29-مارس-2021

اختار أنيس لسود تسليط الضوء على "الطفل" على اعتبار أنه يمثل مستقبل أي مجتمع رام لنفسه الريادة بعيدًا عن الهزات المجتمعية (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

السينما في تونس ليست ممارسة إبداعية نمطية همّها الأسمى هو الاتّجار بتصريف الرغبات على الشاشات دون عمق أو تمحيص معرفي، أو هي تقدّم نفسها كيافطة لترف المجتمع، بل هي طريقة مثلى للتفكير وخيار إبداعي ينهض بهموم المجتمع وكشّاف للحقائق المتعددة وإبحار في كل القضايا التي تهم الإنسان في إنسانياته ووجدانه ووجوده وهو ما اصطلح على تسميته بـ"سينما المؤلف" أو التفكير بواسطة السينما. وقد توارثت الأجيال السينمائية في تونس هذه "التميمة" الثقافية التي خلّفت على مدى ستة عقود ونيف من الممارسة الفنية والإبداعية المتعلقة بالصورة ومعانيها العميقة أرخبيلًا من السينما عدّ فريدًا من نوعه عربيًا وإفريقيًا. فكل سينمائي في تونس يقيم تحت خيمة "سينما المؤلف"، لكن مع الحافظة على تفرّده وتميّز كاميراه وزوايا نظره للعالم فهو ينطبق عليه قول الشاعر "أدونيس": "أسير مع الجماعة وخطوتي وحدي".

والمخرج السينمائي أنيس لسود هو واحد من هذه الكتيبة التونسية المبدعة التي تفكر في هموم المجتمع بالسينما والصورة، وقد اختار لكاميراه مسلكًا إنسانيًا وعرًا وترحالًا مليئًا بالأشواك والأسئلة الحارقة التي تهم شريحة "الأطفال" وسط أحلام مستحقة بإقامة أجمل وعيش كريم للطفل التونسي على اعتبار أن الطفل هو مستقبل أي مجتمع رام لنفسه الريادة بعيدًا عن الهزات المجتمعية التي يمكن أن تعصف بالاستقرار وإمكانات التطوّر.

"الترا تونس" التقى أنيس لسود، فكان الحوار التالي:

  • شريطك "عرائس السكر" أطلّ على الملتقى التونسي مع بداية الألفيّة الثانية ليقدّم وجهًا آخر غير مألوف  في السينما التونسية. لو نعود إلى تلك اللحظة الفارقة في مسيرتك السينمائية؟

مع بداية الألفية كنت منشغلًا بدراسة السينما بإيطاليا وهي مرحلة هامة في نحت شخصيتي كمخرج، إذ تعلّمت فنّ بناء الأفكار بالصورة وتحويل الكاميرا إلى قلم يقول الحقيقة بكل شجاعة، وحسن اختيار الزوايا التي ستنهل منها الكاميرا كادراتها البديعة والملهمة والمخلّدة.

لسود: "أيام قرطاج السينمائية" تديرها لوبيات ثقافية داخل وزارة الشؤون الثقافية وخارجها تجنح إلى إقصاء وجوه الموجات المجددة للسينما التونسية

بعد إنهاء الدراسة التي دامت لأربع سنوات، عدت مباشرة إلى تونس وكلي شغف لإنجاز شريطي الأول. لم أكن أملك المال، لكني كنت أملك الفكرة التي تحقق لي الطيران فوق سماوات وثقافات أخرى فكان شريط "عرائس السكّر" الذي اعتبره بحثًا مرئيًا في مساحة أنتروبولوجية هامة من التاريخ الحضاري للوطن القبلي ولحوض البحر الأبيض المتوسط عمومًا. لقد جاء هذا الشريط في لحظة سينمائية تونسية غير متعودة على هذه النوع من الأفلام. فاجأت عين المتلقي التونسي وهو ما دفعني إلى مزيد العمل. لقد شرّع "عرائس السكّر" أبواب الحريّة أمامي وأمام أحلامي، بل وأمام جيل بأكمله.

  • نرى أعمالك، التي جاوز عددها 15 شريطًا، تحصد الجوائز في التظاهرات والمهرجانات السينمائية العالمية شرقًا وغربًا، لكن لِمَ لا نجد لها حظوة في التظاهرات التونسية وخاصة في "أيام قرطاج السينمائية"؟

 لقد حصدت أكثر من 200 جائزة وتنويه وتقدير بأصقاع عديدة بمختلف القارات وكرّمت في رحاب تظاهرات سينمائية وثقافية عالمية مرموقة، لكن أقل هذه التتويجات عددًا كانت بتونس، ويمكن تفسير ذلك بالأعداد المحدودة للتظاهرات.

اقرأ/ي أيضًا:  الرّسامة نجاة الذهبي.. فرشاة تحرّر الجسد بالألوان وتمنحه كينونة أخرى

لكنني على يقين شديد بأن تظاهرة "أيام قرطاج السينمائية" تديرها لوبيات ثقافية داخل وزارة الشؤون الثقافية وخارجها تجنح إلى إقصاء وجوه الموجات المجددة للسينما التونسية وشخصيًا أشعر أني مقصيّ من هذه التظاهرة المركزية للسينما التونسية والعربية والإفريقية، كما يبدو أن آليات عمل هذا المهرجان تقادمت ولا بدّ من تجديدها وفق المتغيرات العالمية ولا بدّ من طرح سؤال "أي مستقبل للسينما في ظل كورونا وتداعياتها؟" بكل جدية على إدارة هذه التظاهرة.

 كما أن مَأْسَسَة أيام قرطاج السينمائية وجعلها مستقلة على الإدارة بات أمرًا ثقافيًا ملحًا وهناك العديد من الأصوات السينمائية تنادي بذلك.

  • اخترت التطرق إلى "قضايا الطفل" والإبحار في تفاصيلها حتى بتّ مختصًا فيها، فمن أين تولّد هذا الاهتمام وما انعكاساته على المجتمع؟

هي رحلة بحث في عالم الطفل واكتشاف ومضيٌّ بلا توقف فوق أرض أحلامه اللامتناهية  المليئة أحيانًا بالأشواك والعثرات اللامرئية، فمن شريط "صباط العيد" وصولًا إلى شريط "جمهورية نفسي" مرورًا بأشرطة "صابة فلوس" و"سيدي بوزكري" و"بنت ولد" و"غدا بثينة" و"يعقوب البحر" وعدة أفلام أخرى، وجدتني ألامس منطقة منسية في جسد المجتمع، لا نلتفت إليها إلا لمامًا أو للضرورة القصوى.

لسود: الطفل شريحة مجتمعية هشّة إلى أبعد الحدود وغالبًا ما تكون مهددة رغم القوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها تونس ورغم المجهود الذي تبذله الدولة لذلك اخترت تسليط الضوء عليها

عالم الطفل فسيح وممتدّ ومشاغله عديدة، فهو شريحة مجتمعية هشّة إلى أبعد الحدود تتعرض في كل حين إلى العنف والتسلط والتوظيف الإجرامي والتسرب المدرسي والاغتصاب. وهو ما يؤدي إلى الاكتئاب والانتحار والهروب من العائلة والهجرة غير النظامية...

 لقد راوحت في أعمالي السينمائية التي عالجت قضايا الطفل بين الروائي والوثائقي أو المزاوجة بينهما واقتربت أكثر فأكثر من تفاصيل لم أكن لأعلمها لولا الكاميرا. لقد تشكّلت وشيجة وثيقة بيني وبين مواضيع الطفولة، وخلصت إلى أن الطفل مهدد في الكثير من الأحيان، فرغم القوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها تونس ورغم المجهود الذي تبذله الدولة عبر وزارة المرأة ومؤسسات أخرى ورغم حرص المجتمع المدني، إلا أنه مازال أمامنا الكثير من العمل تجاه الطفل.

وخلاصة القول: إذا ما رمنا إنقاذ المجتمع من الأخطار العديدة المحدقة به فلا بدّ من الاشتعال الجدي على إنقاذ الطفولة.

  • هل يمكن القول أن شريطك "جمهورية نفسي" هو إنذار للمجتمع التونسي بخصوص ما يحدث لشريحة الأطفال؟

شريط "جمهورية نفسي" الذي شاركتني فيه السينمائية "شامة بن شعبان" في مستوى كتابة السيناريو هو كادر إبداعي صادق عمّا يحدث داخل المجتمع التونسي وخصوصًا داخل مؤسسة العائلة من مآسٍ منطلقها التفشي السريع للفقر جراء الصعوبات الاقتصادية وتردي الوضع التربوي والقيمي، إذ تطرقت من خلاله إلى ظاهرة الحلم بـ"الحرقة" (الهجرة غير النظامية) التي باتت تهدد المجتمع بأسره وكان تركيزي أساسًا على "حرقة" الأطفال وهو موضوع حارق لا يلتفت البتة، فعديد الأطفال التونسيين يموتون في عرض البحر أو يفقدون بعد أن يصلوا إلى أوروبا حيث يصبحون لقمة سائغة للعصابات التي توظفهم في جرائمهم أو يتعرضون للاغتصاب...

لسود: شريط "جمهورية نفسي" هو إشارة للسياسيين المستقيلين تجاه الطفولة والمختصين والمجتمع المدني وللمجتمع التونسي عمومًا حتى ينتبهوا للمخاطر المحدقة بأبنائهم، وأطلب بإلحاح أن يتم عرضه في مجلس نواب الشعب

والسؤال الذي حيّرني هو كيف لطفل يافع أن يحلم بـ"الحرقة"؟ لكني في الأثناء وقفت على جملة من الإجابات والمتمثلة أساسًا في انقطاع الحلم بالنسبة للأطفال بعد أن تقطعت بهم السبل في بلادهم مع انهيار كل المنظومات: التربوية، الثقافية، الرياضية، التكوينية...

اقرأ/ي أيضًا: "نازلة دار الأكابر".. الطاهر الحداد مرآة لتراجيديا الحب والنضال في تونس

"جمهورية نفسي" أردته إشارة قوية للسياسيين المستقيلين تجاه الطفولة والمختصين والمجتمع المدني وللمجتمع التونسي عمومًا حتى ينتبهوا للمخاطر المحدقة بأبنائهم. وأطلب بإلحاح أن يعرض هذا الشريط في القريب العاجل في مجلس نواب الشعب.  

  • لو تقدّم لنا رؤيتك للسينما؟

السينما هي شقيقة الرواية أو بالأحرى وجهها المرئي، فإلى جانب الأدوار التجارية والترفيهية للسينما المحفزة على الحلم وصناعة الذوق السليم، فإني أعتقد جازمًا أن لهذا الفن النبيل أدوارًا أخرى تربوية وتأريخية متلبسة بالحقيقة. فالسينما من همومها الأساسية الالتصاق بالواقع والاشتغال على تفاصيله المؤلمة والمفرحة ونقلها بكل أمانة وهو ما أحرص عليه في جزء من مشروعي السينمائي المتعلق بالطفل.

لسود: السينما من همومها الأساسية الالتصاق بالواقع والاشتغال على تفاصيله المؤلمة والمفرحة ونقلها بكل أمانة وهو ما أحرص عليه في جزء من مشروعي السينمائي المتعلق بالطفل

  • كيف ترى واقع السينما التونسية الآن؟

السينما التونسية هي سينما تشبهنا تمامًا: حالمة، ينقصها المال واللحمة والإرادة الجماعية والاهتمام من طرف الدولة، تسيطر على مسالك إنتاجها وتوزيعها والتعريف بها لوبيات متنفذة. لكنها، في المقابل، سينما  صامدة ومثابرة ومتحديّة ومليئة بالإرادات الفردية لسينمائيين شباب يحملون مشاريع تتعلق بالتطوير والقيم المجتمعية.   

  • يبدو أن اهتمامك السينمائي بالطفولة مازال متواصلًا في قادم الأعمال؟

رحلتي مع الطفل مازالت مستمرة ومازالت هناك العديد من القضايا المتعلقة بالطفولة لم  تسلّط عليها كاميرا من قبل، وأعتقد أن الفنان تسكنه قضايا الإنسان، فالأفق الإنساني ضروري في المشارع الإبداعية.

عملي القادم سيحمل عنوان "قدحة" وبطله طفل عمره 12 سنة بمعية خمسة أطفال آخرين، وهو أول عمل روائي طويل بالنسبة لمسيرتي السينمائية وقد شاركني فيه نخبة من التقنيين والفنيين التونسيين مثل كاهن عطية والهاشمي جولاق وكريم التوكابري أسامة المكي... وسيصدر "قدحة" بالقاعات خلال شهر سبتمبر/أيلول 2021.

كما أستعدّ لتصوير شريط روائي قصير خلال الصائفة القادمة ومن خلاله أطرق موضوع فساد متعلق بالطفولة في تونس.

مراسل "الترا تونس" رمزي العياري في لقاء مع المخرج السينمائي أنيس لسود

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| الشاعر نصر سامي: وظيفة قصيدتي أن تحميني من النّسيان

حوار| لطفي بوشناق: لم أنتظر الثورة لأتحرّر وهذا هو "سليمان" في "أجراس العودة"