19-أكتوبر-2021

النّحات عبد العزيز كرّيد: المجتمع التونسي تعوّد على وجود المجسمات النحتية أمامه

 

عبد العزيز كرّيد فنان تشكيلي تونسي رفيع بديع، طوّح عقله كل الأشكال والألوان والأنساق الجمالية والفنية لكنه يحبّذ صفة "النحّات" ليس لأنه قضّى في النّحت عمرًا بأكمله، بل لأنه يعتبر النّحت بيتًا أساسيًا تسكن إليه كل الفنون وتميل إليه نفس الإنسان ميلان الموجود.. فالنّحت بالنسبة إليه فنّ صعب وآسر، وعابر للأزمان، بل هو يبحث في ماهية الخلق والوجود.

النّحات عبد العزيز كرّيد لـ"الترا تونس": انشددت إلى عالم النحت الذي بدا لي بمثابة الإقامة الدائمة فيما بين الامتلاء والفراغ واقتضى تكويني في فن النحت تفاعلات مع كل الأنشطة العلمية والمعرفية اللازمة

النّحات عبد العزيز كرّيد الذي يبدو بملامح بحّار قديم لا تملّه الأمواج ولا تهزمه الأنواء، يدرك جيدًا فلسفة الأشكال الصلبة، يكتنه جوهرها الليّن، تمامًا كشاعر مجالد ومقاتل لصلابة اللغة، فيطرقها طرقًا مجنونًا، ليحوّلها بعد هزيمتها إلى باقات ورد من كلام وشالات تقينا ريح الشمال. كرّيد به شيء خاص به فيما يشبه الينبوع الرباني الذي يجعله قادرًا على تحويل قسوة الرخام إلى لين يشبه لين الأزهار البرية. وهو ما يتيح لنا القول إنّ النحت أصل في هذه الشخصية، بل هو روحه الفنية! وأن بقية الفنون ليست سوى متممات مهمتها تغذية الرافد الأساسي.

لقد كانت مدينة صفاقس هي المهد الأول لعبد العزيز كرّيد، هناك أحبّ كل شيء، وهناك تدربت عيناه على الجمال الزخرفي للمدينة العتيقة بمعمارها ونقائشها وصنائعها وحرفها، هناك تعرّف على نفسه داخل عاصفة الحياة، كان والده حدادًا ماهرًا تأتيه الزبائن من كل فجّ عميق، وكانت عين الطفل عبد العزيز منتبهة لكل شيء، تراقب بعفوية لكنها في الوقت نفسه كانت تنهل من الكور لمعان نار "الشربون" وتطاير قدحاته في الفضاء. 

النحّات عبد العزيز كرّيد رفقة إحدى منحوتاته

وكان طرق الحديد موسيقى تعلقت بروحه إلى الأبد. هناك في حضرة التحام الحديد بالحديد، تعلّم فلسفة تحويل الصلب إلى لين، وتعلّم أن الحياة مكابدة من أجل تحقيق أحلام بسيطة. كانت تلك هي أدواته التي وضعها في جرابه وشق بها بحور سنوات العمر لينتهي بعد سبعين عامًا من التجريب في شتى الفنون، نحّاتًا كبيرًا ينظر إلى ما خلّفت رؤاه وصنعت يداه بدهشة الطفل الصفاقسي الذي لا زال يلهو في حانوت حدادة والده.

جرّب عبد العزيز كرّيد كتابة الشعر ودهشة الوقوف على خشبة المسرح حتى كاد ينجرف إلى مداراته العظيمة، والمساهمة في الفعل السينمائي وإنجاز المعارض الفنية داخل تونس وخارجها، جرّب الرسم والحفر والخزف والفسيفساء.. لكنّ النحت يبقى هو الفعل الأشهى على الإطلاق بالنسبة إليه، فهو فعل وجود وخلود خاصة إذا تقاطع بالفلسفة والتفكير.

النّحات عبد العزيز كرّيد لـ"الترا تونس": كان والدي حدادًا وكنت أراقبه وهو يهوي بالمطارق على السندان فيحدث موسيقى بقيت عالقة بالروح إلى اليوم

عبد العزيز كرّيد المثقف التونسي صاحب التجربة التشكيلية الفنية والمدونة النحتية المتفردة التي تلمحها عين المواطن التونسي أينما ولّى وجهه بالشمال والجنوب،  التقاه "الترا تونس" وتنافذ معه في الفن والعدم والحرية في الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية.. فكان الحوار الآتي: 

  • هل يمكن القول إن دكان حدادة والدك كان ينبوع الغبطة الأولى ولحظة مكاشفة للفن في مستوياته التأسيسية؟ حدثنا عن دهشة الطفل آنذاك

كان والدي حدادًا قويًا بالإرادة التي تحدوه في تحويل الحديد المطروق إلى أشياء نفعية تقليدية تساعد الناس على حسن العيش، وكنت طفلًا ألعب في الرحاب فيبهرني اللون القرمزي للفحم الحجري، فتجدني أتلهى بالمنفاخ الذي يدفع بالهواء في الكور ليزداد الحديد المدسوس حمرة على حمرة، وكنت أراقب والدي وهو يهوي بالمطارق على السندان فيحدث موسيقى بقيت عالقة بالروح إلى اليوم. لقد كان دكان والدي مدرسة الفنون الجميلة الأولى التي التحقت بها.

  • لكنك لم تصبح حدادًا مثل والدك 

بالرغم من إغراءات الحديد ولعبة التفاعل اليدوي معه إلا أني انجذبت إلى عوالم أخرى، ففي مرحلة الدراسة الابتدائية نظمت مدرستنا ذات ربيع في ستينات القرن الماضي رحلة إلى جهة نابل، وكان عمري لم يتجاوز العاشرة، وزرنا مدينة دار شعبان الفهري فدهشت أمام فعل النقش على الحجر الجيري الذي تتميز به المنطقة، انبهرت بالأدوات البسيطة والأزاميل التي كان يستعملها النقاشون. أهداني أحدهم حجرًا صغيرًا بحجم كف اليد، حملته معي إلى صفاقس، وبالبيت قمت بتقليد النقّاش النابلي فراعني تحوّل المسطّح إلى ناتئ جرّاء الغائر المحدث.. وأعتبر ذلك لحظة فاصلة في حياتي مازالت تلهمني إلى اليوم. 

  • كاد المسرحي الراحل جميل الجودي أن يتخطى بك إلى عوالم المسرح بعد أن أنس فيك الموهبة وانهماكك العطاء على الخشبة 

تجربتي المسرحية بدأت في السبعينات مع المسرح المدرسي وأنا بعد في المرحلة الثانوية حيث شاركت في عدة مسرحيات مدرسية مكّنتني من الدخول إلى فرق ومجموعات مسرحية مدنية على غرار "البحث المسرحي" مع عياد السويسي و"التقدم المسرحي" مع عامر التونسي، وبدأ انجذابي للمسرح يتعمق شيئًا فشيئًا، فشاركت مشاركة هامة في مسرحية "الهاوية" للمخرج نور الدين المكوّر وذلك في سنة 1972 وكانت لنا مشاركة في السنة نفسها في مهرجان قربة لمسرح الهواة، وتوجت المسرحية ونلت خلال التتويج جائزة أفضل ممثل وهو ما حفزني للانشغال بالمسرح كفعل فني أستطيع من خلاله التعبير والتفكير خاصة عندما دعاني الممثل الراحل جميل الجودي للالتحاق بالفرقة المسرحية القارة بصفاقس. لكني عدلت عن ذلك والتحقت بإذاعة صفاقس منتجًا ومقدمًا لبرامج ثقافية، أما القرار الحاسم في حياتي فكان بعد نجاحي في البكالوريا وحيرتي بين المسرح والفنون الجميلة، لكني في النهاية اخترت مدرسة الفنون الجميلة بتونس والتي كانت تسمى حينها "المعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير".

النحّات عبد العزيز كرّيد رفقة إحدى منحوتاته
  • في مدرسة الفنون الجميلة بتونس وضمن سياق ثقافي وحضاري عربي يتجنب المجسمات النحتية اخترتَ أن تكون نحّاتًا، لماذا هذا الاختيار الصعب؟

حقيقة كان خيارًا صعبًا، وتقريبًا كنا ثلاثة طلبة فقط ممن اخترنا اختصاص النحت سبيلًا، وداخل المدرسة اقتضى تكويني في فن النحت تفاعلات مع كل الأنشطة العلمية والمعرفية اللازمة، فانخرطت في ورشات الرسم والتلوين والخزف والنسيج والفسيفساء وفنون اللهب.. وقد انشددت إلى عالم النحت الذي بدا لي بمثابة الإقامة الدائمة فيما بين الامتلاء والفراغ. وكان دور الأستاذ "رضا بن عبد الله" كبيرًا في تأطير الدفعات التي اختارت التكوين في فن النحت في السنة الثانية، حيث كان درسه شاملًا يجمع بين النظري البحثي والتعامل مع المواد وهندسة الفضاء الذي ستتحوزه المنحوتة، وخاصة إصراره على تعليمنا قيمة البعد الثالث في النحت. كما جلسنا إلى دروس الأستاذ النحات "الهاشمي مرزوق" الذي علمنا فن النحت على الخشب.. وكنا نطرح الأسئلة الفكرية والفلسفية حول الفن ودوره داخل المجتمع وخاصة نظرة المجتمعات الإسلامية للمجسّمات النحتية وعلاقة المؤسسة الدينية كمؤسسة مجتمعية بالفن والثقافة، وكنا نقدم الأجوبة الشجاعة التي مكّنتنا من النزول إلى الشارع وإنجاز أعمال فنية ذات قيمة رمزية لم يستقبحها المتلقي التونسي، بل تعامل معها بكل رقيّ وتحضّر.

  • هل يعني ذلك أن المجتمع التونسي مختلف عن باقي المجتمعات الإسلامية الأخرى في علاقته بفن النحت؟ 

إلى حد ما، لأن المجتمع التونسي تقاطعت على أرضه العديد من الحضارات، وكان النحت تعبيرة من تعبيراتها الثقافية الجمالية والدينية، بل كان فعل خلود وبقاء على غرار الحضارة النوميدية والقرطاجية والرومانية، وحتى الاستعمار الفرنسي كرّس فن النحت من خلال بعض التماثيل المركّزة في ساحات المدن التونسية الكبرى، وبالتالي فإن المجتمع التونسي ومنذ قرون طويلة قد تعوّد على وجود المجسمات النحتية أمامه وتعامل معها كجزء من رصيده التراثي والثقافي. أما عن استهجان الدين الإسلامي للنحت فإن الأمر وفي اعتقادي الشخصي يعالَج بالعقل، فبعد مضيّ قرون من مجيء الإسلام، لا أعتقد أن النحت سيُعيد المسلمين إلى الوثنية والجاهلية.. زد على ذلك أن النحت قريب إلى دخائل النفس، فهو يذكّر البشرية بتاريخها ومآثرها وقيمها المشتركة.

النّحات عبد العزيز كرّيد لـ"الترا تونس": بخصوص استهجان الدين الإسلامي للنحت، فلا أعتقد بعد مضيّ قرون من مجيء الإسلام، أن يُعيد النحت المسلمين إلى الوثنية والجاهلية

  • أنت شاركت في إنجاز نصب شهداء السيجومي، وهو منحوتة رمزية تخليدًا لحدث وطني، وهو بذل النفس في سبيل تحرر الوطن من الاستعمار.. فلو نسترجع معك تلك المساهمة الهامة 

نصب شهداء السيجومي الذي يرمز إلى تضحيات الشعب التونسي ضد المستعمر الفرنسي، أسندت دولة الاستقلال إنجازه إلى النحّات "عمر بن محمود" ثم انضممت إليه في مرحلة ثانية، وكان مقر ورشة الإنجاز بثكنة الحرس الوطني بالعوينة، كنا قد وضعنا المخطط الهندسي للمنحوتة التي توخينا فيها المزج بين مجموعة من العواطف الحزينة والقوة والرغبة في الانعتاق، والثورة على الظلم، ودافعية الإنسان نحو التحرّر.. وأردناه نصبًا عاليًا، فخمًا، يجسّد فعلًا تحرّر التونسيين ويمكن مشاهدته من الجهات الأربع.. لكن الزعيم الحبيب بورقيبة كان يباغتنا بالزيارة أحيانًا وحده وأحيانًا أخرى رفقة الوزير الراحل محمد الصيّاح، وفي كل مرة يبقى معنا مطوّلًا ويوجّه ملاحظاته الدقيقة إلى فريق العمل، وهو من اقترح حضور المرأة في النصب التذكاري وتخيّر مكانها وناقشناه طويلًا بخصوص ملامح شخصيات المنحوتة وجاء العمل على تلك الشاكلة. 

  • شخصية الزعيم السياسي في الحالة التونسية مع نصب السيجومي وغيره من الأعمال كانت مهيمنة، وهي من فسحت المجال لهذا الفن فدعّمته رمزيًا وماديًا ليقوم هو بدعمها فيما بعد، ويمكن أن يتجلّى ذلك في منحوتات الزعيم الحبيب بورقيبة.. كيف تقرأ هذا التّماس؟ 

في الظرف التاريخي الخاص بالاستقلال، كان لا بدّ للوطن من سردية دافعة لإعادة البناء والتجديد والثقافة، يكون لها دورها في صياغة تلك السردية.. والنحت تاريخيًا أسهم في تخليد ذاكرة الشعوب، وبورقيبة كان شخصية استثنائية ومركّبة ومثقفة، ولم يكن سياسيًا بالمعنى الذي تقدمه قواميس المفاهيم السياسية، لذلك ذهب بفن النحت إلى آفاق أخرى منها ما هو توظيفي على غرار تماثيله الشهيرة التي أنجزها النحّات الكبير "الهاشمي مرزوق" أو تمثاله الموجود بساحة باب الجبلي بصفاقس والتي أنجزها النحات الفرنسي "ريمون مارتان" سنة 1978، ومنها أيضًا ما هو ثقافي صرف فأصبحنا معشر النحاتين نقيم المعارض الفنية ونسهم في النهضة الثقافية والذوقية للتونسيين.

إحدى منحوتات الفنان عبد العزيز كرّيد 
  • هل يمكن القول إنّ فن النحت حملك إلى مدارات حياتية وثقافية فنية وصنع لك أمجادًا لم تكن لتعيشها لو توخيتَ مسلكَا فنيًا آخر؟ 

(يضحك) المسألة تتعلق بهمة الفنان وبنظرته للتاريخ وفهمه للوجود والحرية وليست بالمسلك فني في ذاته. 

  • حصل انزياح جمالي في تجربتك المتوّجة وانشغلت بالخزف الفني.. هل هي عودة لنار دكان الحدادة بصفاقس؟ 

نعم يمكن القول إنها عودة للنار ثانية دون أن أحترق... ففي سنة 2018 دعاني الخزاف "محمد الحشيشة" المدير العام للمركز الوطني للخزف الفني التابع لوزارة الثقافة من أجل بذل تجربتي النحتية في أفران الخزف، وفعلًا كانت تجربة ثرية ومثمرة لأعمال غير متوقعة، ولا زلت إلى اليوم أقيم داخل تلك التجربة الملهمة، فالخزف مع جماعة "محمد الحشيشة" هو تعبيرات جمالية وفنية أخرجت الخزف التونسي من الاستعمال اليومي البسيط إلى غايات جمالية تأخذك على أجنحة الخيال والحلم والفن الخالد وهو ما سميته بالخزف الرمزي. 

  • ما هي أعمالك التي تنظر إليها بعين الرّضا وتشعر أنها أمتعت وأفادت التونسيين؟ 

أنا أنحت منذ سنة 1979 إلى اليوم، ومنحوتاتي ومجسداتي الفنية عديدة جدًا، لكن الأعمال التي يتجلى فيها الجهد الذهني قبل الجهد البدني هي "الدينصورات الروبوتات" التي أنجزتها لصالح مدينة العلوم بتونس وأعمال "متحف الأرض بتطاوين" ومنحوتات "متحف دار شريّط" بتوزر وأعمالي بمداخل مدن قرمبالية وقرقنة وتوزر.. 

  • كيف ترى مستقبل فن النحت في تونس؟ 

لقد تغيرت الظروف وأصبحت في صالح الفنان النحّات سواء على مستوى الحريات أو المواد المستعملة أو التكنولوجيا.. كما أن هناك أجيالًا يمكن التعويل عليها من أجل الاستمرارية.

مراسل الترا تونس رفقة النّحات عبد العزيز كرّيد

  

اقرأ/ي أيضًا:

مليّنو المعادن.. مبدعون حوّلوا الخردة إلى فن

النّحات حافظ المساهلي: السياسة الثّقافية في تونس لم تتغيّر وأنا أباغت جماليًا