26-ديسمبر-2021

"خوضة" هي كلمة من المقول اليومي التونسي، تحيل على الفوضى والانفلاتات المتجانسة

 

يؤكد فيلسوف الصورة "رجيس دوبريه" ومؤسس "علم الميديولوجيا" أن الإنسانية يغمرها تسونامي ناعم للصورة والفنون البصرية منذ أكثر من نصف قرن، وهي غير مدركة لذلك تمامًا، بل نراها محمولة على أجنحة الانتشاء والإلذاذ بما تحدثه الفوتوغرافيا الثابتة والمتحركة من إيقاعات شجية في النفس وتأثيرات في الحياة المجتمعية دون أن يكون هناك تصد علمي أصيل، وأيضًا من دون بحث وتمحيص معرفي.

كلام "رجيس دوبريه" يحملنا إلى الجزم أنه في تونس مازال "فن التصوير الفوتوغرافي" أرضًا بورًا ومنسية عدا بعض الفتوحات التي قام بها بعض المصورين الأفذاذ مثل محمد العايب وأحمد الزلفاني والحبيب هميمة وأنيس الميلي وعمر عبادة حرز الله.. لكنها تبقى فتوحات فردية لم تؤسس لموجة عاتية يمكن لنا اقتفاء أثرها والبحث عميقًا في تيهها الفني ومدى تأثيراتها الثقافية والاجتماعية والسياسية.

 احتضن فضاء "بيت الطيور"، بالموقع الأثري بقرطاج، معرض "خوضة" على طريق اليومي للمصورة الفوتوغرافية التونسية والأستاذة الجامعية بمدرسة الفنون الجميلة بتونس منى الجمل سيالة

وضمن هذا التوق الفردي لفوتوغرافيا تونسية تنشد الحياة اليومية حقلًا، وسَعيًا حثيثًا من أجل تحويلها إلى مادة فنية وفكرية للنقاش، وسرديات صغيرة للتأصيل والتداول، يمكن لنا تنزيل معرض "خوضة"، على طريق اليومي للفنانة التونسية "منى الجمل سيالة" المصورة الفوتوغرافية والأستاذة الجامعية بمدرسة الفنون الجميلة بتونس والذي يتواصل إلى نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021 بفضاء "بيت الطيور"، أو ما يعرف بالفيلات الرومانية الموجودة بالموقع الأثري بقرطاج بأعلى هضبة بيرصة بالضاحية الشمالية للعاصمة تونس.

و"خوضة" هي كلمة من المقول اليومي التونسي، تحيل على الفوضى والانفلاتات المتجانسة التي يمكن أن تحصل في مكان ما وتخلق لها كونًا خاصًا بها، ويمكن أن نجد لها مرادفًا في اللغة الفصيحة وهو "اختلاط الحابل بالنابل". 

الفنانة التشكيلية منى الجمل سيالة

لم تكن الفوتوغرافية منى الجمل سيالة تدرك من خلال معرضها "خوضة" أنها تضع الأقلام التونسية التي تكتب حول الفنون التشكيلية والجماليات بشكل عام، في مواجهة أغلب المفاهيم الفلسفية والفنية التي بها يهتدون في فهمهم وتأويلهم للأعمال الفنية التي توضع أمام أعينهم وجميع حواسهم. فهذا المنظور المعروض التي تقدمه منى الجمل، تتلبّس به الجِدّة والمغامرة من حيث الطرح الجمالي والممارسة التشكيلية والإخراج البصري الذي نفذته ببيت الطيور بقرطاج.

المعرض ينقسم إلى "خوضة" أولى وهي رحلة فوتوغرافية سياسية فاخرة تذكرنا ببايات العرش الحسيني الذين حكموا تونس من 1705 إلى 1957، حيث تأخذنا صورهم الرسمية أو البورتريهات المقدمة للمشاهد إلى نوع من المصالحة الرمزية والفنية معهم بعد أن أقصتهم الجمهورية الأولى وقطعت ذكرهم بين الناس فغابت صورهم ووجوههم وملامحهم ومناقبهم ومناطق الخذلان في مسارات حكمهم لتونس، حيث تناولت الفنانة مساحات متباينة من كل صورة مبرزة خصائصها اللونية ومدى تجانسها مع بقية المشهد المؤثث للصورة. 

جانب من معرض خوضة للفنانة التونسية منى الجمل سيالة

وإذا علمنا أن الأستاذة منى الجمل سيالة أنجزت هذه الأعمال في فترة الحجر الصحي للسنة الفارطة، يمكن لنا أن نفهم أنّ أسابيع الحجر كانت فرصة لعديد من المثقفين لمذاكرة التاريخ وخاصة الفنانين التشكيليين. وفي نفس قسم "الخوضة" الأولى، يجذبنا ركن النوستالجيا الفنية والموسيقية، حيث تقدم منى الجمل مشهدية فيما يشبه السينوغرافيا المسرحية، حيث نجد صورًا بديعة ودقيقة خطية منجزة بفحم الرصاص لفنانات تونسيات طبعن النصف الأول من القرن العشرين على غرار لويزة التونسية وحسيبة رشدي وحبيبة مسيكة وصليحة.. 

وتنبعث من هذا الركن موسيقى تلك الفترة كان أعدها للغرض الفنان المجدّد زياد الزواري ضمن توليفة تحمل الزائر إلى أزمنة بعيدة، كان فيها للفن فعله الحسي النفسي، وأيضًا فعله السياسي، فأغلب الوجوه الفنية التي رسمتها منى الجمل كانت في علاقة مباشرة وغير مباشرة مع بلاط الحكم الحسيني، وضمن قراءة سيميائية سريعة، فإن عملية جمع العملين في غرفة واحدة لها دلالاتها الحضارية. 

اقرأ/ي أيضًا: الرّسامة نجاة الذهبي.. فرشاة تحرّر الجسد بالألوان وتمنحه كينونة أخرى

أما القسم الثاني من الخوضة والذي يحوز الجزء الأوفر من المعرض، وهو ما يجوز لنا وصفته بفوتوغرافيا الحياة اليومية، فإن عين المتلقي تتجول في اليومي التونسي الذي تراه ولا تراه: حركة الأسواق، محطات الباصات المزدحمة، الشوارع، القمامة المنتشرة في كل مكان، الفقر والخصاصة، الطرقات المهترئة، وجوه التونسيين التائهة في الزمان والمكان، حيوانات سائبة.. لقد كانت صورًا راصدة وعفوية تنقل الواقع كما هو تأريخًا غير مقصود من الفنانة لحقبة زمنية من تاريخ تونس، وكشفًا لما يحدث في المجتمع.

صورة من معرض "خوضة" لمنى الجمل سيالة (رمزي العياري/ الترا تونس)

لكن اللافت للانتباه هو أن الرسامة اشتغلت على كل صورة من تلك الصور الفوتوغرافية لوحدها، فأفردت بعض البيكسالات بالتلوين والإبراز، فكأنه توجيه مقصود لعين المتلقي لما تريد الفنانة إيصاله، ثم إنها رصفتها على الجدران بأسلوب غير نمطي، أو بالأحرى كتبت بطريقة بيكسالية كلمة "تونس" على جدار طويل، فلا ينتبه لذلك غير الزائر المتمرّس والقارئ الجيد للصورة. والفنانة هنا أرادت القول ببساطة: "هذه تونس وهذا وطننا، هذا واقعه وهذه فوضاه في كل الاتجاهات، إنها (خوضة) حقيقية ولا داعي للتزييف.. تعالوا نفكر سوية في إعادة النضارة لوجهه الصبوح".

معرض الفنانة والأستاذة الجامعية بمدرسة الفنون الجميلة بتونس منى الجمل مسكون بثورتين، ثورة أولى جمالية وحضارية تدعو للمصالحة مع الذات عبر الالتزام بحركة التاريخ كما هي، وأيضًا هي دعوة للتخلص من الفوضى التي تغلغلت في كل اتجاه في المجتمع وضربت في الأعماق، واعتدت على شخصية التونسي ودمّرت مرحه ومزاجه الرائق البسيط. وثورة ثانية فنية تهم فلسفة البيكسال المكوّن للصورة الفوتوغرافية والنظرة المجدّدة له، والتي أرادت الفنانة إبرازها من نواحي عديدة عبر معرض "خوضة"، من خلال المزاوجة بين تقنيات الرقمي واليدوي من رسم وتلوين وكولاج ونسج... كل ذلك من أجل إدراك فلسفة البيكسال التي تخوض فيها الفنانة الجمل منذ سنوات عديدة. 

صورة من معرض "خوضة" لمنى الجمل سيالة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحمد الزلفاني: رسام مأخوذ بضياءات الظل..