18-مايو-2022
رواية

"لا أحلام في اليد اليسرى" الرواية الثانية للكاتب الشاب شوقي برنوصي

 

عُرف الشاعر والروائي الأميركي تشارلز بوكوفسكي بطرقه الأبواب الموصودة والإيغال في المناطق المحفوفة بالمطبات الأخلاقوية من الأدب الجنساني والساحات الخلفية لثقافة البوب والأندرغراوند. كذلك، جذبت هذه القيمة الأدبية، الأندرغراوند، الكثير من ألمع الأقلام على غرار الفرنسي جورج باتاي، وكان للكتابة المحفوظية منها نصيب في أزقة بين القصرين، وحواري قصر الشوق والسكرية. 

مزيج ما بين الإيروتيكية في وجهها الجريء، الكافكاوية في تمخضاتها الدوستويبية، والبوكفسكية في منطقها العابث، هكذا هي رواية "لا أحلام في اليد اليسرى"، أين يدفع الكاتب بأبطاله إلى ما وراء الحلم

في هذه الشعاب المثيرة للجدل قرر المهندس والروائي الشاب شوقي برنوصي خوض غمار مغامرته الروائية الثانية: "لا أحلام في اليد اليسرى"، الصادرة حديثًا عن دار سوتيميديا. لماذا أفلتت الأحلام عن اليد اليسرى؟ قبل التعرّض لخبايا الرواية، يجيبنا برنوصي حول السر وراء العنوان، الذي غيره أكثر من مرة قبل النشر:

  • في الحقيقة، اخترتُ هذا العنوان بالذات لأنّه ينطوي على معان عديدة. في الثقافة العربية والإسلامية ترمز اليد اليسرى إلى كلّ ما هو شرير ومدنّس. تُزال النجاسة ويمنع الأكل بها، وفي بعض العائلات يجبرون الطفل الأعسر على الأكل باليد اليمنى. في السياسة، يمثّل الفكر اليساري ذلك التيار السياسي الهادف إلى نشر المساواة بين أفراد المجتمع والتحرر من سطوة الدين عليه وهو الأمر الذي تحقّق بعد 2011 في تونس. الثورة التونسيّة قادها اليسار وكسبها اليمين. من جهة أخرى، أردتُ من خلال هذه الرواية تقديم حكاية شخص أراد بتر يده اليسرى، في إشارة إلى الأحلام والآمال التي بُترتْ في تونس بعد 2011. كذلك، أردتُ تسليط الضوء على معاناة ذوي الإعاقة من خلال شخصيّات مبتورة الأعضاء. قد يقود الحظّ العاثر لشخص ما إلى مصير لم يتصوّره مطلقًا، أن يصدمه مثلًا سائقُ سيّارة مخمور وينقل إلى المستشفى. يتسارع سوء الحظ ذاك ليتسبّب في بتر رِجْلِ المصاب قالبًا حياته رأسًا على عقب، ويصير صاحب إعاقة إلى الأبد. 

 

صورة
الروائي التونسي الشاب شوقي برنوصي من حفل توقيع روايته في 14 ماي 2022 بمكتبة الكتاب

 

نفهم من هذا أنك أردت تسليط الضوء على الأسباب المختلفة للإعاقة، تأثيرها والمعاناة التي يمر بها أصحابها. لكن البتر الذي تعرضت له في الرواية ليس هو البتر المتعارف عليه؟

  • في كتابه "منظومة الإنتاج الثقافي للإعاقة" الصادر سنة 1993 يشير عالم الأنثروبولوجيا الكندي باتريك فوجايرولاس إلى أنّنا في حاجة إلى تحليل منهجي لطريقة التفاعل بين الشخص وبيئته لفهم ظاهرة إنتاج حالات الإعاقة، وذلك بغرض المساهمة في الحركة من أجل التغيير الاجتماعي والحملات من أجل تكافؤ الفرص ومشاركة اجتماعية قصوى لأصحاب "الجسد المختلف". ما هو الجسد المختلف؟ هل هو ذلك الناقص أم ذلك الذي لا نتقبّله؟ هل أن الواقع والمحيط هو من يجعلنا معوّقين أو أسوياء؟ هل أنّ البتر يمثّل عبئًا أم خلاصًا؟ هل البتر جسديّ أم معنويّ؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها حاولت رواية "لا أحلام في اليد اليسرى" طرحها.

شوقي برنوصي لـ"الترا تونس":  أردتُ من خلال هذه الرواية تقديم حكاية شخص أراد بتر يده اليسرى، في إشارة إلى الأحلام والآمال التي بُترتْ في تونس بعد 2011

مزيج ما بين الإيروتيكية في وجهها الجريء، الكافكاوية في تمخضاتها الدوستويبية، والبوكفسكية في منطقها العابث، هكذا هي "لا أحلام في اليد اليسرى"، أين يدفع الكاتب بأبطاله إلى ما وراء الحلم، وربما الجنون، مستخدمًا الحقيقة محبرة للتخييل، فيستحضر شخصية القواد الأمريكي "روبارت باك Robert Beck" الذي تحوّل إلى روائي ناجح بعد فترة من الإحباط قرر فيها التحول نحو الكتابة. يُتَوْنِس البرنوصي هذه الشخصية تحت اسم "فالنتينو"، القواد الذي يسعى نحو فرائسه تحت غطاء التجارة، فيما يبقي رغبته في الكتابة بين ضلوعه. 

 

صورة
رواية "لا أحلام في اليد اليسرى" للروائي الشاب شوقي برنوصي

 

إحساس بالتشظي والتفتت يأسرك وأنت تقرأ سطور الرواية، أين يشرّح الروائي الشاب كليشيهات المجتمع المحافظ وتابوهاته وما تخفيه أجنحة الظلام حين يسدل الليل ستاره، فيما يتعرّض لأكثر من قضية اجتماعية في حبكته القصصية: كقضية ذوي الاحتياجات الخصوصية، الطلاق والعنف العائلي، الضغوط الاجتماعية ورغبة التملك لدى الأولياء نحو أبنائهم، الصعلكة والسياسة ودهاليزها. 

إحساس بالتشظي والتفتت يأسرك وأنت تقرأ سطور الرواية، أين يشرّح الروائي كليشيهات المجتمع المحافظ وتابوهاته وما تخفيه أجنحة الظلام حين يسدل الليل ستاره، فيما يتعرّض لأكثر من قضية اجتماعية في حبكته القصصية

حاول الكاتب تجزئة البطولة والتخلي عن مركزة الشخصيات، عبر توزيع المساحات بين الشخصيات وتأثيرها، إلّا أن الشخصية المحورية ظلّت يونس المهندس في مصنع التبغ الذي يبحث عن الكمال في "النقص"، وكأن صاحب المأزق (الرواية الأولى للكاتب: مأزق تشايكوفسكي (2018))، يأبى إلا أن يكون لسان أولئك غير المرئيين على حد تعبير فيلسوفة الجندر الأميركية يادوث باتلر. 

تقتحم الرواية، بلغتها غير المتكلفة، أرضًا مازال غبار الفلاسفة، كجيل دولوز ولوك فيري، يتطاير في سمائها وهي الشهوة والرغبة -الجنسية- ربما كان التكثيف فيها أجدر، في حين تنازل الكاتب للقارئ عن هذه المهمة. فهل يتجنب الكاتب أن يقع في رداء الراهب أو المحلل النفسي؟ يعلّق شوقي برنوصي: 

  • أؤمن منذ زمن أنّ لغة الكتابة الروائيّة غير متكلّفة، أحاول دومًا أن أكتب قصصًا مترعة بالمجازات والتكثيف بلغة بسيطة، أي شعريّة الحكاية لا شعريّة الجملة. أحاول في كتاباتي أيضًا أن أنتصر للمهمّشين وأن أكون صوتًا لمن تمّ تغييب صوتهم، لذلك كانت هذه الرواية صوت الأشخاص ذوي الإعاقة. بين سنتيْ 2013 و2015 درّبتُ حوالي تسعمائة شخص منهم وتعرّفتُ على تجارب جديرة بأن تُحكى، وألهمتني لكتابة هذه الرواية. ذوو الإعاقة منسيّون، لهذا السبب كتبتُ شخصيّة تحاول استغلالهم، فالنتينو ذلك القوّاد الذي أصبغته مصير شخصيّة تونسيّة منسيّة أخرى ألا وهي "حميدة جندوبي" آخر شخص تمّ إعدامه بالمقصلة في فرنسا. اختار فالنتينو أن يتّخذ قدوة له روبرت باك أو ما أشتهر باسم أيسبرغ سليم، ذلك القوّاد الذي صار كاتبًا وفضح عوالم الدعارة وتجارة المخدّرات في أحياء السود الأمريكيّة وكان قدوة لعديد من فنّاني الراب المشهورين. جعلتُ فالنيتنو مثالًا للصعلكة والانتهازيّة وواحدًا ممن استقطبهم حزب سياسيّ تونسيّ ليكون أحد قياديّيه.  فالنتينو تاجر المتعة التي يبحث عنها الناس. 

تقتحم الرواية، بلغتها غير المتكلفة، أرضًا مازال غبار الفلاسفة، كجيل دولوز ولوك فيري، يتطاير في سمائها وهي الشهوة والرغبة -الجنسية- ربما كان التكثيف فيها أجدر، في حين تنازل الكاتب للقارئ عن هذه المهمة

لكنك أخترت أيضًا، حسب ما جاء في النص، أن تترك عديد المساحات لمخيلة القارئ، وكأنك أردت أيضًا أن تكون الرواية مبتورة في بعض أعضائها السردية. ربما يقود هذا إلى توجيه انتقادات لك ولنصك بالتسطيح. ما رأيك؟ 

  • لم أرغب حقيقة بالتعمّق في كتابتها لأنّ مفهوم الشهوة مبتور بدوره، واكتفيتُ ببعض المشاهد الجنسيّة التي تهدف أغراض الرواية. فـ"حياة" تلك المرأة المبتورة الساقين والباحثة عن متعة افتقدتها بعد حادث ألمّ بها، إلى درجة أنّها فقدتْ عقلها وتعرّتْ أمام جامع بضاحية المنار، إنّها المتعة التي يريدون بترها بعد 2011 في تونس.

يحاول الروائيّ دومًا صنع بدائل وطرح أسئلة وسط المجتمعات المتقرّحة نفسيًّا واجتماعيًّا، تلعب الرواية دور الأفيون الذي تحتاجه الشعوب حتّى لا تصاب بالجنون كما يقول الروائيّ التونسيّ الكبير كمال الرياحي.  

    

صورة
حفل توقيع رواية "لا أحلام في اليد اليسرى" في 14 ماي 2022 بمكتبة الكتاب