13-فبراير-2022

قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة بالعاصمة التونسية احتضنت العرض قبل الأول لفيلم "غدوة" (رمزي العياري/الترا تونس)

 

بعد أن غادرت مدينة الثقافة الشاذلي القليبي بالعاصمة تونس، مساء 12 فيفري/شباط 2022، على إثر حضوري الحفل الخاص بعرض شريط غدوة لمخرجه النجم السينمائي والتلفزيوني التونسي ظافر العابدين، امتطيت سيارة تاكسي كان يقودها شاب يافع وأنيق وبعد دردشة قصيرة معه، تبيّن أنه لا يزال طالبًا بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس، استغربت أمر ربطه بين الدراسة والعمل فأوضح أن عمله كسائق تاكسي يجعله في صميم مسرح الحياة وأردف "إن شاء الله غدوة خير...وديما عنا ثقة في بلادنا".

لقد شعرت أن نهاية شريط غدوة لظافر العابدين تواصلت من خلال الحوار الذي جمعني بسائق التاكسي ـ الطالب، لقد بدا هذا الشاب بطلًا آخر للشريط، فكل التونسيين يأملون في "غدوة" (الغد/اليوم الجديد) علّ الأحلام تتحقق، علّ أهداف الثورة تتحقق، الثورة التي أزاحت العتمة وأنارت وجه تونس أمام العالم ومنحتها صوتاً عاليًا، صدّاحًا وجعلت كل مقولات الحلم بالأفضل تحوّم فوق سماء تونس منذ منذ 2011.

شريط "غدوة" الذي رفضته لجنة انتقاء أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان أيام قرطاج السينمائية ضمن الدورة الأخيرة لسنة 2021، شارك في فعاليات الدورة 43 لمهرجان القاهرة الدولي وحاز جائزة النقاد

شريط "غدوة" الذي رفضته لجنة انتقاء أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان أيام قرطاج السينمائية ضمن الدورة الأخيرة لسنة 2021، شارك في فعاليات الدورة 43 لمهرجان القاهرة الدولي وحصد جائزة  "الفيبريسي" وهي جائزة النّقاد كما لاقى التنويه والاستحسان من الصحافة المصرية والمشرقية عمومًا.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "فرططو الذهب" لعبد الحميد بوشناق: هشاشة الإنسان بواقعية سحرية سينمائية

مشهد من الفيلم

 

وبالرغم من أن فيلم غدوة أنجزه نجم سينمائي وتلفزيوني لمع في المشرق العربي عبر مشاركات درامية وسينمائية مصرية ولبنانية متميزة إلا أن ظافر عابدين عاد عبر هذا الشريط إلى أرخبيل السينما التونسية، إلى مربّع سينما المؤلف، السينما التي تكتب الفلسفة والسياسة بواسطة الكاميرا وبأساليب جمالية فائقة. لقد ترك عابدين كل بهرج نجوميته وعاد بفنه إلى شميم تربة تونس. 

"سي الحبيب" (ظافر عابدين) بطل الشريط هو محام حقوقي يملك أدلة عن انتهاكات حصلت لسياسيين ومواطنين تصدوا للدكتاتورية فتعسف عليهم النظام و"السيستام" وتمكنت بأجسادهم "ماكينة" التعذيب، لكن الثورة لم تنصفهم، فظل متمسكًا بحقوقهم إلى درجة الهوس.

"سي الحبيب" (ظافر عابدين) بطل الشريط هو محام حقوقي يملك أدلة عن انتهاكات حصلت لسياسيين ومواطنين تصدوا للدكتاتورية فتعسف عليهم النظام و"السيستام" وتمكنت بأجسادهم "ماكينة" التعذيب

الشريط يقدم هذه القضية الجوهرية في المسار الديمقراطي التونسي والتي لم تتناولها السينما التونسية من قبل ضمن خطية درامية تعوّل كثيرًا على تضامن المتفرّج  مع الأبطال، فسي الحبيب المتلبس بالقضايا الحقوقية المخذولة يبدو شخصية مركّبة ومتشظية وعاطفية تحاصرها الهزيمة والوحدة إلى حد المرض بالوسواس القهري.

لا سند لها في إظهار حقيقة ما حصل للحقوقيين التونسيين اللذين أصروا على متابعة ملفات التعذيب والتنكيل والتضييق في السنوات التي تلت الثورة والإصرار على مواجهة الشق الذي طالب بالذهاب للمصالحة من غير محاسبة حقيقية.

السند الوحيد "للبطل الحقوقي" سي الحبيب كان من ابنه أحمد (الممثل اليافع أحمد بن رحومة) وجاره العم هاشم (الممثل البحري الرحالي) وجارته سعدية (الممثلة رباب السرايري)... ثلاثتهم كانوا الحضن الدافئ للرجل المهشم الفؤاد، ثلاثتهم شكلوا أملاً في الحب البديل عن الخسران الأول الذي عاشه مع زوجته الأولى (الممثلة نجلاء بن عبدالله) ففي وجوههم يتزين اليوم الجديد "غدوة"."سي الحبيب" لم يلق السند من حقوقيين آخرين أو سياسيين صادقين وهو لعمري حال أغلب الحقوقيين التونسيين بعد الثورة.

اقرأ/ي أيضًا: السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة

مشهد من الفيلم

 

الخطية الدرامية للشريط ورغم بطء الحركة وترددها أحيانًا أخرى في بعض المشاهد إلا أنها في مجملها متماسكة وهو ما يشي بدقة السيناريو الذي كتبه المخرج ظافر عابدين مع السيناريست المصري أحمد عامر، فإلى جانب الزوايا الواضحة في الحكاية التي يسردها الشريط، فإن الكاميرا تقدم صورًا رائعة لتونس العاصمة بصخبها وبشوارعها المتهالكة وبمارتها المنهكين المثقلين بالأيام واللذين تعلو وجوههم بعض الابتسامات التي تشبه بذور الأمل.

لا يكفي نجاح الشريط السينمائي فكرته الواضحة المعالم والقريبة من هوى المتفرّج أو الانبهار بها والمونتاج الذكي جماليًا والإخراج الجيد، بل لا بد من الاختيار الجيد للممثلين وهذا ما يحسب للشريط التونسي "غدوة" فظافر عابدين قد وفّق في اختيار الممثلين وهو يقودنا للحديث عن الآداء.

الكاميرا ي "غدوة" تقدم صورًا رائعة لتونس العاصمة بصخبها وبشوارعها المتهالكة وبمارتها المنهكين المثقلين بالأيام واللذين تعلو وجوههم بعض الابتسامات التي تشبه بذور الأمل

وضع الممثل ظافر عابدين كل خبرته في هذا الدور المركب لشخصية سي الحبيب إنها تجربة استثنائية بالنسبة إليه وهو الممثل الذي ارتبطت أغلب أدواره بالدنجوانية والوسامة. إن آداء ظافر عابدين في هذا الشريط يمكن للمتلقي أن يلمحه أساساً في وجه الشخصية، في نظراته المعبرة والانفعالية وابتساماته المليئة بالألم والأمل وتعبيرات أصابع يديه وخطواته التي يكبلها الخوف من المجهول.

اقرأ/ي أيضًا: "سيني ريف".. أنموذج لدمقرطة الثقافة في تونس

الدور الأساسي الثاني في شريط "غدوة" كان للابن "أحمد" وقد قام ببطولته الطفل اليافع أحمد بن رحومة، لقد كان تخلص هذا الطفل من كل "تراك" كان يمكن أن يتلبس به وهو يقف وقفته الأولى أمام الكاميرا واندفع في سهول دوره الصعب بكل بساطة. لقد أدى دوره بكل انسيابية وطفولية.

أما "العم هاشم" جار سي الحبيب بالعمارة، حيث يقطن، فقد أدى هذا الدور الفنان والممثل القدير البحري الرحالي الذي بدا مختلفًا تمامًا عن آدائه المعهود، لقد جلب لهذا الدور روح المسرح التونسي ونثرها في المكان، حركاته المفعمة بالعاطفة وهدوء كلماته ودفء صوته شكلت ملاذًا آمنًا للجار المريض.

أما عن الممثلة نجلاء بن عبد الله ورغم مرورها القصير إلاّ أنها دقائق من الزمن تمتاز بالتكثيف العاطفي وتقدم صورة للزوجة المتخلية عن زوجها المريض.

وهناك شخصية "سعدية" التي أدّتها الفنانة والممثلة رباب السرايري بذكاء نادر، بل بنصف ابتسامة ونظرة نصفها حزن ونصفها الآخر إغراء لتتحول إلى "سيرانة" في ذهن جارها سي الحبيب. 

إن شريط غدوة بقدر ما يطرح قضية حقوق الإنسان في تونس قبل وبعد سنة 2011 ويعتبر أن الثورة لم تتحق أهدافها بعد،  فإنه يطرح بعمق دور المثقف  العضوي في المجتمع، المثقف القرامشي، المغير والمحير والمشير إلى الحقيقة والمستنهض لهمم الشعب من أجل العدالة التي تعتبر دينامو وأساس كل عملية ديمقراطية. ونهاية الشريط يمكن أن توحي بذلك فلحظة الطمأنينة التي علت وجه بطل الفيلم سي الحبيب وهو يركب سيارة الشرطة وابنه أحمد يعده بمواصلة المشوار من بعده في الدفاع عن حقوق الناس.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

رغم الجائحة والأزمة الاقتصادية والسياسية سنة 2021..الثقافة تنعش الحياة في تونس

حوار| أحمد القاسمي: سينمائيون يعرقلون النقد الأكاديمي والفيلم الوثائقي مشوّه