29-ديسمبر-2021

قراءة في قانون مالية 2022 في محاولة لاستشراف توجهات الحكومة التونسية (صورة توضيحية/ الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

"أنا لست بائعًا، ولا زبونًا، ولا عامل خدمة. أنا لست مجرمًا، ولا متهرّبًا، ولا متسوّلًا، ولا لصًّا. أنا لست رقمًا، ولا علامة على الشاشة. أنا أدفع ضرائبي، ولا أتأخّر عنها، وأنا فخور بهذا. لا أتحدث قبل أن أتريّث، بل إنني أهتم بجيراني وأساعدهم عندما أستطيع. أنا لا أقبل ولا أبحث عن الصدقة. اسمي هو دانييل بلايك، أنا إنسان، ولست كلبًا. لهذا أطالب بحقوقي. أطلب أن أعامل باحترام. أنا دانييل بلايك، أنا مواطن، لا شيء أكثر، ولا شيء أقل"، بهذه الكلمات، أنهى المخرج الإنقليزي كان لوتش فيلمه "أنا، دانييل بلايك (2016)" الذي انتقد فيه آثار تطبيق سياسات نيوليبرالية، كالتخفيض في عدد الموظفين العموميين وتقليص دور الدولة، على الفئات المهمشة والفقيرة، ما يدفعها نحو اللحد، كما قالت الممثلة هايلي سكويرز (كاتي) في الفيلم.


باعتبار الأزمة الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد منذ ما يقارب أربعة عقود، تعيش تونس ضغطًا متواصلًا من المؤسسات الدولية المانحة، صندوق النقد الدولي بالأساس، التي تدفعها نحو الوصفة الوحيدة والمفضلة لديها: "التقشّف"، الوصفة التي وصفها ويصفها، وسيصفها على ما يبدو، صندوق النقد لكل الدول ذات الدخل المتدني والتي تعاني من أزمات اقتصادية على غرار تونس.

واجه نظام بن علي هذا الضغط عبر معادلة "الاستقرار والديمقراطية قطرة قطرة"، فيما صمدت الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 17-14 أمام هذه الضغوط من خلال أطروحة "الانتقال الديمقراطي والديمقراطية الناشئة"، فيما لا يظهر بعد كيف سيواجه بعد نظام قيس سعيّد هذه الضغوطات، بعد منعرج 25 جويلية، في ظل وضع اقتصادي متأزم وغير مسبوق في تاريخ الدولة.

واجه بن علي ضغوط المؤسسات المانحة عبر معادلة "الاستقرار والديمقراطية قطرة قطرة"، فيما صمدت حكومات ما بعد الثورة أمامها عبر أطروحة "الانتقال الديمقراطي"، لكن لا يظهر بعد كيف سيواجهها سعيّد في ظل وضع اقتصادي متأزم وغير مسبوق

في محاولة لاستشراف توجهات الحكومة، نفكّك فيما يلي شيفرة مرسوم المالية لسنة 2022 الصادر بالرائد الرسمي يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2021.

  • السياق الداخلي، الإقليمي والدولي:

قبل المضيّ في قراءة مرسوم المالية، وجب في البداية التطرّق إلى السياق الذي تم فيه سنّ هذا المرسوم. في سابقة تاريخية، صوّت البرلمان الجزائري في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على الفصل 187 من قانون المالية لسنة 2022 على الفصل 187 الذي يعتبر الخطوة الأولى في خطة رفع الدعم وتقليص العجز في الميزانية. رغم ذلك يبقى مصدر تمويل 42% من الميزانية مجهولًا.

في ذات السياق، لا يزال الجدل قائمًا في مصر حول حديث السيسي، يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 2021، عن عزمه وقف إسناد بطاقات التموين للمتزوّجين الجدد، واتجاهه نحو تقليص الدعم عن المواد الأساسية، ويذكر أنّ التقديرات الأولية تشير إلى تواصل ارتفاع أسعار هذه المواد في الأسواق العالمية، كالحبوب، الأعلاف، الحديد والخشب، طيلة السنة المقبلة.

اقرأ/ي أيضًا: قانون مالية 2022 يثير الجدل في تونس: استياء وانتقادات واسعة

على المستوى الداخلي، تعيش تونس على وقع أزمة سياسية حادة أدّت إلى الحد من قدرتها على التداين الخارجي، فضلًا عن الأزمة المركبة الناتجة عن الجائحة الصحية، إذ بلغت تجاوزت معدّلات البطالة الـ 18.4%، التضخم في حدود الـ 6.4%. فيما يخصّ سعر البترول، ترجّح أفضل الفرضيات ألا ينزل تحت 69 دولارًا للبرميل، رغم التراجع المسجّل مؤخرًا نتيجة متحوّر أوميكرون، مع احتمال استئناف الأسعار الصعود في الثلث الثاني من 2022، حسب ما جاء في نشرية بنك جولدان ساكس الأميركي، الذي رجّح بلوغ أسعار الخام عتبة الـ 100 دولار.

  • الإطار العام والفرضيات: بصمات خبراء الـ FMI واضحة

يمكن القول إن أكثر الأرقام لفتًا للنظر هو الـ 20 مليار دينار، قيمة التداين المفترض توفيرها وهو رقم تاريخي بالمناسبة، ما يعني رفع نسبة المديونية إلى 86.5%، فيما لا يطرح قانون المالية مصادر الموارد المفترض توفيرها

يمكن القول إن أكثر الأرقام لفتًا للنظر هو الـ 20 مليار دينار، قيمة التداين المفترض توفيرها وهو رقم تاريخي بالمناسبة، ما يعني رفع نسبة المديونية إلى 86.5%، فيما لا يطرح المرسوم الصادر بالرائد الرسمي، ولا ندوة صحفية دعت لها رئاسة الحكومة يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2021، مصادر الموارد المفترض توفيرها. لكن في تقديمها للفرضيات التي تم اعتمادها في إعداد الميزانية، أشارت وزيرة المالية سهام البوغديري نمصية إلى أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ستنطلق مع بداية 2022 وأن 80 شخصًا شاركوا في إعداد برنامج الإصلاحات، على حد قولها.

اقرأ/ي أيضًا: الاقتصاد التونسي: 2021 عام الانتكاسة.. والمجهول يحف بقانون المالية 2022

"من الوهلة الأولى يظهر أن من قاموا بإعداد هذه الميزانية هم أنفسهم من قاموا بإعداد ميزانيات الحكومات السابقة التي، على الأقل، كان فيها حد أدنى من التشاركية ما وفّر قدرًا أدنى من الضغط للتعديل"، هكذا كانت القراءة الأولى لرمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

للإشارة، كان كل من منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومنظمة بوصلة قد أطلقا يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2021، حملة "يزي ما رهنتونا"  للتحذير من مواصلة سياسات التداين التي أوصلت البلاد إلى وضعية الأزمة المركبة التي تعيشها.

"من خلال الفصول الواردة بقانون المالية، حكومة بودن هي تَواصل لحكومة المشيشي"، هكذا صرّح أمين بوزيان، مدير مشروع مرصد الميزانية بمنظمة بوصلة لـ"الترا تونس": "الفصول الأولى حول إجراءات التشجيع التقاعد المبكر وتمكين الموظفين من عطلة لبعث مشروع، هي تمامًا ما جاء في رسالة هشام المشيشي لصندوق النقد الدولي".

بن عمر (منتدى الحقوق الاقتصادية) لـ"الترا تونس": تسعى الحكومة إلى فرض رسوم جبائية جديدة تستهدف الطبقات الوسطى والموظفين بالأساس، في تضارب واضح بين القول السياسي لسعيّد وفعله الاقتصادي

من جهته، انتقد بن عمر ما اعتبره "تعتيمًا ممنهجًا" في إعداد الميزانية وغياب التشاركية، وتساءل: "لماذا لم يُطرح القانون للاستفتاء مثلًا إن كان الرئيس يؤمن بالديمقراطية كما يقول؟" بصفة عامة، الإطار العام والفرضيات التي صيغت وفقها هذه الميزانية هي نفسها التي كانت معتمدة من الحكومات السابقة، قبل وبعد الثورة، وخطوطها العريضة هي: الجباية (مباشرة وغير مباشرة) للطبقة الوسطى، الامتيازات الجبائية لطبقة الأعمال وكبار المالكين، تقليص الدور الاجتماعي للدولة عبر تقليص الموارد المخصصة للتنمية والاستثمار العمومي، والعمل على تقليص العجز المالي من خلال مقاربة إدارية ومحاسبتية، دون أي تصوّر أو رؤية سياسية.

  • مقاربة المحاسبتية أو نظرية "العطريّة":

يذكر أن سعيّد، الذي طالما شدّد على ضرورة الإنصاف الجبائي والعدالة الجبائية وضرورة اعتماد مقاربات جديدة في المنوال الاقتصادي، كان قد فند في مجلس وزاري مضيق قد ترأسه يوم 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ما تم تداوله من تسريبات في مواقع التواصل الاجتماعي حول الإجراءات الضريبية المزمعة، والحال أن ما جاء في المرسوم قريب مما تم تداوله، كالفصلين 54 و55 حول توظيف معلوم جبائي على تذاكر البيع المسلمة بين قبل المغازات التجارية (الفصل 54)، والترفيع في تعريفة معلوم الجولان للسيارات (الفصل 55).

بوزيان (بوصلة) لـ"الترا تونس": الحكومات السابقة خفضت الضريبة على المساحات الكبرى من 35% إلى 15%. فلِمَ لم يراجع سعيّد هذا الحيف الجبائي طالما يدّعي أن له طرحًا مختلفًا؟ علمًا وأن الامتيازات الجبائية لأصحاب الأعمال تبلغ 4.7 مليار دينار وهي تقريبًا نسبة الدعم موضوع الجدل

كانت الحكومات السابقة، حكومة الشاهد قد خفضت الضريبة على المساحات الكبرى من 35% إلى 25%، ثم قامت حكومة المشيشي بتخفيضها إلى 15%. تندرج هذه التخفيضات في إطار توصيات المؤسسات المانحة التي تدفع نحو تفضيل القطاع الخاص. "لماذا لم يراجع سعيّد هذا الحيف الجبائي طالما يدّعي أن له طرحًا مختلفًا؟" يذكر أن الامتيازات الجبائية التي يتمتع بها أصحاب الأعمال، حسب تصريح بوزيان، تبلغ 4.7 مليار دينار، وهي تقريبًا نسبة الدعم موضوع الجدل. فيما لا تقوم الشركات المتمتعة والقطاعات بالمطلوب منها لقاء هذه الامتيازات، كخلق الثروة، التشغيل، المساهمة في التنمية...

اقرأ/ي أيضًا: المؤسسة الاقتصادية والسلطة السياسية.. أي علاقة؟

في المقابل، تسعى الحكومة إلى فرض رسوم جبائية جديدة تستهدف الطبقات الوسطى وفئات الموظفين بالأساس، أكثر الطبقات والفئات المنضبطة ضريبيًا وفق وصف رمضان بن عمر في تصريحه، في تضارب واضح بين القول السياسي لسعيّد، وفعله الاقتصادي. عدا بعض الإجراءات التجميلية، لا جديد يذكر في مستوى الفلسفة التي صيغت وفقها الميزانية: مقاربة بيروقراطية ومحاسبتية صرفة، تسعى إلى تقليص نسبة العجز عبر فرض رسوم وأداءات جديدة، لا يقابلها أي مقابل أو خدمة لصالح دافعي الضرائب.

يوم 19 جويلية/يوليو 2021، تقدمت الكتلة الديمقراطية بطعن لدى الهيئة الوقتية لمراقبة الدستورية القوانين، ضد قانون الإنعاش الاقتصادي وتسوية مخالفات الصرف الذي اقترحته الحكومة، في نسخة محيّنة عن حكومة إلياس الفخفاخ، وصادق عليه البرلمان.

وكان القانون قد تضمّن عدة فصول أثارت لغطًا كالفصل 26 الذي يهدف إلى إدماج الاقتصاد الموازي من خلال دفع ضريبة 10% على الأموال مجهولة المصدر، وإجراءات أخرى لفائدة الباعثين العقاريين، ما دفع منظمة بوصلة لمعارضة القانون كونه يكرّس: الإفلات من العقاب والتهرّب الضريبي، ويعمّق الفوارق الاجتماعية. يذكر كذلك أن البنك المركزي آنذاك عارضه كونه "يعرقل السياسة النقدية".

لا جديد يذكر في مستوى الفلسفة التي صيغت وفقها الميزانية: مقاربة بيروقراطية ومحاسبتية صرفة، تسعى إلى تقليص نسبة العجز عبر فرض رسوم وأداءات جديدة، لا يقابلها أي مقابل أو خدمة لصالح دافعي الضرائب

ساهمت كل هذه المعطيات، إلى جانب معطيات أخرى، في شحن الجو السياسي قبل 25 جويلية/يوليو 2021، والتي استثمرها سعيّد فيما ذهب إليه، للقطع مع "سياسة التنكيل بالمواطن" حسب أحد توصيفاته المفضلة. طبعًا هنا لا يمكن إنكار الوهن والفشل الذي اتسمت به حكومة المشيشي وحزامها السياسي.

المفارقة هنا، أن الفصول التي كانت موضوع الرفض من قبل الهياكل المذكورة، هي نفسها الواردة بمرسوم المالية لسنة 2022:

  • تسوية الوضعية الجبائية للأشخاص الطبيعيين بعنوان المداخيل والأرباح المتأتية من أنشطة غير مصرح بها (الفصل 66)
  • وتسوية الديون والخطايا والعقوبات الجبائية (فصل 67)
  • تخفيف العبء الجبائي على عمليات بيع المساكن من قبل الباعثين العقاريين (الفصل 27).

بالإضافة إلى فصل ينصّ على إعفاء الأداء على القيمة المضافة العمولات الراجعة لوكلاء أسواق الجملة المتعلقة منتجات الفلاحة والصيد البحري (الفصل 34 و35). جدلًا نتساءل ماهي الإضافة التي سيحققها هذا الفصل، في منظومة اقتصادية ينخرها التهرّب الضريبي، إن لم يكن مزيدًا من الامتيازات لصالح الوكلاء والوسطاء، في المقابل تتواصل مأساة الفلاح، الصياد والمستهلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أيّ "تقشف" يدعو إليه الرئيس سعيّد؟

إنشاء "شركات أهلية" في تونس.. هل تساهم في حل الأزمة؟

من بينها الحليب والزيت والحبوب: أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس