرانيا على متن باخرة "جورج" في شهر أوت/أغسطس 2019، وهو ما جعلها تمتنع عن إمضاء شهادة صحية في البضاعة مشيرة إلى أن وثائق وصور ملف الشحن تظهر قمحًا متغير اللون يميل إلى السواد تقدر كميته بـ250 طنًا. 

وتحدثت، في ندوة صحفية بتاريخ 2 جانفي/كانون الثاني 2019، أنها رفضت منح الموافقة على قبول شحنة القمح وذلك بعد الاستظهار بشهائد أجنبية فقط للسلامة دون وجود شهادة تونسية، مبينة أن زميلها في المقابل أمضى على قبول الشحنة. وأفادت أنها طلبت الحماية الأمنية بعد تعرض سيارتها للتهشيم وبعد اقتحام منزلها وسرقة هاتفها المحمول فقط ما يؤكد أن عملية الاقتحام تتعلق وفق قولها بموقفها من قبول شحنة القمح.

ولم يبق ملف هذه القضية، منذ بدايته، بين رفوف المكاتب المغلقة واللجان الفنيّة للوزارات المعنية والتقارير الإدارية الديوانيّة والماليّة إذ أصبح بين عشيّة وضحاها حديث الرأي العام في تونس ومحور البلاتوهات الإذاعية و التلفزية، وبلغ صدى واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي نظرًا لحساسيته وارتباطه بالأمن الغذائي وصحة المستهلك.

 أكد وزير الفلاحة تعفّن 15 قنطارًا من شحنة الحبوب وقع إتلافها مقابل إفادة وزير التجارة أنّ الكميّة الفاسدة قدّرت بـ250 طنًا وتمّ إرجاعها إلى المزوّد البلغاري

وأمام صمت المؤسسات الرسميّة عن الاصداع بالحقيقة وإنارة الرأي العام بملابسات هذه الصفقة وبيانات توريدها، بدا الأمر مثيرًا للريبة والشك وأضحى موضوع القمح المورّد مثار أسئلة عديدة خاصة فيما يتعلق بالمستفيدين منه كما أثيرت العديد من المسائل الرقابية الصحية والنباتية والجمركية والمالية.

وبعد أيام قليلة من التداول الاعلامي لهذه القضية، استمعت لجنة الإصلاح الإداري إلى وزراء الصحة والتجارة والفلاحة وأكدت وزيرة الصحة أن الرقابة الصحية على الموانئ لا تشمل البضائع في حين أكد وزير الفلاحة تعفّن 15 قنطارًا من شحنة الحبوب وقع إتلافها مقابل إفادة وزير التجارة أنّ الكميّة الفاسدة قدّرت بـ250 طنًا وتمّ إرجاعها إلى المزوّد البلغاري.

زيارة وفد من لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة ومكافحة الفساد إلى الميناء التجاري بسوسة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

وكشف هذا التضارب في التصريحات عن عدم شفافية المصالح الإدارية في التعامل مع قضية هزّت الرأي العام وضبابية في التعامل مع البضاعة الموردة على متن الباخرة "جورج"، وفتحت شبهات الفساد على مصراعيهًا وأصبحت كافة الهياكل المعنية بمقاومة الفساد شريكًا في الكشف عن لغز "القمح الفاسد".

وكانت نوال المحمودي، التي عملت من 25 جوان/يونيو إلى منتصف سبتمبر/أيلول 2019 بوحدة المراقبة الصحيّة بالميناء التجاري بسوسة، قالت إنها كشفت عديد الإخلالات في الوحدة المذكورة خلال مدة عملها تعلّقت بالمهام الموكولة إلى عون صحي تتعلق بمراقبة البواخر الوافدة على الميناء وتسليم الشهادات الطبية للطواقم وتحليل المياه وغيرها من مهام هذه الوحدة الصحية.

وأعلنت وزارة الصحة بدورها فتح تحقيق في هذه الاتهامات المذكورة ليؤكد لاحقًا المدير الجهوي للصحة إيقاف هذا العون، الذي يعمل منذ سنوات في الميناء، عن العمل وتعهيد القضاء بإحدى التهم الموجهة إليه.

مصطفى بن فطوم (خبير عدلي لدى المحاكم): هذه حقيقة صفقة الباخرة "جورج"

توجه "ألترا تونس"، بحثًا عن خفايا لغز صفقة القمح، إلى الخبير العدلي لدى المحاكم مصطفى بن فطوم الذي أكد أن الباخرة "جورج" كانت تحمل شحنة من القمح اللين مورّدة لفائدة شركة خاصة، وقد أبحرت من دولة بلغاريا بتاريخ 24 أوت/أغسطس 2019 في اتجاه تونس ومرت بمضيق البوسفور دون توقف إلى أن وصلت إلى ميناء سوسة بعد 5 أيام أي بتاريخ 29 أوت من نفس الشهر حاملة شحنة قمح تزن 11 ألف طن.

مصطفى بن فطوم (خبير عدلي) لـ"ألترا تونس": وصلت الشحنة في حالة سليمة إلى تونس غير أنه في الأيام الأخيرة للتفريغ نزلت كميات من الأمطار ولازالت في العنابر كمية تقدر بـ300 طن

اقرأ/ي أيضًا: المظلمة المستمرة.. آثار قرطاج في أدراج رئاسة الحكومة

وأكد محدّثنا أن الشحنة وصلت في حالة سليمة غير أنه في الأيام الأخيرة للتفريغ نزلت كميات من الأمطار ولازالت في العنابر كمية تقدر بـ300 طن ابتلت نتيجة عطب في منافذ العنبر وارتفعت الرطوبة إلى نسبة 13 في المائة في تبلغ في الحالة العادية نسبة 11 في المائة.

ونتيجة لذلك، أوضح محدثنا أنه تم تفريغ شحنة تزن 292 طن مبللة محمّلة على الشاحنات لفائدة شركة العجين في حين بقيت كمية تزن 4 طن تم حملها على شاحنة خاصة وحدها نظرًا لخضوعها للتراتيب الديوانية وعدم إمكانية إتلافها إلا بعد إتمام إجراءات معقدة مع تعهّد المتسلّم بعدم استعمالها.

وأضاف الخبير العدلي بن فطوم لـ"ألترا تونس" أن الباخرة "جورج" هي من طلبت إذن على عريضة بتكليف خبير لتتم الاستدعاءات اللازمة قائلًا: "أخذنا عينات من الكميات المذكورة لتحليلها بالمخبر المركزي وتعيين نسبة الرطوبة وتسلمنا شهادة بسلامة الكمية المبللة وصلاحيتها للاستعمال والمقدرة بـ292 طن عدا 4 طن من القمح الفاسد القابعة في قاع العنبر".

المدير الجهوي للصحة لـ"ألترا تونس": المختصون وحدهم يتكفّلون بالموضوع

من جهته، صرح المدير الجهوي للصحة بسوسة سامي الرقيق لـ"ألترا تونس" أن مصالحه حققت في الموضوع ولم إخلالات مشيرًا إلى تواصل عمل مصالح أخرى للتثبت من التحاليل مؤكدًا أن "المختصين وحدهم سيتكفلون بالموضوع".

وأوضح أنه من مشمولات أعوان الصحة الاطلاع على نظافة الباخرة وخلوها من الحشرات والفئران والتثبت من الأمراض الناقلة فحسب.

المدير الجهوي للصحة بسوسة: من مشمولات أعوان الصحة الاطلاع على نظافة الباخرة وخلوها من الحشرات والفئران والتثبت من الأمراض الناقلة

وحول إمكانية التدخل لحجر المنتوج الفاسد من القمح الذي لا يزال في المصنع، قال: "لا، القرارات يجب أن تتخذ على مستوى اللجان وعلى مستوى مركزي وجهوي وليس الإدارة الجهوية من تتصرف في هذا الموضوع".

من جهته، أفاد المكلّف بالرقابة الصحية النباتية بالإدارة الفرعية بسوسة عماد الجوادي أن إدارته لم تتوصل بالملف، موضحًا، في جلسة الاستماع، أن مصالحهم تملك جردًا كاملًا لكافة العمليات التي يتصلون بها، مبينًا أن من مهامهم المراقبة الوثائقية على المنتوج وكذلك المراقبة العينية والتحول لأخذ عينات من الشحنة وإيداعها المخبر المركزي لمعاينة الأعراض الحجرية النباتية مع معاينة العنابر ثم تسليم بطاقة عبور أو بطاقة حجر بالنسبة للحبوب.

وأثارت شهادة المكلف بالمراقبة الصحية النباتية جدلًا داخل لجنة الحوكمة والاصلاح الإداري خاصة مع انتفاء كل مظاهر المراقبة الصحية على المنتوج باستثناء الشهادات المسلمة من البلد المنشأ. كما أثيرت مسألة صلاحيات أعوان وزارة الصحة في مراقبة المنتوجات الغذائية في الموانئ وخاصة ما تضمنته شحنة الباخرة "جورج".

المدير الجهوي للديوانة: خصوصية للتوريد في المنظومة التوقيفية

أمام هذا اللبس في الإجراءات الإدارية والرقابية، توجهنا بالسؤال للمدير الجهوي للديوانة بسوسة العميد هشام الميلادي حول عبور القمح دون الخضوع للفحص الرقابي الصحي، ليعلمنا أن الديوانة تراقب الاجراءات القانونية والجبائية من استخلاص الأداءات والمعاليم المستوجبة.

وأضاف أنه لا تخضع جميع الواردات ذات النظم التوقيفية إلى بعض الإجراءات وذلك في إطار التوريد المؤقت مؤكدًا أن كل الوثائق المطلوبة تُدرج مباشرة ضمن المنظومة الاعلامية والمطالبة بها قبل الإذن بالرفع. وأوضح العميد الميلادي أنه في إطار التوريد الوقتي يُعاد تصدير المنتوج ويقع إخضاعه كمنتوج نهائي للمراقبة.

الميناء التجاري بسوسة الذي استقبل باخرة "جورج" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

ونفهم، في هذا الجانب، القصور عن تنفيذ عدة إجراءات على المنتوجات المندرجة ضمن المنظومة التوقيفية التي تخص منتوجات موردة ليتم تحويلها وتصديرها مباشرة نحو قطر آخر، وهي حال شحنة القمح القادمة من بلغاريا لفائدة إحدى الشركات المالكة لمطحنة فيتم تحويلها في شكل بضاعة مشتقة لها وتصديرها كليًا خارج البلاد التونسية.

وتثير هذه المسألة مسألة التشريعات في منتوجات الاستهلاك البشري ومدى ملائمتها للقواعد الصحية، وهل يكفي أن تتسلم شهادة من البلد المنشأ حتى تتقي ما يمكن أن يصيب البضاعة من فساد في المكونات أو غيرها؟ وما هي الضمانات في غياب رقابة دائمة من المؤسسات الوطنية على المنتوجات سواء في وضع الاستهلاك أو ضمن المنظومة التوقيفية؟

ديوان الحبوب: لا علاقة لنا بصفقة القمح

وتوجه "ألترا تونس"، في إطار تقصي خيوط هذه الصفقة، إلى رئيس دائرة إقليم الوسط لديوان الحبوب (عمومي) فتحي الصيد الذي أكد لما أن كميات الحبوب الموردة عن طريق الخواص لا علاقة لها بديوان الحبوب وهو غير مسؤول عليها.

رئيس دائرة في ديوان الحبوب:  لا يتم منح رخصة العبور إلا بعد تسلم شهادة من إدارة الصحة النباتية التي تراقب العينات وتحللها لتأكيد سلامتها من كل العيوب

وقال الصيد إن ديوان الحبوب يتبع خطة محكمة وقانونية عند استقبال وتفريغ الشحنات من الحبوب وذلك بطلب إذن على عريضة من طرف رئيس المحكمة الابتدائية التابعة للميناء لضمان حقوق الديوان والمحافظة على كل ملابسات تفريغ الباخرة منذ دخولها الميناء وأخذ اعينات حتى تاريخ المغادرة.

وأفادنا أنه لا يتم منح رخصة العبور إلا بعد تسلم شهادة من إدارة الصحة النباتية التي تراقب العينات وتحللها لتأكيد سلامتها من كل العيوب، مشيرًا إلى تحكيم الخبراء عند وقوع أي إشكال، مع التوجه نحو الإتلاف بالطرق القانونية في حال حصول شبهة.

في انتظار الحسم القضائي

بعد تعهد القضاء بشحنة القمح في الباخرة "جورج" وإقرار رئيس لجنة الحوكمة والإصلاح الإداري ومكافحة الفساد بدر الدين القمودي أن" شبهة الفساد لا تزال قائمة"، تبقى مسألة الأمن الغذائي والتشريعات المتعلقة بها محل جدل واسع في ظل مخاوف من نفوذ القطاع الخاص على حساب صحة المواطن وذلك في ظل تعدد مسالك التوزيع أمام ضعف الرقابة الصحية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بصفاقس يلفظ أبناءه إلى الشارع (تحقيق)

من قتل دودة الحرير في طبرقة؟