28-مايو-2019

جولة في سوق تملؤه تغاريد عصافير "المقنين" و"الكنالو" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

تمتزج نسمات الصباح الباكر بتغاريد العصافير تحت سور مدينة سوسة أين تختلف جلبة سوق الطيور فجر الأحد عن الأسواق الأخرى، وحيث تنتشر أقفاص العصافير المعلقة على الأسوار تحت جذع نخل يستظل بها الباعة الذين تتمحور أحاديثهم عن العصافير وتغريداتها وأطعمتها وشأن تربية فراخها وغلاء تكلفتها وأثمانها.

تملأ تغاريد الكناري والحسون الآفاق فيما لا تزال حركة العربات خافتة، وقد طغت على الآذان الصاغية في السوق تغاريد الطيور على الحناجر المتعالية بفعل قلة الضوضاء والضجيج. فلا يعلو صوت فوق تغاريد الطيور النادرة منها والمعتادة في مشهد سمفوني رائع، إنها أوبرا الزقزقات تحت الأسوار الخارجية للبرج العثماني.

 يتميّز سوق العصافير بالهدوء رأفة بالعصافير التي لا تقبل من يزعجها فهي إن انزعجت صمتت وإن سكتت ذهب بهاؤها وانخفض ثمنها

يتجوّل زوّار السوق جيئة وذهابًا وبعضهم يحمل أقفاص العصافير، هم زبائن وتجار ومربو عصافير يتحادثون ويتناقشون وأمام أنظارهم مئات العصافير من جميع الأنواع، على غرار مجموعة من بضع أشخاص يزايدون على عصفور نادر حسن صوته وغلا ثمنه وعزّ مقداره.

شرعت عند حلولي بالسوق، منذ أول وهلة، باستطلاع أمر هذه الطيور متجولًا بين الباعة والزبائن، أستمع حينًا إلى التغريدات وأتطلع أحيانًا الوجوه. هو سوق هادئ تغيب فيه الخصومات والصياح والتنافس على حوز الأماكن، يلتزم روّاده الهدوء رأفة بالعصافير التي لا تقبل من يزعجها، فهي إن انزعجت صمتت وإن سكتت ذهب بهاؤها وانخفض ثمنها.

اقرأ/ي أيضًا: فرسان يروضون الخيول تخليدًا لتراث الفروسية في تونس

عم الطاهر وغرام "المقنين"

عم الطاهر، كهل متقدّم في السنّ تراه في السوق يبتاع "فرخًا" أو يسدي نصيحة، حدثنا عن تجربته في تربية العصافير قائلًا إنه كان مغرمًا منذ الستينيات بجميع أنواع الطيور حينما كان يذهب لاصطيادها في الغابة، مشيرًا إلى أن العصافير كانت موجودة بكثرة قبل أن يتقلص عددها ويصبح بعضها مهددًا بالانقراض.

عم الطاهر (مربي عصافير): يظلّ عصفور "المقنين" (الحسّون) أمير العصافير في تونس ويصل سعره اليوم إلى 1000 دينار 

ويؤكد أن هواية العصافير لم تكن ذات مكسب تجاري سابقًا بل هو "نوع من الغرام" بتعبيره، قائلًا: "كنا نستمتع بشدوها وتلبي رغبتنا في الهدوء والسكينة والابتعاد عن الهم والغم، وكان غناؤها يضاهي مجد عمالقة الفن مثل أم كلثوم وعبد الحليم. كانت زقزقة العصافير في بهو المنزل ودكان العطار ومحل الجزارة وسبط البلاد العربي وسوق الربع وحانوت الجزار، تضفي مسحة من الأصالة".

تتعدّد أنواع العصافير وأشكالها في سوق الطيور (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

وحدثنا "عم الطاهر" أنه يربي عصفور "المقنين" (الحسون) منذ بداية غرامه بالعصافير إلى اليوم، مؤكدًا أن هذا العصفور الرشيق ذو الريش الأحمر القرمزي في الرأس واللون الأسود المتدرج الممتزج بالأصفر الفاقع في الجناحين وببهاء منقاره يظلّ أمير العصافير في تونس وعلامة الفرح في كل بيت، وفق تعبيره.

وحول أسعار العصافير، أفاد محدثنا أنه كان يشتري العصفور في الزمن الفائت بما لا يزيد ثمنه عن 400 مليم، مبينًا أن سعر "المقنين" قد يصل اليوم إلى 1000 دينار، فيما يصل سعر الكناري أو ما يسمى في تونس "الكنالو" بين 20 و30 دينارًا فيما قد يبلغ ثمن عصفور "الجغل" 100 دينارًا.

ماهي أكسسوارات وأغذية العصافير؟

واصلنا جولتنا في سوق الطيور ونحن نستمع إلى أسماء العصافير ومنها الكاناري أو "الكنالو" ومن ألوانه الأصفر والأبيض، وعصفور "السواكي" (نسبة إلى لون السواك)، وعصفور "الحمرايا زانب" (مائل إلى الحمرة)، وعصفور الساماريس أو "الخضيّر" الذي يتميز بالرشاقة والخفة وغيرها من أنواع الطيور والعصافير المنتشرة في الغابات التونسية.

وعلى أطراف السوق، قابلنا كمال بن رمضان، أحد باعة مستلزمات الطيور من أقفاص وأعلاف وأدوية، الذي أكد لنا أنه من أوائل مزودي مربي الطيور بمستلزماتهم وكلّ ما يحتاجه العصفور منذ عشرين سنة مضيفًا "كنا في السابق نبيع بضاعتنا بالقرب من باب الجديد لكن تحولنا إلى هذا المكان تحت الأسوار بعد أن ازداد عددنا".

تتعدّد أنواع أعلاف العصافير (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا: "دار الصيد" في سوسة.. بيت عتيق يحكي تاريخ عائلة تونسية

وأفاد كمال أن حرفاء سوق العصافير في سوسة يأتون من مناطق ومدن مختلفة على غرار الساحل والقيروان وصفاقس، مشيرًا إلى أن زوار السوق يجدون مختلف أنواع الأعلاف مثل "الزيوان الصافي"، و"الزيوان الممزوج" عدا عن الأقفاص وعش التفريخ والمسابح وخيط التعشيش وعشرات الأكسسوارات الأخرى. وقال إنه يوفر أيضًا الأدوية اللازمة عند كل مرض يصيب الطائر مؤكدًا أن الرعاية الصحية للعصافير هي إحدى الركائز الأساسية لحمايتها من الأمراض والأوبئة.

من أشهر أنواع العصافير في تونس الكاناري أو "الكنالو" ومن ألوانه الأصفر والأبيض و"السواكي" (نسبة إلى لون السواك) و"الحمرايا زانب" (مائل إلى الحمرة) والساماريس أو "الخضيّر"

وتحدثت إحدى الموسوعات التي اطلعنا عليها حول غذاء العصافير، عن استعمال المكسرات كاللوز والجوز والفستق التي تقدم على شكل مسحوق وغالبًا يقع خلطها مع بعض حبوب النيجير حتى يتذوقها الطائر في بداية الأمر قبل استعمال البذور.

ومن البذور شائعة الاستعمال لدى المربين، توجد بذور الكتان، والنيجير، والزنجلان، وعباد الشمس وبذور نبتة القريص (الحريكة). كما توجد خضر مفيدة للعصافير، لاحتوائها على نسبة مهمة من الفيتامين المطلوب، ومن أهمها الخسّ، والخيار، والفلفل السوداني والجزر، وذلك عدا تقديم البيض المسلوق وخصوصًا أصفره، وهو من العناصر الغذائية المهمة للعصفور.

من أغذية العصافير (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

قيس، أحد مربي العصافير، لم يخف عند لقاءنا به شغفه الشديد بتربية الطيور مشيرًا إلى أنه يملك 75 عصفورًا متحدثًا : "إن اعتنائي بها لا حدود له، أعتني جيدًا بجميع عصافيري وأرسم لها نظامًا غذائيًا متميزًا متكونًا من الجزر والبرتقال والخضروات والمكسرات. كما أسهر على نظافة ريشها وأقفاصها والمحافظة على غسلها مرتين في الأسبوع فأخلط الماء بخلّ التفاح حتى يلمع ريشها وتذهب بالحشرات التي قد تتسبب في نفوقها".

وأضاف قيس أن كافة المربين في السوق بدؤوا كهواة قبل أن يصبحوا مربين وباعة محترفين في مجال تربية العصافير. وأشار محدثتنا لارتفاع أثمان عديد أنواع العصافير نظرًا لارتفاع طلبات السوق، مبينًا أن بيع العصافير بات يشكل نشاطًا تجاريًا قائمًا بذاته يضمن تحسين الدخل المالي وضمان لقمة العيش للعديد من الباعة.

عصافير للزينة وأخرى للتغريد

في سوق العصافير في سوسة، يتوجه أغلب الزوّار إلى الكناري المعروف بـ"الكنالو" وكذا "الحسون" المعروف بـ"المقنين" بكافة أنواعهم. لكن لاحظنا أيضًا انتشارًا كبيرًا لعصافير الزينة وهي عصافير ذات ألوان زاهية تسرّ الناظرين وتمتع العين، ذات أصول أسترالية وأوروبية وأمريكية وآسيوية، وتُربى في الأقفاص من أجل العمل على تكاثرها نظرًا لطلبات السوق المتزايدة عليها.

بدأت تنتشر في السنوات الأخيرة عصافير مخصّصة للزينة تتميز بألوان زاهية لكنها ذات صوت قبيح لا تنافس العصافير الأخرى في زقزقتها

إذ بات هذا النوع من العصافير، في السنوات الأخيرة، إحدى إكسسوارات الزينة الأساسية في المنازل والمحلات التجارية، غير أن هذه العصافير النادرة ذات صوت قبيح لا تنافس بأي حال بهاء العصافير الأخرى.

في نهاية جولتنا في سوق سوسة للطيور، يتبيّن أن رحلة البحث عن العصفور النادر لا تطول على اعتبار توفّره، ولكن ما على الزائر إلا دفع المقابل المناسب من أجل عذوبة التغريد وبهاء اللون كي يتمتع بعلاج طبيعي من كافة أشكال التوتر والجلبة.

مراسل "ألترا تونس" في سوق الطيور في مدينة سوسة

 

اقرأ/ي أيضًا:

تربية الأسماك في تونس: قطاع واعد ومخاوف صحية وبيئية

"النعوشة" أو "أم الذراري".. طائر الموت في الموروث الشعبي التونسي