08-مايو-2020

سفيان الأمني في "أولاد مفيدة" عينة درامية خرجت عن الصورة النمطية التي حفلت بها المسلسلات قبل الثورة

 

تساهم الدراما التلفزيونية بأسلوب فنّي في الإبانة عن ملامح المجتمع، فتعرض عاداته المتأصلة وثوابته المتجذرة، وتكشف ما يطرأ عليه من تحوّلات ماديّة وثقافيّة وسلوكية وتواصلية وذوقية. هذه الملامح تتشكلّ في مسار الأحداث وتتجلى من خلال الأمكنة والأزمنة والديكور والملابس وغيرهما من العناصر والأدوات، وتتجسّد خاصّة عبر الشخصيات التي تنتمي إلى فئات مختلفة وقطاعات متعدّدة وطبقات متباينة.

لم تتخلف المسلسلات التونسية عن القيام بهذا الدور، فمن خلالها رسخت في الذاكرة صور الفلاح والموظف ورجل الأعمال والطبيب والمعلم والمثقف والمرأة في مختلف مواقعها وغيرها من النماذج الشعبية أو النخبوية.

صورة البوليس في المسلسلات التونسية خلال العشرية الأخيرة قد شهدت تحولًا لافتًا

ولئن حافظت جلّ هذه النماذج على سماتها الأساسية وملامحها الجوهرية عبر "أجيال درامية"، فإنّ صورة البوليس في المسلسلات التونسية خلال العشرية الأخيرة قد شهدت تحولًا لافتًا يستحقّ التوسّع إبانة وتحليلًا وتعليلًا وحفرًا في الخلفيات والملابسات.

اقرأ/ي أيضًا: "والله ما كادوني".. "النوبة" يعيد الحنين إلى مسرح الجنوب الخالد

من الندرة إلى الكثافة والتفرع

شخصية البوليس باتت أكثر حضورًا في الدراما التونسية بعد الثورة، هذا الانطباع لا يحتاج إلى الإحصاء والتعداد، فهو في مرتبة الملاحظات البديهية، فأشهر الأعمال التي شاهدها جمهور المسلسلات بعد 2011 مثّل فيها الشرطي الشخصية المهيمنة والأوثق صلة بالأحداث، ينطبق هذا الحكم على عشرات الأمثلة منها "ناعورة الهواء" من تأليف رياض السمعلي وإخراج مديح بالعيد، ومسلسل "الريسك" للمخرج نصر الدين السهيلي، و"أولاد مفيدة" لسامي الفهري خاصّة في جزئيه الرابع والخامس، هذا بصرف النظر عن بعض سلسلات السيتكوم التي أصبح فيها البوليس النواة الصلبة للأحداث والقضايا والمشاهد، نذكر في هذا المقام على سبيل المثال سلسلتين هزليتين الأولى عنوانها "الزميل" التي عرضتها قناة المتوسط سنة 2014 وجسّد أهم أدوار البطولة فيها لمين لنهدي ورياض النهدي ووليد النهدي، والسلسلة الثانية عنوانها "بوليس حالة عادية" من أبطالها كمال التواتي ولطفي العبدلي.

اقتصر دور البوليس في الأعمال قبل الثورة على التحقيق والمراقبة والمطاردة القصيرة وإلقاء القبض على المشتبه فيهم

لا شكّ أنّ الحضور المتواتر لرجل الأمن في هذه الأعمال قد فرضته طبيعة الأحداث، فقد بدت منفتحة على درجات وألوان شتّى من الجرائم التي ما انفكت تتزايد في المجتمع التونسي حتى بلغت أكثر من 174 ألف جريمة في سنة واحدة، وفق إحصائية رسمية صدرت في موفى سنة 2018، لكنّ هذا التبرير الكميّ الموضوعيّ رغم وجاهته يبدو قاصرًا على تفسير ظاهرة الظهور البارز لشخصية البوليس في الأعمال الدرامية.

فقد انفتحت الدراما التونسية قبل الثورة على جرائم القتل والسرقة والاختلاس والهجرة السرية والتزوير والتحرش والخيانة الزوجية وغيرها من الجنح والجنايات، يتضح ذلك في مسلسلات من قبيل "الدوار" و"حسابات وعقابات" و"منامة عروسية" و"إخوة" و"زمان" و"الليالي البيض" و"صيد الريم" و"مكتوب" و"نجوم الليل" وغيرها.

اقتصر دور البوليس في هذه الأعمال على التحقيق والمراقبة والمطاردة القصيرة وإلقاء القبض على المشتبه فيهم، وقد بدا مخرجو تلك الأعمال ومؤلفوها أميل إلى الإعراض عن سمة التفرع في العمل الدرامي مع هذه الشخصية بعينها، فتعطلت إمكانية التوغل في حياة البوليس الخاصة، وتم التعتيم على عالمه النفسي والذهني والأُسري والاجتماعي، هذا الاختيار الفني لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون عفويًا. لا بدّ أنّ الرقابة الأمنية والرقابة الذاتية قد ساهمتا في تسييج صورة البوليس دراميًا وحصرها في حيز ضيق مكانيًا ودلاليًا، فهي شخصية تظهر في الغالب داخل مكاتب مراكز الحرس أو الشرطة وتتصف في ملامحها العامة باللياقة والالتزام واليقظة والنجاعة، وهو ما ينسجم مع توجه سياسي قام على سردية "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان".

اللياقة والالتزام والنجاعة

في بداية الحلقة الثالثة من الجزء الأول من مسلسل "الخطاب على الباب"، جسّد الممثل على الخميري دور رئيس المركز، وبصرف النظر عن طبيعة الجريمة التي مثلت موضوع الحوار بينه وبين رؤوف بن عمر ( الشاذلي الطمار)، فقد أبان المشهد عن صورة نموذجية لرجل الأمن الذي اجتمعت فيه آيات اللياقة هندامًا وخطابًا، إذ بدا هادئًا مبتسمًا متفهّمًا ناصحًا ملمًّا بالقانون. تجلى ذلك في قوله مخاطبًا جليسه في مركز الشرطة " سي الشاذلي ريّض روحك، اللي نجمو نعملوه نعملوه، نحن ما ذا بينا (الأفضل بالنسبة إلينا) نكونو مُلمين بكل جوانب القضية".

هذه الصورة يتردد صداها في نهاية الحلقة الأخيرة من مسلسل "منامة عروسية" لكاتب السيناريو المتميز علي اللواتي، فقد أظهر رئيس مركز الحرس أريحية فائقة في التعامل مع الزاهي (علي مصباح) المتهم بإحراق منزل عروسية (منى نورالدين)، كما كرست شخصية البوليس التي جسدها الممثل عبد اللطيف بوعلاق صفة الوعي بالقانون وإجراءات التقاضي والفصل بين السلطات قائلًا في حكمة واستقامة  هاذي من اختصاصات المحكمة هي اللي تستخلص النتائج"، وذلك ردًّا على تدخل رجب ( يونس الفارحي) صديق الزاهي حينما أردا تقديم مبرر نفسي لما أقدم عليه المتهم.

خلت مسلسلات العهدين البورقيبي والنوفمبري أو تكاد من أيّ إشارة تشي بما في البوليس من ارتباك أو جهل أو انحراف أو تعسف في استعمال القانون

ورغم كثرة مشاهد النظر والتحقيق في قضايا التحيل وسرقة السيارات في مسلسل "الليالي البيض"، الذي أخرجة سنة 2007 الحبيب المسلماني، فقد ظل حضور البوليس وظيفيًا فلا يعرف المشاهد من الشخصية إلا أعمالها وصفاتها وأحوالها ذات الصلة الوثيقة بالدور الأمني المحض.

لا تختلف صورة محافظ الشرطة في هذا المسلسل عن بقية الأمنيين في بقية المسلسلات، فردًا على بلاغ تقدم به رجل الأعمال خالد العابد (فتحي المسلماني) حول خيانة مؤتمن يقول في الحلقة الأخيرة من الليالي البيض، يقول "أحنا باش نتعاملو مع البلاغ هذا على أنو مجرد شكوك في انتظار نقومو بالتحريات اللازمة، إذا أثبتنا على الموظف تهمة خيانة مؤتمن وقتها الشكاية تولي رسمية..". وفي سياق الحوار حول مراقبة هاتف أحد المتهمين، تمّ التشديد على انتظار الإذن من وكيل الجمهورية حرصًا على إبراز الاستقامة والمهنية الأمنية.

اقرأ/ي أيضًا: "قلب الذيب".. انتقادات لأخطاء التاريخ وهفوات الإخراج

خلت مسلسلات العهدين البورقيبي والنوفمبري أو تكاد من أيّ إشارة تشي بما في البوليس من ارتباك أو جهل أو انحراف أو تعسف في استعمال القانون، ولم تتجرأ تلك الأعمال الدرامية على مجرّد الإشارة إلى أي عيب في تركيبة عون الأمن الجسدية أو النفسية أو الذهنية أو الاجتماعية، التي يمكن أن تدفعه إلى ارتكاب أخطاء تفضح ما تنطوي عليه المؤسسة الأمينة من تجاوزات وخروقات، وهو ما يجعلنا نستنتج أنّ دراما ما قبل الثورة بدت في علاقتها بالبوليس محافظة مفتقرة إلى الجرأة النقدية، متورطة أحيانًا في سياسة التمجيد والتلميع، هذا المنحى سيتغير بشكل لافت في الدراما التونسية بعد 2011.

البوليس في صورة غير عاديّة

صورة البوليس بعد 2011 خرجت عن السيطرة، فالوضعية الدرامية والفنية في صلة بهذا الجهاز الحساس باتت غير عاديّة، فقد تحول البوليس في "الدراما الثورية" إلى موضوع نقد واتهام وتهكم وسخرية وتصوير كاريكاتوريّ لم يخل من مبالغة يبيحها الفنّ عامّة، فلا عجب أن تتصدّي النقابات الأمنية إلى ما أسمته في أكثر من مناسبة تشويهًا ومسًّا من كرامة الأمنيين ومعنوياتهم.

صورة الأمني المتورط في الفساد لم تكن مسقطة وليس فيها ما يوحي بالتزييف والتحامل والادعاء، فقد أقرت العديد من المنظمات الحقوقية والرقابية هذه الحقيقة، هذا ما أباح لمديح بلعيد مخرج ناعورة الهواء التنبيه إلى تخابر عدد من الأمنيين مع بعض شبكات الإجرام عن قصد أو عن غير قصد، وقد جسّد هذه العينة دراميًا الممثل محمد علي النهدي في دور البوليس رضا الذي انكشف أمره وخضع في بداية الحلقة الأخيرة من الجزء الأول إلى التحقيق والمساءلة من قبل زميليه كمال (خالد هويسة) والناصر (محمّد دحمان).

أفقدت دراما العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين البوليس صفات الثبات والهيبة والاحترام

 

أفقدت دراما العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين البوليس صفات الثبات والهيبة والاحترام، فحولتها في العديد من المواقف إلى شخصية مدانة مهنيًا وأخلاقيًا تثير في المشاهد مشاعر الاستنكار والسخط، ولعل أبرز مثال على ذلك شخصية الملازم آسيا في مسلسل "نوبة" (عشاق الدنيا)، التي اجتمعت فيها جل آيات القبح في الحركة والإيماءة والسلوك، وقد نجحت الممثلة رباب السرايري في تجسيد هذه الصورة المتفردة، وصرحت في أحد اللقاءات الإذاعية أنّ هذه الشخصية الأمنية قد كُتبت لكي تكون مكروهة.

شخصية آسيا لم تكن مركبة كما يدعي البعض، فهي لا تحمل تناقضات أو صراعًا داخليًا، فظاهرها وباطنها وخلفياتها ومقاصدها متناغمة، هي أنموذج للبوليس الذي لا يُأتمن ولا يوثق فيه، في المقابل يمكن الإقرار دون تردّد بأن شخصية سفيان في مسلسل أولاد مفيدة شديدة التعقيد والتركيب، فقد جسد معز القديري شخصية البوليس الذي اجتمعت فيه صفات متناقضة فهو مدمن على الخمرة مستخف بعالمه الخاصّ من جهة، وهو من جهة ثانية حنون شغوف بابنه رحيم بوالده.

من العلامات البارزة التي ميزت الدراما التونسية بعد 2011 تخلّص صورة البوليس من الاحتكار الذكوري

هذه الشخصية تتصف كذلك بالتطور من بوليس يكره التلاعب في التحقيقات ويصر على معرفة الحقيقة، إلى رجل أمن منخرط في التستر على الجرائم مساهم في تسهيل تهريب الأشخاص والسلع والمخدرات. صورة البوليس في أولاد مفيدة منسجمة مع صورة بقية الشخصيات، هي شخصيات آثمة تمارس ألوانًا من الأخطاء والجرائم ومع ذلك تثير في المتلقي الشفقة والمحبة والإعجاب.

سفيان البوليس عينة درامية خرجت عن الصورة النمطية التي حفلت بها المسلسلات قبل الثورة، فلا هي شخصية وقع إعدادها لكي تكون محل إعجاب وتقدير، ولا هي شخصية وضعت في السيناريو لكي تثير الكره والسخط، إنما هي نموذج فيه كل المواصفات الآدمية التي تتردّد بين الشدة واللين وبين الثقة والارتباك وبين الجدية والاستهتار وبين السطوة والضعف، هي شخصية تخطئ وتصيب، تندفع وتخاف، تكره وتحب، ألم تر كيف عدل سفيان بداية من الحلقة 12 من الجزء الخامس عن المطاردة البوليسية الشديدة فأقبل على المطاردة العاطفية اللطيفة، وقد تجلي ذلك خاصة في المشاهد التي أظهر فيها البوليس تعلقه بالمحامية نجلاء ( نجلاء بن عبد الله).

 

نحب نفهم حاجة وحدة كهو ... علاش هو موش أنا #AwladMoufida_S05

Posted by Elhiwar Ettounsi on Wednesday, May 6, 2020

 

ومن الصور التي ساهمت في إخراج البوليس من ملمح الصلابة والسيطرة على الأوضاع، صورة رئيس مركز الشرطة فتحي في مسلسل عشاق الدنيا/ نوبة2، فقد جسد مهذب الرميلي وجهًا إنسانيًا عميقًا مثيرًا لرجل الأمن الذي يواجه ألوانًا من الضغط، فيتحول من القوة إلى الضعف ومن الحكمة إلى التهور ومن اليأس إلى العزم، وتواجهه محنة مقتل أمه وزوجته وابنيه، فتدفعه هذه الفاجعة إلى محاولة الانتحار فالانهيار العصبي.. هذه الصورة لا تكشف عن الضعف بقدر ما تساهم في الإبانة عن بعض وجوه المعاناة التي يواجهها الأمنيون، وقد تغافلت عنها "دراما الأمن والأمان" وكشفتها "دراما الحرية والكرامة".

وللنساء نصيب في " الثورة الدرامية"

من العلامات البارزة التي ميزت الدراما التونسية بعد 2011، تخلّص صورة البوليس من الاحتكار الذكوري، فقد حصلت ثورة نسوية في الوجوه البوليسية، فتألقت في هذا الدور سليمة الوادي وياسمين الديماسي ورباب السرايري في مسلسلي ناعورة الهواء وعشاق الدنيا/ نوبة2.

وقد جسدت الديماسي دور الملازم (فرح) المساهمة في الإطاحة بقنوش (حسين المحنوش)، زعيم إحدى عصابات المتاجرة بالمخدرات، ومثلت أنموذج الأمني المحترم الذي جمع في سلوكه بين الكفاءة واليقظة في الأنشطة المهنية والحب والمشاعر النبيلة في العلاقات الإنسانية.

كما أبانت الشرطية نادية (سليمة الوادي) في مسلسل ناعورة الهواء عن تقلص المسافة المهنية بين الرجل والمرأة، إذ لم يقتصر دورها على الكتابة وتحرير المحاضر واستجواب المتهمين، إنما تعدّى ذلك إلى أفعال التفتيش والمطاردة والضغط على المتهمين وإلقاء القبض عليهم وغيرها من الأفعال الموحية بالشدة والصرامة.

تطورت صورة البوليس في الدراما التونسية كميًا ونوعيًا

من خلال هذا العرض لصورة البوليس في الدراما التونسية قبل الثورة وبعدها يمكن الاهتداء إلى ثلاث نتائج:

الأولى تتصل بتطور صورة البوليس في الدراما التونسية كميًا ونوعيًا، وهو ما ساهم في تحقيق مكسبين، الأول فني تمثل في جعل هذه الشخصية أكثر إثارة وأعلق بالأذهان، والثاني نقدي تعلق بجعل هذه الشخصية مطية للنظر إلى المؤسسة الأمنية نظرة موضوعية واقعية أكثر توسعًا وعمقًا مصداقية.

النتيجة الثانية ترتبط بتحرر الدراما التونسية من المخاوف والاحترازات والتضييقات والإملاءات، وذلك بفضل الحرية التي نحتتها ثورة 2011، وهو ما أكسب العديد من المسلسلات الجديدة جرأة نقدية عززت الكفاءة الفنية التي ميزت أعمالًا قديمة جسدها مخرجون أفذاذ منهم صلاح الدين الصيد وعبد القادر الجربي وحمادي عرافة والحبيب المسلماني وغيرهم.

النتيجة الثالثة تتعلق بشبهة استهداف البوليس وترذيل العمل الأمني من خلال الأعمال الدرامية، هذه الأطروحة تبدو متهافتة، فقد جمعت صورة الأمني في المسلسلات التونسية بين النماذج التي تستحق الاحترام والمحبة والتقدير والعينات التي يليق بها التنديد والتحقير، وهو اختيار فني تبيحه نسائم الحرية والمصداقية التي تعطرت بها سائر القطاعات خاصة تلك المتصلة بمجالات التفكير والتعبير والإبداع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تنشيط مسرحي عن بُعد.. المسرح في مواجهة كورونا

في مواجهة كورونا.. رسامون وتشكيليون تونسيون يدعمون المستشفيات ببيع أعمالهم