30-أبريل-2022
مقابر

إحدى المقابر بالمهدية (Getty)

 

عيد الفطر، هو اليوم الذي يحتفل فيه المسلمون بإتمام صيامهم وقيامهم وسعادتهم تتمظهر في الزينة والحلويات والملابس الجديدة وتقديم  "المهبة"/ "العيدية"، وغير ذلك من مظاهر السعادة والاحتفال.

وتونس ككل بلدان العالم الإسلامي تتزين بأطفالها وبأطباق حلوياتها وأكلاتها وأناشيدها وتحافظ على عاداتها وتقاليدها في عيد الفطر، ولكن ما يبدو مفارقة هو أن المقابر في تونس أيضًا تعرف ألوان العيد وتتحول من مكان موحش محزن إلى ساحة للفرح والاحتفال.

ما يبدو مفارقة هو أن المقابر في تونس أيضًا تعرف ألوان العيد وتتحول من مكان موحش محزن إلى ساحة للفرح والاحتفال

ففي العاصمة، يقصد التونسيون المقابر لزيارة أحبائهم حاملين ما لذ وطاب من الأكلات والحلويات التي يحبها أعزاؤهم الذين فارقوهم، يعدونها خصيصًا ويضعونها على القبور ويدعون الناس للأكل، كما يوزعون المال على أرواح موتاهم وبعضهم يقضي نصف يومه الأول جالسًا يتحدث إلى عزيزه الذي دفن تحت التراب.

 

 

أما في بعض قرى الشمال الغربي، فينطلق العيد من هناك ويخرج الأهالي باتجاه المقابر بعد أن كانوا نظفوها من الأعشاب وطلوا القبور "بالجير الأبيض" فيسلمون على الأحباب تحت التراب وينثرون القمح والشعير ويسكبون الماء ويبدؤون من هناك تبادل التهاني بالعيد، في انتظار قدوم شيوخ القرية ومشايخها ليقرؤوا القرآن جنب المقابر ويطلبون لهم الرحمة.

في بعض قرى الشمال الغربي، ينطلق العيد من هناك ويخرج الأهالي باتجاه المقابر بعد أن كانوا نظفوها فيسلمون على الأحباب تحت التراب وينثرون القمح والشعير ويسكبون الماء

وفي الوطن القبلي، يصبح المكان المحيط بالمقبرة سوقًا لبيع اللعب والبالونات الملونة للأطفال ويحلق الأهل حول قبر عزيزهم مقدمين الحلويات مرتدين ملابسهم الجديدة ومتزينين.

وفي الجنوب التونسي، يخرج المصلون من الجامع بعد أداء صلاة العيد في اتجاه مقبرة القرية مباشرة ويرددون التكبيرات وتسبقهم النسوة فيرشون القبور بالماء ويوزعون خبزًا خاصًا يصنع في المنزل ويضعون النقود على القبور ويذهبون حتى لا يحرجون المحتاجين فيأخذونها.

في الوطن القبلي، يصبح المكان المحيط بالمقبرة سوقًا لبيع اللعب للأطفال ويحلق الأهل حول قبر عزيزهم مرتدين ملابسهم الجديدة ومتزينين

عادات وتقاليد وطقوس قد يرى البعض أنها غريبة فيما يذهب آخرون إلى انتقادها ويرون أنها مغايرة للدين أو المنطق. لكن الباحث في الأنثروبولوجيا عماد صولة يقول لـ"الترا تونس" إن "هذه العادات قديمة بقدم ظهور الإنسان وإنها موجودة في كل الدول وإن التونسيين مازالوا يمارسون فعلًا هذه الطقوس والمعتقدات".

ويضيف "هو تقليد إنساني قديم جدًا وليس خاصًا بالتونسيين ولا يزال موجودًا رغم التغيرات لأننا ننطلق من مفهومنا الخاص المبني على القطيعة بين الحياة والموت وهو مفهوم حديث لم يكن موجودًا".

ويتابع: "أما في المجتمعات التقليدية فإن الموت ليست النهاية بل هي تحول من شكل حياة إلى حياة أخرى يكون فيها الميت في وضع آخر فيه من القوة والقداسة ما يجعله محل تكريم وزيارة".

الباحث في الأنثروبولوجيا عماد صولة لـ"الترا تونس": "هو تقليد إنساني قديم جدًا وليس خاصًا بالتونسيين ولا يزال موجودًا ففي المجتمعات التقليدية، الموت ليست النهاية بل هي تحول من شكل حياة إلى آخر يكون فيها الميت في وضع فيه من القوة والقداسة ما يجعله محل تكريم وزيارة"

ولهذا يستمر التعامل مع المقابر في الأعياد وحتى في بعض أيام الأسبوع، ففي عدد من الجهات مثلاً يكون يوم الخميس مخصصًا لزيارة المقابر.

"وفي المجتمع التونسي، المقابر ليست فضاء خلاء وعدمًا وإنما فضاء حي والدليل أنها عامرة وفيها تجار ..الخ، كما أن هناك مقابر فيها أضرحة أولياء صالحين  وسلطان المقبرة هو الولي الصالح فكما هناك سلطان في الحياة هناك آخر في المقبرة إنه التداخل بين فضائين واحد يحيل على العدم والنهاية وفضاء الحياة اليومية"، وفق الدكتور صولة.

ويواصل حديثه: "ترى المقابر عامرة وتزورها الناس وهذه صورة تعكس ذهنية خاصة في تعاملها مع الموت فهي تراه أنه امتداد للحياة وجزء منها وأن الذي يموت لا ينتهي ولكنه يأخذ بعدًا آخر".

ويوضح لـ"الترا تونس": "يزورون الميت ويعتقدون أنه يسمع الدعاء ويراهم ويسمعهم والبعض يزورون المقابر ليكشفوا أسرارهم وللحديث عن آلامهم ومعاناتهم لاعتقادهم في السلطة الروحية المقدسة للميت فهذا الأخير خرج من المناكفات ومن أدران الحياة وشوائبها إلى فضاء آخر أكثر نقاء وصفاء".

الباحث في الأنثروبولوجيا عماد صولة لـ"الترا تونس": "البعض يزورون المقابر ليكشفوا أسرارهم وللحديث عن آلامهم ومعاناتهم لاعتقادهم في السلطة الروحية المقدسة للميت فهذا الأخير خرج من المناكفات ومن أدران الحياة وشوائبها إلى فضاء آخر أكثر نقاء وصفاء"

ويدعونا محدث "الترا تونس" إلى النظر إلى هذه العادات من باب الرمزية فهي ممارسة عميقة تكشف تدجين الموت وكسر حواجز الخوف والحزن وأن الآخر موجود في حياته الأخرى وبذلك يتحول الموت إلى أمر محبب عادي.

ويؤكد الباحث عماد صولة على أن "الطقوس الجنائزية تعود إلى ما قبل التاريخ ولدينا شواهد أثرية على ذلك منها أن الميت تحفظ معه الأواني وآلات الطبخ وقد اكتشفنا مرة في موقع في بنزرت فحمًا لإشعال النار..ففي الأصل أسلافنا كانوا لا يزورون المقابر فقط بل يعبدون الأموات ويعتبرون أنهم في مكان آخر ذي قدسية وأنهم يتمتعون بقوى خارقة"، وفقه.

ويبيّن الدكتور صولة أن أول طقوس العبادة في التاريخ كانت عبادة الأجداد والاعتقاد في قدرتهم العجيبة، مضيفًا أن "التغيرات في الفضاء المغاربي الذي تنتمي إليه تونس تكشف أن زيارة القبور والأولياء الصالحين هي استمرارية  لبقايا هذه المعتقدات الوثنية القديمة التي تعطي للميت قدرات خاصة لارتباطه بالعالم السرمدي وتقام فيها الاحتفالات والغناء ويقدم الطعام وأحيانًا تكون احتفالات صاخبة جدًا في المقابر.

الباحث في الأنثروبولوجيا عماد صولة لـ"الترا تونس": زيارة القبور والأولياء الصالحين هي استمرارية لبقايا معتقدات وثنية قديمة تعطي للميت قدرات خاصة لارتباطه بالعالم السرمدي

إنها قدرة عجيبة للذهنية على كسر الموت وجعله مؤنسًا ولا يثير الرعب ولأن الأعياد هي محطات قوية في حياتنا ونشعر بفقدان أحبابنا الذين رحلوا لهذا يتوجه البعض إليهم لأنهم أيضًا يجسدون مستقبل هؤلاء الأحياء.

فالطقوس أنتروبولوجيًا، بحسب الدكتور عماد صولة، "هي قيم وأفكار فليس من السهل قبول فكرة الموت والفناء لكن هذه الطقوس يربى عليها الفرد حتى يقبل هذه الفكرة ويتعايش معها وأن مشاركة الموتى في المقابر الاحتفالات هي أقصى أنواع كسر الخوف من الموت وما بعده".