21-نوفمبر-2019

عودة للمسار التاريخي لبروز النسوية في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

ما إن نشرع في التفكير حول نشأة الفكر النسوي في تونس، حتّى يتبادر إلى أذهاننا أنّه وليد النظام السياسي البورقيبي وأنّ الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة هو "الأب الحامي للنسوية" وغيرها من الشعارات الأخرى التّي لا ينفك يرفعها من ينسبون أنفسهم إلى "الفكر البورقيبي"، والحال أنّ الحقيقة مخالفة لذلك.

ففي أي سياق نشأ الفكر النسوي في تونس؟ وكيف ناضلت النسويات ضدّ السلطة والمجتمع الأبوي؟ ويجب أن نعرف، في الأثناء، أنّ حركة ماي/آيار 68 في فرنسا قد أعادت قراءة الكلاسيكيات الأيديولوجية وقراءة العالم من جديد، وفتحت نقاشات نقديّة بين الطلبة والطالبات والعمّال والعاملات والمناضلين والمناضلات وأتاحت الفرصة للعديد من التيارات السياسية كي تكون أكثر انفتاحًا على المبادئ الكونيّة. 

اقرأ/ي أيضًا: يسرا فراوس: يجب تحرير الجسد بتونس وهذا موقفنا من أحكام الشريعة الخاصة بالنساء

النضال النقابي جزء لا يتجزّأ من النضال النسوي

عرف المجتمع التونسي انضمام النساء إلى التنظيمات النقابيّة بداية من السبعينيات، إذ تشير درّة محفوظ في كتابها حول "النساء التونسيات في الشغل والحركة الوطنية" إلى أنّ التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية قد دفعت إلى خلق وعي لدى عاملات النسيج والمثقفات والطالبات والجامعيّات للانضمام إلى شتّى الهياكل النقابيّة بهدف الدّفاع عن حقوقهنّ ورفض الاستغلال. تقول محفوظ إن أوّل اضراب نسائي لعاملات النسيج نظّم سنة 1975 أي بضع سنوات بعد صدور قانون 72 الذّي فتح البلاد للرأسمال الدولي وللتصدير. ويضع هذا الحدث نصب أعيننا السياق الاقتصادي العالمي لصعود الرأسمالية في العالم.

دفعت التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية في السبعينيات إلى خلق وعي لدى عاملات النسيج والمثقفات والطالبات والجامعيّات للانضمام إلى شتّى الهياكل النقابيّة بهدف الدّفاع عن حقوقهنّ ورفض الاستغلال

نعود في نظرة خاطفة إلى تاريخ تونس لنكتشف أنّ أبرز النساء النقابيات والرائدات التونسيات إلى جانب المناضلين في الحركة الوطنية من أجل الاستقلال هي شريفة المسعدي، التي وُلدت سنة 1908 وانتخبت سنة 1951 عضوًا بالمكتب التنفيذي بنقابة التعليم التقني والمهني "وبقي هذا الحدث فريدا لمدّة ثلاثة أرباع قرن وانتمت إلى الهيئة الإدارية لمدة ثلاث سنوات عندما كان فرحات حشّاد كاتبا عامّا لها. كانت المرأة الوحيدة في الاجتماعات العامّة كما تبيّنه صور وصحف تلك الفترة. كانت لا تترّد في أخذ الكلمة خلالها كما كانت المرأة الوحيدة في مسيرات غرّة ماي والمظاهرات العامّة"، هذا ما ذكرته درّة محفوظ في مؤلفها المذكور.

شريفة المسعدي على يمين فرحات حشاد في مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل ماي 1949 (كتاب النساء التونسيات في الشغل والحركة النقابية)

 

هذه الريادية في العمل النقابي جعلت من شريفة المسعدي، أكثر النساء جرأة للدخول إلى النشاط النقابي الذّي كان ينظر إليه على أساس أنّه نشاط ذكوري، وكانت في نفس الوقت، الأكثر قدرة على إثبات أنّ التنظيمات النقابيّة ليست حكرًا على الرجال فقط. تقول درّة محفوظ في نفس المرجع، مؤكّدة على دور النقابيات في الدفاع عن حقوق طبقة النساء العاملات والتنديد بكلّ أشكال التمييز والاستغلال في العمل: "كانت الغاية الأولى من تأسيس لجنة "المرأة الوطنيّة" داخل الاتحاد العامّ التونسي للشغل وليدة الحاجة إلى مقاربة العمل النقابي والعمل النسوي في تقاطعهما وترابطهما، ومقاربة العلاقة بين التمييز الجنسي والتمييز الطبقي. ولا بدّ من التذكير هنا أنّ سنة 1977 هي السنة التّي أقرّت فيها منظمة الأمم المتّحدة رسميًّا يوم 8 مارس يومًا عالميًا للنساء".

إنّ الوعي النسوي، أي التنبّه إلى ضرورة الدفاع عن التمييز الجنسي في فضاءات العمل وداخل التنظيمات النقابيّة، جاء كنتيجة طبيعيّة في مجتمع لا يعترف بالمساواة بين الجنسين

إنّ الوعي النسوي، أي التنبّه إلى ضرورة الدفاع عن التمييز الجنسي في فضاءات العمل وداخل التنظيمات النقابيّة، جاء كنتيجة طبيعيّة في مجتمع لا يعترف بالمساواة بين الجنسين بل ويتغاضى عن الأدوار التّاريخيّة للنساء التونسيّة في شتّى المحطات التّاريخية ومجالات الحياة. فقد كانت الطالبات والمثقفات اللواتي التحقن بالتنظيمات النقابية والحزبية يصطدمن في كلّ مرّة بمحيطهن العائلي وبيئتهن الاجتماعية والمهنيّة، ويجدن أنفسهن مجبرات على بذل جهود تضاعف تلك التي يبذلها الرجال حفاظًا على مكانتهن الاجتماعية، إعلانًا لتمرّدهن على الصور النمطيّة وفرضًا للمساواة مع زملائهن ورفاقهن من الرجال. في نفس الوقت، كنّ مطالبات بمحاربة الذهنيات المحافظة التي تختزل أدوارهن في قوالب جاهزة تتماشى مع نوعهن الاجتماعي داخل الهياكل التنظيمية التي ينشطن فيها.

درة محفوظ بجانب إسماعيل السحباني على يسار الصورة (كتاب النساء التونسيات في الشغل والحركة النقابية)

 

تتحدث نائلة جراد، شاهدة على هذا الأمر، في كتاب "ربيع تونس الأوّل"، الذّي أصدرته جمعية "آفاق العامل التونسي للذّاكرة والمستقبل" بالقول: "أعتقدت النساء الأكثر نضاليّة وتمرّدًا بأنّه بالتحاقهنّ بالنضالات من أجل الديمقراطيّة والرقي الاجتماعي سوف يجدن أخيرًا الحريّة والمساواة مع رفاقهنّ الذكور ضمن مشروع سياسي واجتماعي مشترك. إلاّ أنّهن عندما شاركن بحضورهنّ النشيط في الفضاءات السياسيّة التي بقيت إلى حدّ ذلك الوقت حكرًا على الذكور، وجدن فيها نفس المسلمات و القوالب الذّهنية التي هربن منها، تلك المرتبطة بالجنس، واعتبار المرأة قاصرًا واستصغارها.. كما كنّ، في تلك المنظمات، ضحايا اللاّمساواة بين الجنسين، ومكلّفات بالمهام المنوطة تقليديًّا بالنساء ومقصيات عن دوائر القرار".

مواجهة المجتمع الأبوي والسلطة البورقيبيّة

ترجّح نايلة جراد بروز الفكر النسوي في تونس بعد عشريّة تقريبًا من ربيع 68، وتطرح جملة من التساؤلات: "هل هذا التفاوت أو الفارق الزّمني بين أحداث 68 و بروز فكر نسوي في بلادنا هو وليد تداعيات مؤجّلة لفكر 68 أم أنّ هذا الأخير غريب عن ذلك البروز" مواصلة "هذا البروز الذّي أعتقد أنّه بلغ ذروته سنة 1980، لم يحدث على النحو الذّي تمّ به في أوروبا، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، و بعض "الديمقراطيات الشعبيّة" أي عقب أحداث سياسية هامّة مثل هجوم التّات (رأس السنة الفيتناميّة)، واغتيال مارتن لوثر كينغ، وصعود الثّورة الكوبيّة ورمزّية شي غيفارا، وربيع براغ وإفشاله بسبب التدخّل السوفياتي، وطبعًا ماي 68 وما سبقه ولحقه من أحداث مماثلة في أنحاء متفرّقة من العالم. بل هو بروز قد يبدو مفارقًا بالنّظر إلى الاهتمامات السياسية والاجتماعية التّي كانت موجّهة في تونس ضّد القمع المسلّط على اليسار المناهض لسلطويّة النظام ثمّ على الحركة النّقابيّة التّي بلغت في جانفي 1978 قبل أن يسحقها النظام دون هوادة لرفضه أدنى معارضة".

 تأسّس نادي المرأة الطاهر الحدّاد على يد طالبات ومثقفات تونسيّات كان مشغلهنّ الأساسي هو إعادة التفكير في وضعيات النساء في الفضاء العام والخاصّ

عرف تونس سنة 1978 احتقانًا كبيرًا ومواجهات مشحونة بالغضب بين الحكومة والنقابات العمالية فيما عُرفت بأحداث "الخميس الأسود"، وفي السنة الموالية، أي سنة 1979، تأسّس نادي المرأة الطاهر الحدّاد على يد طالبات ومثقفات تونسيّات كان مشغلهنّ الأساسي هو إعادة التفكير في وضعيات النساء في الفضاء العام والخاصّ. اكتسبن فكرًا نقديًا نضاليًا من المراجعات التّي قام بها الطاهر الحدّاد حول الدين والمجتمع والمرأة والعمل النقابي، واستلهمن مبادئ الحريّة والانفتاح والحسّ النقدي من الانتفاضة الشبابيّة ماي 68.

اقرأ/ي أيضًا: نساء مستقلات: لقد أصبحنا الرجال الذين كنا نريد أن نتزوج!

ولكن، كانت النساء في تلك الفترة، أمام مفارقة كبيرة، فمن جهة يعشن في مجتمع تسود فيه المعايير الذكورية وتظهر فيه الهيمنة والتسلّط بشكل واضح، ومن جهة أخرى، كان النظام الحاكم يصدر قوانين من أجل "تحرير" المرأة و"إغداق" الحقوق عليها بأساليبه التسلّطية والأبويّة المعهودة.

تقول نائلة جراد في مؤلفها المذكور "إنّ الإنجازات الحاصلة لفائدة التونسيّات لم تمنع نادي المرأة الطاهر الحدّاد من النضال من أجل سدّ الفجوة الكبيرة بين الذّهنيات والقوانين، ورفض منطق "الاعتراف بالدّين" وعقلية "المنّة" التّي تروّج لها الأيديولوجيا السائدة في اعتبار النساء مدينات للسّلطة التّي أصدرت قوانين لفائدتهنّ. هنا تكمن المفارقة الكبرى لنظام لا ديمقراطي يمنع حريّات المواطنين وينتهك حقوق الإنسان ولكنّه، يتخذ بالمقابل، إجراءات ثوريّة لفائدة النساء بطريقة تسلطيّة في مجتمع تغلب عليه المحافظة ويمثّل فيه الدين عامل منع ورقابة".

وتذهب جراد إلى أنّ النظام قد وظّف النساء لتلميع صورته والدعاية لنفسه كنظام حداثي مناصر لحقوق النساء، ليغطي الانتهاكات الصارخة والمحاكمات السياسية والممارسات القمعية تجاه المعارضين لنظام الحكم البورقيبي قائلة: "تقدّم رئيس الدّولة على أنّه راعي النساء اللاّتي لم يعد لهنّ من كلمة سوى الاعتراف بالجميل لـ"محرّر المرأة" و"هكذا تحوّلت -المرأة التونسيّة- إلى موضوع رئيسي للدعايّة على المستويين الوطني والدولي و لم يكن وراء إبراز -الحقوق الممنوحة للمرأة- سوى هاجس التغطية على غياب اليمقراطيّة".

نساء يفكّرن خارج الصندوق

لم يكن النظام السياسي الوحيد الذّي مارس العنف الرمزي على النساء وووظّف وضعياتهن وقضيتهنّ للتسويق لنفسه على أنّه نظام "عادل"، بل أكثر من هذا، اصطدمت المناضلات صلب التنظيمات، بالتمييز الجنسي وتمّ تهميش أدوارهن كمناضلات وصل ذلك إلى حدّ اغتراب أجسادهنّ، وتقول نائلة جراد: "لقد اكتشفن أنّ جسد المرأة يمثّل أداة الاضطهاد والغاية النهائيّة له بصفته جسدًا صالحًا للإنجاب، وجسدًا موهوبًا للمتعة، وجسدًا مسخّرًا للعمل".

إضراب نساء قطاع الصحة مع فرحات حشاد عام 1951 - غلاف نشرية لجنة قضايا المرأة العاملة عام 1983 (كتاب النساء التونسيات في الشغل والحركة النقابية)

 

وبقيت المنظومة الأبوية والنزعة الذكوريّة مهيمنة على الفضاءات اللّواتي تتواجد النساء بهنّ في المنزل والجامعة ومكان العمل والأحزاب والنقابات والشارع. وسعت مجموعة الطاهر الحدّاد إلى تهديم أسس هذه المنظومة أينما حلّت، وذلك بانتهاجها منهج الاستقلالية التفكير بحرّية والفعل خارج الأطر.

تتحدث نائلة جراد قائلة: "مجموعة الطاهر الحدّاد سعت إلى التباين مع النسوية البورقيبيّة بقدر تباينها مع الأيديولوجيات المسمّاة "تحرريّة"، واعتبرت ضروريًا الاعتماد على الذّات وصياغة فكرها الخاصّ، كما حرصت على استقلاليتها العضويّة عن الأحزاب السياسيّة بالخصوص". ورأت هذه المجموعة أنّ انعتاقهن من أسر الروابط الاجتماعية والسياسيّة ضروري إنّها الروابط التي تحمل في جذورها الاستغلال والإقصاء الجندري ورفضن الوصاية عليهن. وكلّ ما أردن فعله هو التفكير في وضعهن ومصائرهنّ بأنفسهن دون تدخّل الأيديولوجيات والأحزاب السياسية في جوّ يسوده الحوار والنقاش البنّاء، وقد كان هذا الموقف جريئًا مما عرضهن للنقد في العديد من المناسبات.

 نستنتج أّنّ حركة ماي 68 قد دفعت، وإن كان بطريقة غير مباشرة، النساء الحاملات لأفكار جديدة إلى خلق مساحة حرّة للتفكير وكسر القيود الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة السلطويّة واستلهام روح الثورة والتحرّر

كما اعتبرت مجموعة الطاهر الحدّاد أنّ "الثقافة" هي انتاج نمطي للمعايير الاجتماعية الأبوية والذكورية التي غالبًا ما ترسّخ صورًا نمطية لأدوار النساء تستنقص من قدراتهن ومكانتهن في المجتمع والسياسة والعمل والشارع مثل "اتحاد نساء تونس" و"اتحاد النساء المسلمات" وبعض المناضلات مثل بشيرة مراد وحبيية المنشاري. وقد دعت هذه الأخيرة في محاضرة سنة 1929 إلى تحرير المرأة ونزع الحجاب عنها ووغيرهنّ، وتشير نائلة جراد إلى هذه النقطة الفاصلة بقولها: "النسويات مطالبات بالتأثير على المعطى الثقافي كأولويّة كبرى، من أجل بثّ صور أخرى وتمكين النساء من الثّقافة لمقاومة الاضطهاد المسلّط عليهن. ففي سنة 1980 أنتجت النساء أعمالًا مسرحيّة وشعريّة، وأقمن حوارات وندوات حول كتب من تأليف نساء وشهادات لنساء شاركن في تحرّكات وأنشطة نسويّة قبل الاستقلال وإبّانه".

في حوصلتنا لهذه الأحداث، نستنتج أّنّ حركة ماي 68 قد دفعت، وإن كان بطريقة غير مباشرة، النساء الحاملات لأفكار جديدة إلى خلق مساحة حرّة للتفكير وكسر القيود الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة السلطويّة واستلهام روح الثورة والتحرّر من شباب ربيع 68 المنتفضين. كما اكتسبن مناعة ضدّ النظام البورقيبي والاستقلاليّة عنه، عندما سعت الحكومة في أواخر السبعينيات إلى قمع المناضلين بالاتحاد العام التونسي للشغل. وقد أينعت كلّ هذه العوامل والأحداث العالمية والوطنية فكرًا نسويًا جديدًا يرفض الكلاسيكية والمسلمات ومستعدا لـ"أخذ الكلمة" دون خوف أو تردّد في سنة 1980 كما عبّرت عن ذلك الباحثة نائلة جراد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحركة النسوية..بين الأبوة السياسية والحنين للماضي

في الحاجة إلى النسوية الراديكالية..