14-مارس-2022

"يعد الاتفاق المرتقب مع صندوق النقد مصيريًا بالنسبة للسلطة الحالية" (صورة مبنيَيْ رئاسة الحكومة ووزارة المالية بتونس /Nicolas Fauqué/ Corbis)

 

سنة 2001، اضطرت المَلَاوي، تحت ضغط من صندوق النقد الدولي، إلى بيع كامل مخزونها الاستراتيجي من الحبوب لسداد ديونها. لاحقًا، لم تمضِ سوى أسابيع قليلة من سنة 2002، حتى ضربت المجاعة البلاد، مهددة حياة أكثر من نصف السكان. مجاعة تصنفها نشريات الأمم المتحدة من بين أكثر المجاعات قسوة في التاريخ الحديث.

تعود أصول الأزمة، حسب تقرير تناولته صحيفة الغارديان، إلى سياسات البنك الدولي والشروط التي أصر على فرضها على الحكومة في الملاوي، رغم التحذيرات من تبعات تلك السياسات، أو الوصفة السحرية التي يصر إداريو صندوق النقد على وصفها لكل الدول التي تلجأ إليه، دون مراعاة لأي خصوصية.

في تلك السنوات، تلقت المَلاوي مساعدات مختلفة من عدة دول من بينها تونس، إذ نقل شريط الأنباء آنذاك صور المساعدات التي أرسلتها الحكومة التونسية، ونقل التلفزيون الحكومي أيضًا فعاليات التعديل الدستوري وحجج المناشدين للتمديد، والتي كان من بينها أنه نتيجة لسياسته الحكيمة، تمكنت السلطة من تخفيض نسبة البطالة إلى 12%!

اقرأ/ي أيضًا: 50 عامًا من الليبرالية المتونسة انتهت إلى تقييد كلّي للاقتصاد التونسي

اللافت للنظر أن بروباغندا النظام، ورغم تحوزها على كل أجهزة الدولة، اعتبرت أن تلك النسبة كمعدل للبطالة، صالح للدعاية للنظام. للعلم، لم تسجل الحكومات التونسية المتعاقبة منذ الاستقلال تقريبًا، نسبة أقل من تلك الـ 12%، مع تحفظ حول مدى صحتها ونرجح أنها أعلى من ذلك، وتحيل قراءات عديدة إلى أن أحد الأسباب الأبرز للأزمة الهيكلية التي يعاني من الاقتصاد التونسي يعود إلى المنوال الاقتصادي المهترئ الذي اتعبته تونس منذ الاستقلال، والذي كان تحت رعاية صندوق النقد الدولي. الصندوق الذي يعدّ الاتفاق معه هذا الأيام، أكبر التحديات التي تسعى الحكومة التونسية إلى تحقيقها منذ أشهر.

تحيل قراءات عديدة إلى أن أحد الأسباب الأبرز للأزمة الهيكلية التي يعاني من الاقتصاد التونسي يعود إلى المنوال الاقتصادي المهترئ الذي اتعبته تونس منذ الاستقلال، والذي كان تحت رعاية صندوق النقد الدولي

  • الاشتراكية الدستورية برعاية الرأسمالية العالمية: التحديث مهما كان الثمن

إلى حدود الاستقلال، كانت الطبقة العليا مكونة من حاشية العرش الحسيني، خصوصًا كبار التجار، ورعايا سلطات الاحتلال من الأوروبيين الممسكين بمحركات المكينة الاقتصادية: الصناعة والفلاحة. صاحب جلاء القوات الفرنسية عن البلاد، مغادرة رؤوس الأموال الأوروبية واليهودية، إلى جانب إقصاء المخزن الأعلى[1] من طرف البرجوازية الصغيرة الصاعدة ممثلة في حزب الدستور بقيادة الحبيب بورقيبة، ما سبب نزيفًا ماليًا حادًا.

أدى هذا إلى اختلال العملية الاقتصادية في البلاد، ولم تنجح محاولات الحبيب بورقيبة، بين 1956 و1961، في خلق طبقة من رؤوس أموال وتحفيز صغار التجار والصناعيين لخوض غمار المغامرة، رغم التشجيع السياسي والجبائي (أمر 31 مارس/آذار 1956 وقرار 12 جوان/يونيو 1956 وأمر 4 جوان/يونيو 1956 وقانون 4 فيفري/شباط 1958، المتعلقة بإعفاءات جبائية)، وما رافقه من توزيع ممتلكات حاشية الباي والمعمرين على "مناضلي الحزب".

أمام نزعة بورقيبة إلى تحديث البلاد مهما كانت التكلفة[2]، انخرطت الدولة التونسية الفتية منذ البداية في المؤسسات المالية العالمية، بل سبق انضمامها إلى مجموعة برايتون وودز (صندوق النقد الدولي)، يوم 14 أفريل/نيسان 1958، إحداث البنك المركزي التونسي، يوم 19 سبتمبر/أيلول 1958. وهو ما يفسر الإعانات المالية التي تلقتها تونس، الأمريكية بالخصوص، والتي بلغت 238 مليون دولار، خمسها في شكل قروض والباقي هبات للدولة الناشئة[3].

تكمن حالة الفصام التونسية في إلباس العملية ثوب الاشتراكية تحت مسمى "التعاضد". بل أبعد من ذلك، قام الحزب الحاكم بتغيير اسمه إلى الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1964، تاريخ أول قرض تتسلمه تونس مباشرة من صندوق النقد الدولي

ولما يئس من ظهور برجوازية وطنية على المنوال الغربي، اتجه الحبيب بورقيبة سنة 1961 نحو الولايات المتحدة حاملًا معه "آفاق العشرية 1961-1969" التي عرضها على الرئيس كينيدي، ما مكن تونس من جملة من القروض من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، بلغ مجموعها 620 مليون دينار، أي أكثر من نصف التشكل الخام للرأسمال القار[4] (FBCF)[5].

اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح

كان الهدف من هذه السياسات، التي نجدها في أجندات المؤسسات المالية، تحفيز ظهور القطاع الخاص، من خلال ضخ المال العمومي في العملية الإنتاجية تحت يافطة المشاريع الكبرى وبناء الدولة، والتي كان الهدف الأساسي منها تهيئة البنى التحتية وخلق سوق مستهلكين لدفع الرساميل الخاصة، المترددة آنذاك، للانخراط في "المشروع الوطني الشعبي"، حسب تعبير سمير أمين.

أما حالة الفصام التونسية، فتكمن في إلباس العملية ثوب الاشتراكية تحت مسمى "التعاضد" أو "دولنة" الاقتصاد، والتي لم تكن إلا عملية كينزة (نسبة إلى الاقتصادي جون كينز صاحب نظرية التسيير الكمي) اعتمدتها في أغلب الدول الليبرالية. بل أبعد من ذلك، قام الحزب الحاكم بتغيير اسمه إلى الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1964، تاريخ أول قرض تتسلمه تونس مباشرة من صندوق النقد الدولي، وقامت قياداته السياسية بالإشراف على القطاعات المنجمية، الصناعات التحويلية، الفلاحة وكبرى الشركات العمومية، وخلقت بذلك طبقة من البيروقراطيين المتنفذين تعرف باسم برجوازية الدولة/الحزب.

 شهدت فترة التسعينات تفويتًا في مؤسسات عمومية وتسريح آلاف العمال، فضلًا عن إبرام اتفاقيات تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، والتي أجهزت على ما تبقى من البنى الاقتصادية المهترئة أصلًا، فيما بقي النظام يعاني أزمة بطالة هيكلية

يذكر أن حصيلة عشرية الستينات كانت هزيلة: من الناحية الاقتصادية، لم تنجح هذه السياسة في خلق بيئة صناعية وفلاحية وطنية، وذلك لاضطراب التكوينات الاجتماعية والطبقية للمجتمع. تدهورت الوضعية الاقتصادية لتونس في تلك الفترة، فقد سبب التداين، إلى جانب التوريد ونمو الكتلة المالية بنحو 26% سنة 1963، إلى دفع الحكومة نحو تخفيض قيمة الدينار بنحو 25% في سبتمبر/أيلول 1964، وتوقيع أول اتفاقية مع صندوق النقد بقيمة 14.25 مليون دولار، بالإضافة إلى قرضين آخرين: 5.6 مليون دولار سنة 1965 و9.6 مليون دولار سنة 1966. بحلول سنة 1970، بلغت الديون العمومية ما مجموعه: 768 مليون دولار، تعود في أغلبها إلى كل من صندوق النقد والبنك العالمي.

 أما من الناحية الاجتماعية، وفي حين ظل 40% من السكان يحصلون على أقل من 70 دينار/السنة (الحد الحيوي الأدني)، فقد أدت سياسة التعاضد إلى موجات نزوح جماعية من الأرياف شكلت ما يعرف بـ"الهامش"، أي الحزام العشوائي حول المدن الساحلية، والتي ستكون بمثابة القنبلة الموقوتة في وجه النظام في لاحق السنين.

  • من الاشتراكية التسلطية إلى الانفتاح المتهور: معالجة الفشل بمزيد من الفشل

"إن الظاهرة البارزة آنذاك تمثلت في المراكمة السريعة للثروة المرتبطة بأولوية الحصول على قروض والاحتكار والمضاربة والقدرة على البعث والمقاولة". هكذا وصف عبد الباقي الهرماسي فترة السبعينات أو فترة "اغتنوا بسرعة" كما يسميها الباحث في علم الاجتماع المولدي القسومي[6].

اقرأ/ي أيضًا: كارتيلات اقتصاديّة ومافيات احتكارية.. أين الدولة؟

مع التحول نحو الانفتاح فترة 1969-1970 وتحول تونس نحو الحزمة الثانية من استراتيجية المؤسسات المالية العالمية المتمثلة في سياسة تعويض الواردات، سارعت برجوازية الدولة، أو البرجوازية البيروقراطية، بالتحول إلى رجال أعمال مستفيدين من عامل قربهم من دوائر صناعة القرار. مثال: منصور معلى الذي شغل كبرى المناصب في الدولة ثم قام بفتح أول بنك تونسي خاص سنة 1976.

رغم الأزمة النفطية سنة 1973، وما عدا البنك الدولي والمؤسسة الدولية للتنمية، لم تعقد تونس أي اتفاق مع صندوق النقد. إلا أن السياسة النويرية كانت تسير بخطى ثابتة على هدى المؤسسات المالية العالمية. "على الدولة أن تسهر على تسديد الحاجيات الأساسية للبلاد ولها أن تقوم في سبيل ذلك بمختلف الوسائل فتكون منتجًا مباشرًا في القطاعات المسيطرة على غيرها مثل الطاقة والنقل... وتكون طرفًا مع غيرها في الصناعة والفلاحة والخدمات أو تعهد إلى الخواص بإنتاج وتوزيع الأرزاق والخدمات[7]".

تكثفت وتيرة التداين بعد الثورة، إذ مرت الحكومة التونسية بجولتين مع صندوق النقد: جولة أولى سنة 2013 بقرض بقيمة 1.4 مليار دولار، وجولة ثانية سنة 2016 بقيمة 2.7 مليار دولار، التي وجهت نحو شراء السلم الاجتماعي بسبب اشتداد العصف المطلبي

اتجهت تونس طيلة فترة السبعينات أكثر فأكثر نحو مزيد من التعويل على الاستثمار الأجنبي، قانون أفريل/نيسان 1974، تكثيف الإنتاج الموجه للتصدير لتعويض التوريد، وما يعنيه ذلك من ملاءمة المناخ الفلاحي والصناعي الداخلي مع متطلبات السوق العالمية: كاعتماد سياسة فلاحية سقوية في بلد يعاني شح المياه، أو تكييف قوى الإنتاج مع مستوى أجور متدنية وذات قيمة مضافة منخفضة.

في المقابل، تكفلت الدولة بتغطية الفارق من خلال الخدمات الاجتماعية، الصحة، النقل والتعليم والدعم، لاستدامة ضعف الأجور وتدفق الاستثمار الأجنبي. ارتفعت نفقات الدولة بين 1973 و1984 من 349 مليون دينار إلى 2541 مليون دينار. ما دفعها مجددًا إلى الالتجاء إلى صندوق النقد الدولي، الذي مكنها من وصفته المعتادة: التقشف، ما أدى، إلى جانب أسباب سياسية واجتماعية، إلى انفجار انتفاضة الخبز سنة 1984.

اقرأ/ي أيضًا: الخبز.. "النعمة" المؤثرة في تاريخ تونس

عاشت البلاد إثر ذلك على وقع أزمة مركبة: سياسية، اجتماعية واقتصادية. فبلغت نسبة العجز الاقتصادي[8] 8.6% سنة 1982، صاحبها سقوط اقتصادي/اجتماعي حر أفضى إلى انقلاب 1987، ثم جولة جديدة مع صندوق النقد الدولي سنة 1988، التي تعرف بـ "الإصلاحات الهيكلية الكبرى".

 شهدت فترة التسعينات الحقبة الثانية من "الانفتاح"، فتم التفويت في مؤسسات عمومية وتسريح آلاف العمال، فضلًا عن إبرام اتفاقيات تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، والتي أجهزت على ما تبقى من البنى الاقتصادية المهترئة أصلًا، فيما بقي النظام يعاني أزمة بطالة هيكلية، كما سبق وأشرنا، لم تنزل تحت عتبة الـ 12%، عززها حضور أصحاب الشهادات العليا الذين طالتهم البطالة.

حافظت القبضة الحديدية للنظام على الاستقرار لمدة عقدين انتهيا بانتفاضة 17-14 سنة 2011، بعد أن كانت قد سبقتها مقدمات احتجاجية شعبية: كأحداث الحوض المنجمي 2008 وبن قردان 2009. تكثفت وتيرة التداين بعد الثورة، إذ مرت الحكومة التونسية بجولتين مع صندوق النقد: جولة أولى سنة 2013 بقرض بقيمة 1.4 مليار دولار، وجولة ثانية سنة 2016 بقيمة 2.7 مليار دولار، التي وجهت نحو شراء السلم الاجتماعي بسبب اشتداد العصف المطلبي نتيجة مناخ الحرية الذي ساد.

يعد الاتفاق المرتقب مع صندوق النقد مصيريًا بالنسبة للسلطة الحالية، إذ تتم مفاوضاتها في خضم أزمة اقتصادية لم تشهدها تونس منذ الاستقلال، سبقتها جائحة سياسة وفترة اضطرابات اجتماعية وسياسية حادة، ما يمكن أن يفضي، في حال لم تتم، إلى كارثة اجتماعية وربما سياسية

في مقابل القروض، فرض الصندوق مزيدًا من الإجراءات التقشفية، كضرورة وقف دعم المحروقات للصناعات التحويلية، وهو ما أدى إلى تضاعف سعر الطماطم المركزة 3 أضعاف، وكيس الإسمنت بنحو الضعفين. في المجمل، تدهورت المقدرة المعيشية رغم توجيه القروض نحو النفقات العمومية المتمثلة أساسًا في مصاريف التأجير.

تتجه الحكومة الحالية نحو إعادة تكرار التجربة مع صندوق النقد، في إصرار على تأبيد الفشل، لكن هذه المرة مع جرعة أكبر من "الإصلاحات"، إذ لم يبقَ من وصفة الصندوق إلا رفع الدعم، تقليص كتلة الأجور والتحرير الكلي للسوق. أول الغيث قطرة، تتجه الحكومة نحو اعتماد تعديل جديد لأسعار المحروقات في شهر مارس/آذار 2022 بنحو 3%، بعد أن سبقه تعديلان في آخر شهرين، هو أحد إملاءات صندوق النقد التي صاحبت اتفاق 2016.

عكس ما سبق من اتفاقات، يعد الاتفاق المرتقب مصيريًا بالنسبة للسلطة الحالية، إذ تتم مفاوضاتها في خضم أزمة اقتصادية لم تشهدها تونس منذ الاستقلال، سبقتها جائحة سياسة وفترة اضطرابات اجتماعية وسياسية حادة، ما يمكن أن يفضي، في حال لم تتم، إلى كارثة اجتماعية وربما سياسية، بدأت بوادرها تلوح في اضطراب توزيع المواد الأساسية في الأسواق.



المصادر والمراجع:

[1]  الصالحي، صغير. الاستعمار الداخلي، منظومة التهيمش في تونس. الطبعة الثانية. تونس 2019.

[2] Sophie Bessis. BANQUE MONDIALE ET FMI EN TUNISIE : UNE ÉVOLUTION SUR TRENTE ANS.

[3]  قسومي مولدي. مجتمع الثورة وما بعد الثورة. الطبعة الثانية. دار محمد علي للنشر. ص 63.

[4]  حسب تقرير البنك المركزي حول السنوات المذكورة.

[5] Formation Brute de capital fixe.

[6]  المصدر 2. ص 70.

[7]  من خطاب الهادي نويرة في المؤتمر التاسع للحزب الدستوري الاشتراكي (عن المصدر 3 صفحة 86).

[8]  مرجع 2.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سردية محاربة منظومة الريع في تونس: الخيط الرفيع بين اليوتوبيا والديستوبيا

الدين الخارجي: خرافة "الإفلاس" والسيناريوهات المفترضة من خلال تجارب مقارنة