24-أبريل-2021

لحظات فارقة وأنت تشاهد أسرار سوسة القديمة "هادريم" تنكشف وينبعث الضوء في التوابيت من جديد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

سوسة القديمة "هادريم" لا تزال تسكن في أحشاء التاريخ وتضمّ أسرارها أعماق البحار وتخفق حجارتها تحت أسوار المدينة العتيقة، وتتحدّث التربة عن قصة إنسان منها نشأ وإليها رُدّ. آلاف السنين لم تغيّر زرقة البحر ولم تغير لون الأرض ولم تفتت الحجر الصلب. محا الزمن منازلًا وأباد قومًا. وأقام قومٌ على آثار قومٍ. هذه الأرض لم تشأ إلا أن تحتضن حضارة تلو أخرى فكان عالم الأحياء يراكم عالم الأموات وتستمرّ الحياة.

على مرّ العقود والقرون كان يحلّ بسوسة المحروسة مستكشف يقف على أبوابها. يعيش زينتها وبهاءها يكشف قطعة من أسرارها ثم يمرّ. كلّ الوافدين يستقرّون ويوقدون نارًا ثم يمرّون إلى منازل الموت ويستقرون في "مدينة الأموات" في هضبة "حي بوحسينة".

كنت قد تحدثت عن "سراديب الموتى ورحلة البحث عن الراعي الطيب" في هذه الهضبة، لا أزال أنتشي بذلك الكشف التاريخي سنة 1901 بإصرار من المطران أوغسطين لينود السكريتير السابق للكاردينال لافيجري بمساعدة الدكتور كارتون وهو عالم آثار متميز ومؤسس للجمعية الأثرية بسوسة.

تم في فيفري ومارس 2021 الكشف على حقبتين تاريخيتين متقاربتين: حقبة ما قبل الحقبة الرومانية الإمبراطورية والحقبة الرومانية الإمبراطورية في موقع مسيج محاط بالبناءات على ملك مستثمر عقاري خاص

كنت أطالع سيرة المكتشفين في مذكراتهم ومنشوراتهم منبهرًا بلحظة نفض الغبار عن الأشياء الثمينة ولكني اليوم عشت اللحظة وأنا أمر بين رفات الأجداد عند هذه الحفريات الحديثة خلف جامع الغزالي بحي بوحسينة من مدينة سوسة. لحظات فارقة وأنت تشاهد أسرار "هادريم" تنكشف وينبعث الضوء في التوابيت من جديد وتبرز القناديل والأثاث الجنائزي.

اقرأ/ي أيضًا: مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟

بعد نحو 120 سنة من اكتشاف "مدينة الأموات" نجد هنا الباحثة التونسية هاجر كريمي أكثر حماسًا من الدكتور كارتون الفرنسي الذي ملأ كتب الباحثين باكتشافاته في هذه المنطقة بالذات وأشادت به الإنسانية. ونجد الطالبات في مرحلة الماجستير مروى زغيدة، خديجة العريبي وسحر بالصغير، ومسير أشغال بالتفقدية الجهوية للتراث بالساحل كمال بالصغير، السائق فريد الونيسي، ومجموعة من طالبات المعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة. تراهم يكشفون عن الأجداد وقد هزّهم الحنين إلى حضارات القوة والازدهار.

ترى باحثين وطلبة يكشفون عن الأجداد وقد هزّهم الحنين إلى حضارات القوة والازدهار (المعهد الوطني للتراث)

تم في شهري فيفري/شباط ومارس/آذار 2021  الكشف على حقبتين تاريخيتين متتاليتين ومتقاربتين: حقبة ما قبل الحقبة الرومانية الإمبراطورية والحقبة الرومانية الإمبراطورية في هذا الموقع المسيج المحاط بالبناءات على ملك مستثمر عقاري خاص.

يمكن التأكيد أن هذا الاكتشاف يعتبر فريدًا من الناحية الأثرية والتاريخية كما يعتبر إثراءً لمعرفتنا بتاريخ المدينة في الفترات القديمة وشارك في تأطير الأعمال الميدانية أحمد بوجرة المختص في علم الجيومورفولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، الذي كان له الفضل في كشف وتحليل بعض الإشكاليات التي اعترضت الفريق العامل على مستوى دراسة طبقات الأرض والطبقات الأثرية. كما ساهم أحمد الباهي، أستاذ التاريخ والآثار الإسلامية بجامعة القيروان، في فهم معطيات هامة عن الموقع في الفترات الوسيطة والحديثة.

 هذا الاكتشاف يعتبر فريدًا من الناحية الأثرية والتاريخية كما يعتبر إثراءً لمعرفتنا بتاريخ المدينة في الفترات القديمة

قام الفريق بالكشف عن عشرة قبور في حالة جيدة بعضها محفور في الصخر وبعضها مشيد، إلى جانب تحف أثرية هامة ( قناديل رومانية، تماثيل وأجزاء تماثيل صغيرة الحجم، عملات قديمة، جرار وأوانٍ فخارية، أجزاء من نقائش لاتينية…) كما تمكن الفريق من الكشف عن معالم مشيدة لم يقع تحديد وظيفتها بعد.

هاجر كريمي، الباحثة ومديرة قسم الجرد ودراسة الحضارات القديمة المشرفة على هذه الحفريات، قالت لـ"الترا تونس": "نحن الآن في اتجاه رسم حدود هذا الفضاء الجنائزي من الناحية الجغرافية والزمنية، ما لا يقل عن فترتين تاريخيتين مختلفتين، وتحليل الطقوس الجنائزية الخاصة بكل حقبة. كما سنهتم أيضًا بتحديد العلاقة بين  فضاء الدفن الجديد وباقي فضاءات الدفن المجاورة من خلال دراسة الطبقات الستراتيغرافية والوصف العام للسياق الجيولوجي والطوبوغرافي والتسلسل الزمني للموقع وبيئته الأثرية".

ولفتت هاجر كريمي إلى أنها قامت بالتدخل في عدة مدن بالساحل التونسي والكشف عن عدة حفريات تعود آخرها إلى سنتيْ 2007 و2008 في منطقة محاذية لهذه المنطقة في مفترق جامع الغزالي، وعن مقبرة عائلية جماعية تضم 14 قبرًا ساعدت كثيرًا في بداية تحديد مجال مدينة الأحياء الرومانية acropole ومجال مدينة الأموات التي تعتبر مدينة كاملة لها باب وأسوار وتضم شتى أنواع المقابر من عائلية وأرستقراطية وفقيرة، وفق توصيفها.

هاجر كريمي (باحثة) لـ"الترا تونس": هضبة بوحسينة كانت مدينة مخصصة للدفن من الفترة البونية إلى الفترة المسيحية خلال القرن الأول والثاني والثالث

وأضافت الباحثة: "اكتشفت حسب المصدر والدراسات التي اطلعت عليها أن هناك نقصًا في دراسة سوسة القديمة "هدرومتوم"، وقد اختطفت سوسة الإسلامية الأضواء من حضارة هادريم"، حسب رأيها.

وتابعت القول: "اتجهت إلى نفض الغبار عن التاريخ القديم واكتشفت أن حي بوحسينة هو حي المقابر، لذلك طلبنا من مصالح البلدية أن تستأنس برأينا عند كل رخصة بناء تمس باطن الأرض يتم تقديمها من أجل التفقد والتثبت من قيمة الموقع، وقد اكتشفنا أنه عند التدخل في هذا المجال كل مرة تبرز الآثار، خاصة مع وجود الدواميس على امتدادات تحت الأرض. هضبة بوحسينة اعتبرناها "حي الأموات" لأننا اكتشفنا أنها "مدينة مخصصة للدفن من الفترة البونية إلى الفترة المسيحية، خلال القرن الأول والثاني والثالث، ومع الاكتشاف الجديد نستطيع النزول إلى حقبة ما قبل الفترة الرومانية أي الفترة البونية أو القرطاجنية".

هضبة بوحسينة كانت مدينة مخصصة للدفن (المعهد الوطني للتراث)

وشددت هاجر كريمي على أن الإنسان في سوسة كانت له ثقافة التجذر أي التواصل وعدم الانقطاع، فلم يكن هناك تقطّع بين الموقع والآخر في نفس المجال وفي نفس الطبقات الأرضية، وبقي يحافظ على نفس الممارسات الجنائزية بل تطور وتأثر بثقافات دخلت عليه مثل الثقافة الإيطالية التي نجدها حاضرة في المواقع الأثرية وفي الديكور والزخارف، ونجد تأثيرًا إيطاليًا واضحًا، ولكن نجد التأثير السكاني الأصيل".

اقرأ/ي أيضًا: الزريبة العليا: القرية التي لا تُمحى من ذاكرة المجال والتّاريخ

وأضافت محدثة "الترا تونس": "نادرًا جدًا ما نكتشف في الجمهورية التونسية مقابر من حقبتين مختلفتين في نفس المجال، وهذا أول اكتشاف لنا في سوسة فعادة الحضارة البونية ثقافة أخرى مختلفة ومنفصلة في المجال، لكن هذه المرة، بالنظر إلى الطبقات في نفس المكان يبدو وكأن نفس الإنسان كانت له ثقافة بونية فأصبحت له ثقافة لاتينية وهذا الاكتشاف أفحمني بما أخرجناه من باطن الأرض من ثقافة التواصل".

هاجر كريمي لـ"الترا تونس": "مدينة الأموات" هي مدينة كاملة لها باب وأسوار وتضم شتى أنواع المقابر من عائلية وأرستقراطية وفقيرة

بحثت عن صدى هذا الموقع خلال الاكتشافات والحفريات الأولى بدايات القرن الماضي من خلال الأرشيف الوطني الفرنسي، فوجدت ورقة بحثية للدكتور كارتون 1861-1924  وهو طبيب عسكري ورئيس جمعية الآثار بسوسة الذي تحدث عن هذه المعالم نفسها ومما ورد في مؤلفه المنشور سنة 1903 بعنوان " L'Hypogée du labyrinthe de la nécropole d'Hadrumète "  أن "المقابر البونية والرومانية في سوسة جذبت علماء الآثار لما تحتوي عليه من تنوع واهتمام بالأثاث هناك وقد أدهشني مشهد قبر رائع في شكله الخارجي وهو الوحيد المرتفع عن الأرض وقد ذكرني على الفور ببعض المعالم الجنائزية في إيطاليا".

المقابر البونية والرومانية في سوسة جذبت علماء الآثار لتنوعها (المعهد الوطني للتراث)

وأضاف الدكتور لويس كارتون في مؤلفه: الحفريات التي أجريت في سوسة تخبرنا أن هناك العديد من خزائن العصر الروماني مماثلة لتلك التي وصفت للتو وتقع في جوارها. بما أن جميع مباني Hadrumetes القديمة دمرت إلى مستوى الأرض. وأن مقبرة Hadrumetes، من خلال ظهور العديد من معالمها،  تشبه تلك الموجودة في Etruria لا يمكن لأحد أن يفاجأ أن الحضارة الأترورية في وقت واحد تمارس بعض التأثير على سكان hadrumetes  وأنها حافظت على نفس الانطباع حتى العصر الروماني".

مجدي بن غزالة (مستشار ببلدية سوسة) لـ"الترا تونس": عديد المناطق التي يُتوقع وجود آثار بها تم منح رخص بناء فيها وبالتالي طمست معها المعالم التي من المحتمل أن تكون موجودة

هذا الاكتشاف لقطعة من أسرار سوسة القديمة وجدنا له صدى من خلال مقال صحفي في نشرية جيش البر والبحر الفرنسي حرره جورج نورماند سنة 1909، في المقابل لما حاولنا الاتصال بأحد مسؤولي المعهد الوطني للتراث في جانفي/يناير 2021 للاستفسار عن طبيعة هذا الموقع جوبهنا بالرفض والتعتيم ونفى محدثنا أن تكون هناك حفريات بل تعرضنا لنوع من التهديد على اعتبار أنها ملكية خاصة وليست مجالًا للبحث الصحفي وبتعميق الاستقصاء اكتشفنا "حواجز" من أطراف إدارية وجهات نافذة لمنع حدوث مثل هذه الحفريات ورغم عدم الشفافية كشفت قطعة من أسرار سوسة  النادرة.

وقامت جمعية البحوث والدراسات في ذاكرة سوسة بمتابعة ومراقبة إجراءات الحفريات منذ جوان/يونيو 2020 إيمانًا منها بأن منطقة بوحسينة غنية بالمواقع الأثرية من ناحية الدواميس وبالرجوع إلى اكتشافات الموقع الأثري لسنة 2007 التي تم كشفها عن طريق الصدفة أمام الجامع أبى حامد الغزالي وبالرجوع إلى بعض الوثائق التاريخية.

تمكن الفريق من الكشف عن معالم مشيدة لم يقع تحديد وظيفتها بعد (المعهد الوطني للتراث)

واقترحت الجمعية أن يشارك بعض الطلبة ومنخرطي الجمعية في الحفريات متطوعين بعد أن لاحظت أن الفريق العمل وإمكانياته اللوجستية المتوفرة في بداية الحفريات  لم تكن بقيمة الحدث، وذلك حسب ما صرح به خالد عيسى رئيس الجمعية لـ"الترا تونس".

وقال مستشار ببلدية سوسة ورئيس لجنة التهيئة العمرانية مجدي بن غزالة لـ"الترا تونس" أن "رخص البناء في المناطق المجاورة للمناطق الأثرية (على مسافة 200 متر) تتطلب موافقة المعهد الوطني للتراث ولتجاوز هذه العقبة تم إرسال فريق المعهد الذي قام بالمعاينة إلى عقار مختلف عن العقار موضوع الرخصة"، حسب تعبيره.

اقرأ/ي أيضًا: قصر الجم.. صراع البقاء في حلبة الدهر

وأضاف أن "فريق البحث والحفريات لم يتم تمكينه من الإمكانيات اللازمة للقيام بعمله إلا بعد ضغوط ومماطلة".

كما أكد بن غزالة أن "عديد المناطق التي يتوقع وجود آثار بها تم منح رخص بناء فيها وبالتالي طمست معها المعالم التي من المحتمل أن تكون موجودة (على غرار جامع الغزالي وموقع الثكنة العسكرية). كما أن البلدية سبق أن فوتت في عقار (بجوار روضة بوحسينة الآن) تبين لاحقًا أنه في منطقة أثرية ولم يتمكن بالتالي المشتري من استغلاله".

حفريات في نفس المجال المكتشف حديثًا تعود إلى سنة 1907 (الأرشيف الفرنسي)

وأضاف رئيس لجنة التهيئة العمرانية: "انطلقت بلدية سوسة في إجراءات مراجعة مثال التهيئة العمرانية لمدينة سوسة حيث تعود آخر مراجعة لسنة 2008. وتعتبر مراجعة مثال التهيئة العمرانية فرصة لتحيين المعطيات المتعلقة بالمواقع الأثرية في المدينة مما يفرض لاحقًا مصادقة المعهد الوطني للتراث قبل إسناد الرخص العمرانية. ويعتبر هذا الموقع المكتشف حديثًا من المواقع التي ستتم إضافتها في إطار مثال التهيئة بالإضافة إلى مواقع قصر الطوب بسيدي عبد الحميد والمعبد اليهودي ومقر معهد باب جديد سابقًا والمصنفة حديثًا كمواقع أثرية بقرار من وزير الشؤون الثقافية صدر في شهر جانفي/يناير 2021".

بن غزالة لـ"الترا تونس": حماية المواقع الأثرية من الناحية العمرانية لا يتوقف على إدراجها بمثال التهيئة العمرانية بل يتطلب مزيد دعم وتطوير آليات التنسيق بين البلدية والمعهد الوطني للتراث

وأشار المستشار البلدي إلى أن "حماية المواقع الأثرية من الناحية العمرانية لا يتوقف على إدراجها بمثال التهيئة العمرانية بل يتطلب مزيد دعم وتطوير آليات التنسيق بين البلدية والمعهد الوطني للتراث لتلافي الحالات التي وقعت سابقًا والتي قد تكون تسببت في خسائر كبيرة للموروث الحضاري للمدينة وللإنسانية بصفة عامة".

حفريات في نفس المجال المكتشف حديثًا تعود إلى سنة 1903 (الأرشيف الفرنسي)

ولفت إلى أن رقمنة المعطيات والتحيين الدوري للمواقع ومحيطها وإعلام المعهد الوطني للتراث بصفة آلية بجميع التراخيص والمطالب المتعلقة بالمواقع الأثرية تعتبر أفضل سُبُل لحمايتها وتثمينها، مؤكدًا أن "تطوير آليات التنسيق لا يجب أن يتوقف في حدود إسناد الرخص وتحيين الوثائق العمرانية بل يجب أن يشمل مجال الرقابة والتصدي لانتهاك هذه المواقع".

وأكد المستشار ببلدية سوسة أن "على البلدية بصفتها السلطة المحلية المنتخبة والمعنية رقم واحد بالقيمة الأثرية والتاريخية للمدينة أن تلعب دورًا محوريًا أكبر في تثمين المواقع الأثرية بالمدينة وتجاوز الجانب التقني ليشمل الجانب الثقافي وتعزيز السياحة الثقافية بالإضافة إلى اندماج مواطني المدينة مع المكتسبات الحضرية لمدينتهم"، حسب تقديره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

عن أشهر لوحة فسيفساء تونسية.. "فرجليوس" الذي لا ترى وجهه إلاّ في تونس