31-أكتوبر-2020

الإدمان الإلكتروني خطر يهدد العديد من الأطفال والشباب في مجتمعنا (Getty)

 

تروي السيّدة الرحموني، وهي موظفة تونسية ببنك، أن عائلتها وبعد المداولات اتفقت فيما بينها أن تكون مساحة الوقت المخصصة لانشغال أفراد الأسرة بالانترنت خلال سهرات أيام الأسبوع قصيرة جدًا مقابل فسح المجال لمراجعة الدروس وإعداد الواجبات المدرسية وجلوس أفراد العائلة إلى بعضهم البعض وتبادل الحديث والنقاش حول المواضيع العامة وتلك التي تهمّ العائلة وذلك من أجل المحافظة على الدفء العائلي الذي بدأ في الزوال أمام سطوة الإنترنت.

إن التدبير الذي أقدمت عليه هذه العائلة التونسية والمتمثل في تخلي أفراد الأسرة طواعية عن الإبحار ليلاً عبر شبكة الإنترنت يحيلنا مباشرة على تفشي ظاهرة مستجدة في المجتمع التونسي وانتبهت إليها ذات العائلة ونحت إلى تعديل سلوكها تجاهها وهي ما يعرّفه علماء الاجتماع  بـ"ثقافة غرفة النوم" أو ما يعرف بتشريع النّوافذ على العالم الشبكي الفسيح بعد إطفاء الأضواء وغلق غرفة النوم. 

تتفشى ظاهرة مستجدة في المجتمع التونسي وهي ما يعرّفه علماء الاجتماع  بـ"ثقافة غرفة النوم" أو ما يعرف بتشريع النّوافذ على العالم الشبكي الفسيح بعد إطفاء الأضواء وغلق غرفة النوم

وفي تونس تفيد العديد من الدراسات الاجتماعية المحلية والدولية وخاصة التقرير الدولي "ديجيتال 2019"، الذي أشرفت على إعداده منصة "هوت سويت" الكندية و"وي آر" المختصة في دراسة شبكات التواصل الاجتماعي بأن 7،9  مليون تونسي يستخدمون الشبكة العنكبوتية وهو ما يمثل نسبة 67 في المائة من عدد السكان الذي يبلغ 11،72 مليون نسمة. 

وأفاد نفس التقرير أن ما يقارب 7،5 مليون تونسي ينشغلون بشبكات التواصل الاجتماعي من بينهم 1،6 مليون يلجون منصات التواصل الاجتماعي عبر هواتفهم الذكية. وحسب نفس المصدر فإنه خلال سنة 2019، عرف عدد الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي في تونس زيادة بــ 300 ألف شخص أي بنسبة 4،2 في المائة. وأوضح التقرير ذاته أن  7،40 مليون تونسي  يستخدمون أساسًا شبكة فيسبوك. أمّا عدد مستخدمي شبكة "أنستغرام" فيصل عددهم في تونس إلى 1،9 مليون مستخدم منهم 21 في المائة أعمارهم فوق 13 سنة في حين أن 193 ألف تونسي فقط يستعملون شبكة "تويتر" و465 ألف يستخدمون شبكة "سناب شات".

كل هذه المعطيات والمؤشرات وغيرها تشي بتفاقم استعمال الإنترنت وانشداد التونسيين إلى العالم الشبكي أو العالم الافتراضي الموازي  بشكل مرضي وهو ما حدا بالجمعية التونسية للطب العائلي إلى التحذير من الإدمان الإلكتروني وذلك بعد أن ثبت لديها أن بين 15 و20 في المائة من المراهقين التونسيين مدمنون على الإنترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي. كما دعت الجمعية إلى ضرورة إخضاع 20 في المائة من الشباب التونسي إلى العلاج النفسي جراء الإدمان على الإنترنت، وفقها.

حذرت الجمعية التونسية للطب العائلي من الإدمان الإلكتروني معتبرة أن بين 15 و20 في المائة من المراهقين التونسيين مدمنون على الإنترنت وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي

كما انتشرت أيضًا "ثقافة غرفة النوم" لدى المفرطين في استعمال الإنترنت من المراهقين والشباب وهي ثقافة الانزواء للذات والعزلة وفتح النوافذ على عوالم المجتمع الشبكي بلا رقيب ولا حسيب مراوغين سلطة العائلة وسلطة الأخلاق.

وفي اللحظة التي كانت فيها المجتمعات ــ بما في ذلك المجتمع التونسي ــ تعتقد أن "ثقافة غرفة النوم" هي ثقافة النوم والنعاس والجنس والتأمل، فإن تعديلاً ما حصل في هذا الفهم فرضته بالقوة الثورة الاتصالية وما جاورها، حيث انضاف تفصيل جديد يتعلق بالإدمان خلسة على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي والذهاب بالفردانية إلى مطبات جديدة.

"الترا تونس" بحث في موضوع سريان هذه الثقافة الجديدة مع العائلات والشباب والمختصين.

اقرأ/ي أيضًا: لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

العائلات: نحن في حيرة ولا وجود لحلول نهائية 

تحدثت السيدة منال الرحموني، زوجها قد توفي وهي إطار ببنك، لـ"الترا تونس" عن إحساس غريب داهمها ذات ليلة وهي بغرفة الجلوس بمنزلها بالعاصمة تونس مرده انتباهها لكونها جالسة بمفردها وبقية أفراد العائلة التي تتكون من ابنها الطالب بكلية الحقوق وبناتها الثلاث، إحداهن بالجامعة والبقية بالثانوي كلهم فرادى ويتواصلون مع العالم عبر شبكة الإنترنت انطلاقًا من غرف نومهم.

تقول السيدة الرحموني إنها في تلك الليلة شعرت بخطر ما يحصل جراء الإفراط في السير في العالم الافتراضي وتضيف أنها تيقنت بأن أبناءها أصيبوا بالغربة وهم تحت سقف المنزل. تضيف الرحموني بالدارجة التونسية "الدار ساكتة وأنا وحدي، كاينهم مسافرين، وقتها عرفت خطر الإنترنت". 

أما الحل الذي تدبرته لإخراج أولادها من غرف نومهم والجلوس مع بعضهم البعض والعودة للواقعي والمباشر فهو الاتفاق على ميثاق عائلي يفيد بأن استعمال الإنترنت ليلاً لا يكون إلا للضرورة القصوى وترك كل الهواتف واللوحات اللمسية جانبًا وخلق حميمية عائلية جديدة تقوم على التخاطب المباشر والنقاش والتحاور والاختلاف والتشاور. وأكدت محدثتنا أن أولادها التزموا بذلك في البداية على مضض، لكنهم ومع مرور الوقت وتوالي السهرات العائلية المفعمة بالعاطفة تعودوا على التقسيم الجديد وسارت الأمور في اتجاه إيجابي. 

تحدث أيضا لـ"ألترا تونس" سهيل رابح، وهو أستاذ للغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية التونسية والذي يقطن بالضاحية الغربية للعاصمة تونس وله ابن وحيد في سن المراهقة، إذ يروي أنه لما بلغ ابنه سن الخامسة عشرة أهداه هاتفًا ذكيًا من الأجيال الرابعة وهو ما تسبب له في حالة من الإدمان على الإبحار عبر شبكة الإنترنت.

ويوضح سهيل رابح بأن ابنه قلص من اللعب مع أترابه وبات يختلي بنفسه لساعات طويلة في غرفة نومه ولا يغادرها إلا للضرورة كما تراجعت نتائجه الدراسية. وأكد الأستاذ أن حالة ابنه باتت مقلقة فاتصل سريعًا بأخصائي نفساني والذي نصحه بعد عدة لقاءات بأن يعيد تقسيم وقت ابنه بما يتواءم مع وقته هو وذلك من أجل توفير مساحات للتنزه وممارسة الرياضة والذهاب للحفلات الفنية وملاعب كرة القدم وهو ما تم فعلاً، مشيرًا إلى أن بعض النتائج الملموسة بدأت في التحقق حيث تخلى الابن جزئيًا عن الإفراط في الالتحام بالهاتف.

ممرض وولي لفتاة تدرس بالثانوي لـ"الترا تونس": ابنتي مدمنة على الانترنت وأنا أسعى لعرضها على الطب النفسي 

أما أمير بن حسن، وهو ممرض بأحد المستشفيات المحلية بالعاصمة تونس، فقد أوضح لـ"ألترا تونس" أن ابنته التي تدرس بالثانوي قد اكتشف أنها توهم العائلة بأنها نائمة بغرفتها في حين أنها مبحرة في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي وقد سعى لاحتواء الأمر مع زوجته بالحوار مع الإبنة وتنبيهها لخطورة هذا الإفراط لكنه، وحسب قوله، فإنه عبثًا كان يفعل ذلك لأنها أوهمتهم بالتخلي عن هذا السلوك في حين أنها واصلت السهر حتى مطلع الفجر. وأضاف هذا الأب أن "ابنته تستفيق مرهقة في الصباح وتذهب متأخرة للدراسة، كما اكتشف فيما بعد أنها منخرطة في شبكات تحرض على عبادة الشيطان.."، وفق قوله.

اعتبر هذا الوالد أن ابنته مدمنة على الإنترنت وقال إنه سيسعى لعرضها على الطب النفسي وإلى حين ذلك أوضح أن زوجته أصبحت تبيت مع الإبنة في غرفة نومها لتأطيرها وللحد من عملية الإدمان التي تعرضت لها.

اقرأ/ي أيضًا: التسوّق الإلكتروني في تونس.. عوالم من الغش والتّحيّل

الشباب: نحن جيل الإنترنت وننتظر دخول غرف نومنا لنشرّع النوافذ على العالم

في ذات السياق، أكد الطالب بكلية الآداب بمنوبة أنس الهويملي لـ"ألترا تونس" أن "جيلهم هو جيل الإنترنت وعلى الأجيال السابقة أن تعي ذلك" وأضاف أنه عادة ما ينتظر دخول غرفة نومه حتى يرتب أفكاره ويقوم بالزيارات على شبكة الإنترنت التي أجلها طيلة اليوم كما يكون ذلك الوقت فرصة للرد على الرسائل الإلكترونية الضرورية، كما يستغل الوقت نفسه للإبحار والاكتشاف وفهم بعض المواضيع العالقة وأحيانًا تكون لها علاقة بمجال دراسته. يقول لـ"الترا تونس" إنه "بات يقيم إقامة افتراضية إلى جانب إقامته الواقعية".

أما سكينة العلاني، وهي طالبة بكلية الحقوق بالمنار، فقد أفادتنا أن المجال الشبكي بات جزءًا من حياتها إذ تحوّل مكتبها بغرفة نومها إلى فصل دراسي خاصة مع الدراسة عن بعد جراء تفشي فيروس كورونا كما تحولت شاشة حاسوبها إلى نافذة مشرعة على العالم فهي تستطيع السفر إلى أي مكان وفهم ما يحدث في كل مكان من العالم. وبخصوص إدمانها على ذلك، أكدت أنها واعية بما تقوم به وأن غرفة نومها ليست مغلقة وأنوارها خافتة وإنما مفتوحة أمام باقي أفراد الأسرة.

أحمد، وهو اسم مستعار لتلميذ الباكالوريا الذي يدرس بمعهد باردو، أكد لـ"ألترا تونس" أنه يوهم والديه بالدراسة وبالنوم لكنه في الحقيقة يمارس بعض ألعاب الفيديو التي تستهلك العديد من الساعات على حساب صحته ودراسته، وأضاف أن ذلك تحوّل إلى إدمان فهو ومنذ المساء يتصل ببقية اللاعبين من أصدقائه الذين يعرفهم وأولئك اللذين يعرفهم افتراضيًا ويرتب للسهرة. توقع أحمد أنه لن ينجح في الباكالوريا هذه السنة لأنه غير مستعد نفسيًا وسيسعى إلى البحث عن شغل في علاقة بالتجارة الإلكترونية، كما يقول محدثنا.

حملنا كل هذه الأفكار والآراء المتباينة إلى المختصين فكانت هذه آراؤهم. 

مختص في علم الاجتماع: معالجة ثقافة غرفة النوم يتطلب الحذر والحكمة

أوضح سفيان الفراحتي، وهو مختص في علم الاجتماع وباحث بالجامعة التونسية وناشط بالمجتمع المدني، خلال حديثه لـ"الترا تونس" أنه حان الوقت أن نصدق أن مجتمعًا شبكيًا بات موجودًا وهو ما أكده عالم الاجتماع مانويل كاستلز منذ أكثر من عشر سنوات، موضحًا أن النظام الرأسمالي بات يرتكز في كل عملياته الإنتاجية على المعلومة بدلاً من الطاقة بحيث أصبحت التكنولوجيا هي البنية التحتية لكل الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية وأن الصراع الآن أصبح بخصوص النظم المعلوماتية التي باتت تتحكم في العالم. وأضاف الفراحتي أن التفشي البارز للأنترنت بكل تشعباتها يتنزل في هذا السياق وهو ما انجر من تغيرات اجتماعية بارزة.

وبيّن الفراحتي أن شبكات التواصل الاجتماعي المتصلة بالإنترنت هي "فضاءات منفلتة" ويمكن اعتبارها شكلًا من أشكال مقاومة تسلط الدولة وباقي المؤسسات المجتمعية كالأسرة والقانون والمدرسة، مضيفًا أن هذه الفضاءات المنفلتة هي فضاءات حرة سهلت على المنخرط فيها إعادة التشكل والتموقع في مجتمعات شبكية صغيرة.

مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": ثقافة غرفة النوم تولّدت من رحم ظاهرة موجودة في كل المجتمعات وهي هروب الفرد إلى "فردانيته" تحت سقف الحرية المطلقة التي توفرها الإنترنت

واعتبر الفراحتي أنّ مصطلح "ثقافة غرفة النوم" تولّد من رحم ظاهرة موجودة في كل المجتمعات وهي هروب الفرد إلى "فردانيته" تحت سقف الحرية المطلقة، التي توفرها الإنترنت، وذلك من أجل صناعة المحتوى أو المشاركة أو المقاسمة، مبينًا أنه هنا يحدث المنزلق لأن مفاهيم الحرية والعيش المشترك لم تحيّن بعد ومازالت منشدة إلى ما قبل الثورات التكنولوجية والرقمية والاتصالية.

وختم المختص في علم الاجتماع حديثه لـ"الترا تونس" أن ثقافة غرفة النوم يجب معالجتها والتعاطي معها بحذر حتى لا تحصل أعطاب تمس من سيرورات التغيرات الاجتماعية التي حصلت وتلك التي مازالت ستحصل جراء الإنترنت وأضاف أن تونس ليست بمنأى عما يحصل في العالم وأنه بات من الضروري الذهاب إلى دراسات وبحوث مسبقة لفهم الظاهرة. 

مختص في علم النفس: ضرورة مراعاة خصوصية المجتمع التونسي وهذه هي البدائل

يقول نوفل بوصرة، وهو مختص في علم النفس وباحث بأقسام علم النفس بالجامعة التونسية، إن "الإنسان عادة ما يجنح نحو الإدمان إذا ما كان محل إدمانه مشبعًا للذة تعودها"، موضحاً أن الإنترنت هي من المدمنات الحديثة وهي تتعارض مع الحياة اليومية المباشرة ومع نسق الوظيفة والدراسة فهي تسيطر سيطرة كاملة على حياة المدمن فينجر عنها تغير سلوكي وأمراض عصبية واضطرابات نفسية  مثل القلق والصرع والتوتر. 

مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": الانزواء داخل غرفة النوم سبقه شعور بالإحباط لم يتفطن إليه محيط الحالة وأيضًا فقدان الثقة في النفس وهي عوامل لا مرئية قد تجعل من الفضاء الشبكي ملاذاً للفرد 

وحسب المختص في علم النفس، فإنه لابد من التشخيص السليم لحالات الإدمان على الإنترنت فالانزواء داخل غرفة النوم سبقه شعور بالإحباط لم يتفطن إليه محيط الحالة وأيضًا فقدان الثقة في النفس وهي عوامل لا مرئية قد تجعل من الفضاء الشبكي ملاذاً للفرد في نوع من الهروب وإعادة البناء على نحو غير سليم عكس ما يتوهمه المدمن، فتحدث نتائج عكسية كالعزلة وإيذاء الذات بالانتحار وفخاخ الشبكات الخطيرة.

أما معالجة الإدمان على الإنترنت أو ما بات يعرف بـ"ثقافة غرفة النوم" لدى الشباب والأطفال وحتى الكهول فإنه حسب الأستاذ بوصرة، يتطلب فهمًا واسعًا لما يحدث في محيط المدمن وقد تطول مدة العلاج. وأضاف أن ظاهرة إدمان الإنترنت وما تفرع عنها من شبكات للتواصل الاجتماعي فإن بدائلها بالأساس ثقافية ورياضية وترفيهية ومناخات عائلية دافئة ومدرسة جاذبة وغير عنيفة.

كما تحدث نوفل بوصرة لـ"الترا تونس" عن تفشي ظاهرة ثقافة غرفة النوم في تونس، مشيرًا إلى أن المسؤولية هنا هي عائلية بالأساس ولا تتطلب حلولاً عنيفة وزجرية بقدر ما تتطلب المزيد من التأطير مع الأطفال والحوار مع الشباب. وختم بأنه "حان الوقت في تونس لدراسة هذه الظواهر المستجدة المرتبطة بالإنترنت والاتصال وخلق الحلول والتصورات البديلة النابعة من خصوصية مجتمعنا لا أن ننتظر الحلول المستوردة من مجتمعات أخرى"، وفق تقديره.                    

   

  اقرأ/ي أيضًا:

التجارة الإلكترونية.. تسهيل للمعاملات وبوابة للغش أحيانًا

مواقع التواصل الاجتماعي.. بوابة إغاثة أنقذت حياة عدد من التونسيين