04-نوفمبر-2020

أطراف متعددة إدارية واقتصادية ورقابية معنيّة بهذه الفضيحة (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

 

فضيحة جديدة تهز الرأي العام التونسي انطلاقًا من الميناء التجاري بسوسة الذي أضحى مسرحًا لجرائم تجارية وضعف رقابي حسب الملاحظين، فبعد قضية ما يسمى بتوريد القمح الفاسد السنة الفارطة لفائدة شركة خاصة تثار اليوم قضية "توريد نفايات منزلية مجمعة" محظور جلبها قانونًا.

 قضية ألهبتها تدوينة على مواقع التواصل الاجتماعي وصور نشرت في 28 جويلية/يوليو 2020 تظهر نفايات في إحدى مخازن الديوانة بميناء سوسة التجاري، ثم أعقبتها تحقيقات في الصحافة الورقية والمرئية حول هذه المسألة وكشفت حقائق مرعبة حول تورّط  شركة خاصة تونسية مصدرة كليًا مختصة في رسكلة النفايات البلاستيكية وإعادة تصديرها.

أطراف متعددة إدارية ودوائر اقتصادية ورقابية معنية مباشرةً بهذه الفضيحة وأسئلة كثيرة أعيدَ طرحها ولا زالت الإجابات مبهمة، لاسيما وأن تداعيات هذه الفضيحة قد حولت تونس من "مطمور روما" إلى "مزبلة إيطاليا"، في منظور البعض

أطراف متعددة إدارية ودوائر اقتصادية ورقابية معنية مباشرةً بهذه الفضيحة وأسئلة كثيرة أعيدَ طرحها ولا زالت الإجابات مبهمة، لاسيما وأن تداعيات هذه الفضيحة قد حولت تونس من "مطمور روما" إلى "مزبلة إيطاليا"، حسب تعبير البعض.

تداعيات قد تمس الشركة نفسها وتدعو إلى الكشف عمّن يقف وراءها؟ وما هي التسهيلات الحكومية والإدارية التي تحصلت عليها لتيسير توريد هذا الصنف من النفايات؟ و ما هي مواقف الهياكل البيئية؟ ماهي اختصاصات هذه الشركة؟ وما كان موقفها بعد الصمت المطبق الذي أحاط بالقضيّة؟

في مدينة سوسة الساحلية يشكل الميناء التجاري البحري عصب الاقتصاد بالجهة وحيوية تجارية ضخمة ونقطة تصدير وتوريد كبيرتين وقد ساهم الميناء في دفع المبادلات التجارية مع بلدان العالم وأغلب السفن التي ترسو فيها هي سفن تقليدية يتجاوز طولها 170 مترًا.

في شهر جوان/يونيو الفارط، بينما تعاني البلاد التونسية من جائحة الكورونا وتداعيات الحجر الصحي الشامل وعدم الاستقرار السياسي، لم تنقطع الحركة التجارية بالكامل بل بمجرد انفراج الأزمة صحيًا وبداية رفع حركة التنقل بين الدول واستئناف الحركة التجارية بشكل مطرد، استقبل الميناء التجاري بسوسة سبعين حاوية كبيرة الحجم من النفايات وتم نقلها في وقت قياسي نحو مخازن شركة خاصة بجهة الموردين من معتمدية مساكن. 

صور انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في شهر جويلية/يوليو، أبرزت عددًا من الشاحنات ينقل هذه الحاويات التي انبعثت منها الروائح الكريهة وسط استياء عام ونقاط استفهام حول هذه المواد الموردة.

ومع بروز أوائل التحقيقات حول هذه المادة، اكتشفنا أن شركة خاصة مختصة في رسكلة النفايات ورّدت زهاء 282 حاوية من النفايات وتم تسريح سبعين منها نحو مخازن الشركة تحت المراقبة الديوانية في حين لا تزال 212 حاوية راسية حاليًا على رصيف الميناء منذ حوالي 5 أشهر.

و حسب المعطيات الأولية، فإن الاشكال يكمن في نوعية هذه النفايات المورّدة والجهات التي سهلت دخولها وأبدت وساطتها في دخولها إلى التراب التونسي تحت رعاية شركة تتمتع بامتيازات جبائية فهي شركة "مصدرة كليا" off shore .

لئن اتفقت المصالح الديوانية والخبراء في مجال رسكلة النفايات على أن هذه النوعية الموردة تدخل تحت طائلة الممنوعات بموجب الاتفاقيات الدولية، فإن الشركة المعنية قد أنكرت توريدها هذا الصنف من إيطاليا وادّعت أنها نفايات بلاستيكية قابلة للرسكلة

ولئن اتفقت المصالح الديوانية والخبراء في مجال رسكلة النفايات على أن هذه النوعية الموردة تدخل تحت طائلة الممنوعات حسب اللائحة الترتيبية للاتحاد الأوروبي عدد 1013 لسنة 2006، وبالتحديد في التصنيف الوارد بالملحق عدد 2 من اتفاقية بازل (معاهدة دولية التي تم تصميمها للحد من تحركات النفايات الخطرة بين الدول، وعلى وجه التحديد لمنع نقل النفايات الخطرة من البلدان المتقدمة إلى البلدان الأقل نموًا) باعتبارها "نفايات منزلية مجمعة " فإن الشركة المعنية قد أنكرت توريدها لهذا الصنف من النفايات من إيطاليا وادعت أنها نفايات بلاستيكية قابلة للرسكلة.

أصبح الميناء التجاري بسوسة مسرحًا لجرائم تجارية وضعف رقابي (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

اعتراض الديوانة التونسية عن السماح لهذه الحاويات بالخروج من رصيف الميناء نحو مقر الشركة التونسية قابلته ضغوطات خارجية من طرف الشركة الأجنبية وضغوطات داخلية من طرف وكلاء الشركة التونسية ورفع قضايا لدى المحاكم التونسية.

تابعنا مسار الشركة التونسية فوجدناها شركة تأسست سنة 2009 وكان لها موقع تعريفي وتجاري على الشبكة العنكبوتية تسوّق لبضاعتها المتمثلة في مواد مختلفة مرسكلة من البلاستيك وتثمّن هذه المواد وتعيد تعبئتها حسب طبيعة المادة ثم تقوم بإعادة تصديرها نحو عدد من بلدان العالم لتستعمل في الصناعات الاستهلاكية، ومن بين الدول التي تتعامل معها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والمملكة المتحدة وكندا وبلجيكيا وأوكرانيا وأندونيسيا والصين (حسب ما هو منشور في بطاقة تعريفها).

أما عن المواد الموردة لإعادة رسكلتها فهي تضم أصنافًا قد ترتقي إلى 12 صنفًا أو أكثر ومن بين المواد التي يمكن عرضها على سبيل الذكر لا الحصر الكابلات والأكياس وقطع غيار السيارات البلاستيكية ونفايات مواد التعبئة من البلاستيك والمواد البلاستيكية لمنتوجات ذات الاستعمال الواحد وحاويات مواد طبية وغذائية من البلاستيك وصناديق المواد الغذائية والخضار وكذلك حاويات الزينة البلاستيكية وعشرات الأنواع الأخرى من النفايات البلاستيكية.

غير أن موقع الشركة على الإنترنت قد تم إغلاقه في ديسمبر/تشرين الثاني 2014 ، وإن كان مقرها كما هو مدوّن في السجلات الرسمية في المقاسم الصناعية للوكالة العقارية الصناعية بسيدي عبد الحميد، فإن مخازن الشركة توجد في جهة الموردين من معتمدية مساكن، كما توصّلنا إلى معلومات عن نيّة الشركة كراء مخازن ومقرّ رسكلة للنفايات في المنطقة الصناعية بسيدي الهاني.

توقف الشركة عن العمل واستئناف توريد النفايات في أفريل/إبريل 2020 و في هذا الوقت بالذات بمبلغ جملي قيمته 18 مليون دينار سنويًا، حسب العقد مع شركة إيطالية، وإيقاف الشحنة من طرف المصالح الديوانية قد وجه أصابع الاتهام إلى أطراف عدة تكتمت رسميًا في البداية عن كنه هذه الصفقة ومن بينها وزارة التجارة ووزارة البيئة والوكالة الوطنية لحماية المحيط والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، وأثارت تساؤلات حول مدى شفافية المهام الرقابية لؤسسات الدولة.

اقرأ/ي أيضًا:  منقّبو النفايات في تونس.. "برباشة" جدد بسيارات رباعية الدفع

مساء الثلاثاء 3 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، كانت أول ردود الفعل الرسمية ببلاغ عن وزارة الشؤون المحلية والبيئة أذنت فيه بـ"فتح تحقيق إداري" ونفت كليًا "تقديمها أي ترخيص لهذه الشركة أو غيرها لتوريد نفايات من الخارج" كما اتهمت الشركةَ بـ"القيام بعدة مغالطات في مختلف إجراءاتها و خاصة فيما يتعلق بإجراءات التوريد المحددة بالتشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية". كما أقرت الوزارة بأنه "بتاريخ 8 جويلية/يوليو 2020 وبحضور كافة الوزارات المعنية (من بينها الوزارة المكلفة بالبيئة) تم إقرار عدم قبول الحاويات مستقبلًا وإلزامية إرجاع كامل الكميات الموردة سابقًا للمصدر" .

من جهتها، أبدت إدارة الشركة التونسية رأيها بعد صدور بلاغ وزارة الشؤون المحلية والبيئة، من خلال تصريح صحفي لمحاميها مهدي نور الدين في إذاعة "موزاييك أف أم" بالقول إن "كل الاتهامات الموجهة للمورد مغالطة للرأي العام وعارية من الصحة وقائمة على التخمينات".  وأكد المحامي  أن الشركة تكبدت خسائر هامة، إذ كان مبرمجًا أن تتم عملية الرسكلة في ظرف ثلاثة أسابيع على أن تتم عملية التصدير في مدة لا تتجاوز 6 أشهر على أقصى تقدير".

اتصل مراسل "ألترا تونس" برئيس  لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد و مراقبة التصرف في المال العام  بمجلس النواب  بدر الدين القمودي الذي أقر إدراج هذه المسألة  ضمن أعمال اللجنة التي ستتتحرى في الموضوع وتحدّد الاطراف الضالعة فيه و ذلك يوم الإثنين القادم". 

كما اعتبر بدر الدين القمودي أن هذه المسألة "مرتبطة بالفساد وضعف الرقابة في ميناء سوسة"، مصرحًا: " لقد ثبُت لنا بالدليل أن ميناء سوسة من أضعف الموانئ على مستوى الرقابة خاصة بعد زيارتنا له بخصوص ملف القمح الفاسد السنة الفارطة".

بدر الدين القمودي (رئيس  لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بالبرلمان):  لقد ثبُت لنا بالدليل أن ميناء سوسة من أضعف الموانئ على مستوى الرقابة

وشدد النائب بالبرلمان على أنه ستتم الإحاطة الكاملة بهذا الملف والتحقيق فيه، مشيرًا إلى أن ذلك سيشمل الديوانة وزارة التجارة والشركة الموردة لاستجلاء الحقيقة من كافة الأطراف التي هي في علاقة مباشرة بالملف،  خاصة وزارة البيئة ".

و استجلاءً لموقف المجتمع المدني، اتصل "ألترا تونس" بمنير حسين عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي أكد مباشرةَ المنتدى التحقيق في هذه القضية منذ شهر جويلية/يوليو الفارط، معتبرًا أن قيمة الصفقة تثير الكثير من الشكوك والريبة.

 كما أكد أن "هذه المسألة تشكل خطرًا على البلاد وصحة المواطن باعتبار أن مثل هذه النفايات لها ممرات معالجة خاصة وتثمينها يكون بوسائل متطورة و ذات خصوصية"، على حد قوله.

و اعتبر  عضو منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن "تونس تعاني من مسألة النفايات المنزلية وخاصة في  منطقة الساحل المنكوبة بيئيًا"، مضيفًا: "ما لاحظناه  في عديد المجالات سواء عن طريق الصناعات الملوثة أو عن طريق الديوان الوطني للتطهير أو أيضًا بالنسبة للنفايات الصلبة المنزلية والمشابهة والتي يتم ردمها في مناطق معينة".

وتابع القول: "لا زلنا نعاني من نفس الأساليب التي تعمّق المشكل و تستبيح المجال البيئي"، مؤكدًا أن موقف المنتدى "راديكالي بخصوص هذه المسألة وهو مع منع توريد هذه النفايات مهما كان مصدرها".

وأضاف منير حسين، في ذات الصدد، "يكفينا فشل المنظومات التي أثبتت فشلها في كل مناطق الجمهورية بجميع أنواعها وأثبتت قصورًا في سياسات الدولة في هذا المجال، فعمليًا المراقبة تبقى مشبوهة وغير واضحة وغير شفافة، وبالنسبة لنا لا نجازف بقبول هذه الأخطار"، معتبرًا أن "هذه العملية تخفي الكثير من الأخطار ولابد من أن تتحمل الوكالة الوطنية لحماية المحيط مسؤوليتها وهي المكلفة أساسًا بمراقبة مثل هذه المشاريع والتجاوزات البيئية".

وطالب الناشط الحقوقي بـ"فصل الوكالات ذات المهمة الرقابية عن وزارة البيئة "، موضحًا أنه "لابد لهذه الوكالات أن تتمتع باستقلالية لتقدر على متابعة المسائل بكل وضوح مع اعتماد بروتوكول واضح في المسألة البيئية التي قد تهدد أرضنا والأجيال القادمة"، وفق تقديره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ملف توريد نفايات من إيطاليا: وزير البيئة يأذن بفتح تحقيق إداري

مصب "برج شاكير".. كارثة بيئية تفضح سياسة الدولة في التصرف في النفايات