10-يوليو-2021

تطوّر منسوب العنف مؤخرًا في تونس نحو جرائم أكثر وحشية سنحاول قراءة وتفكيك أسبابها (Getty)

 

زوج يقتل زوجته برصاص الدولة، وآخر يفقأ عينيها، وثالث يذبحها... وغيرهم كثيرون ممن صار عنفهم تجاه شريكاتهم أرقامًا تؤثث النشريات والدراسات، لم تنجح في إيقاظ ضمير الوطن، الذي يعيش بطالة مزمنة، حتى يوقف ما يقترفه أبناؤه تجاه بناته.

حوادث فظيعة وجد بعضها طريقًا إلى هاشتاغات فضاءات التواصل الاجتماعي، بينما نساء أخريات، لا نسمع بهن، غصت صرخاتهن في حلوقهن بين تهاون مسؤولو الصف الأول في النقاط الأمنية وأفراد العائلات هواة الستر والتأليف بين القلوب، لو بالإكراه. هكذا يعامل ما تبقى لنا من الجنة الأرضية يا ألبير كامي.

يوم 16 مارس/آذار 2020، وعندما كانت فرضية إعلان الحجر الصحي العام لا تزال بين الوشوشة والإشاعة، أصدرت المنظمة التونسية للنساء الديمقراطيات بيانًا أعلنت فيه عن تعليق نشاطاتها الحضورية، وحذرت أيضًا من إمكانية ارتفاع منسوب العنف المسلط على النساء إذا ما توجهت الدولة آنذاك نحو إعلان الحجر.

أيام قليلة بعد ذلك، تعالت الصرخات والنداءات نتيجة الارتفاع في حالات العنف المسجلة ضد النساء، أو العنف المنزلي، ما دعا وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن آنذاك لاتخاذ جملة من الإجراءات والتدابير للإحاطة بالضحايا من المعنفات.

وقعت عدة نساء حول العالم بين فكي الوباء في الفضاء العام، والعنف في الفضاء الخاص. وفي تونس تضاعف منسوب العنف المنزلي ما بين 5 و8 مرات مقارنة بأرقام ما قبل الجائحة

لم يقتصر الأمر على تونس، فقد وقعت عدة نساء حول العالم بين فكي الوباء في الفضاء العام، والعنف في الفضاء الخاص. في التقرير السنوي حول العنف 2020 للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يشير الباحثون إلى تضاعف حالات العنف المنزلي المسجلة بين مارس/آذار 2020 وجوان/يونيو 2021: وفق أرقام الوزارة، فإن العنف المنزلي على النساء والأطفال، قد تضاعف 5 مرات. بينما تشير تصريحات ممثلي الجمعيات المتابعة للشأن النسوي، إلى ارتفاع يناهز الـ 8 أضعاف مقارنة بأرقام ما قبل الجائحة.

اقرأ/ي أيضًا: الحجر الصحي لمن يعيشون بمفردهم.. الوضع أصعب!

منذ تعليقه في جويلية/يوليو 2020، لم يقع فرض حجر صحي شامل كما سبق، وصار من المفترض أن تتراجع معدلات العنف المنزلي بانتفاء أسباب ارتفاعها. لكن رغم ذلك، وخاصة في الأيام الأخيرة، لا يزال منسوب العنف مرتفعًا، بل وتطور نحو جرائم أكثر وحشية سنحاول قراءة وتفكيك أسبابها فيما يلي، من خلال أدبيات مختلفة.

في البداية، لا جدال أن للعنف المنزلي، والمسلط على النساء بالخصوص وأيضًا الأطفال، جذورًا راسخة في المجتمعات التقليدية كمجتمعنا حيث ينظر إليه كأحد الميكانيزمات "التأديبية/العقابية" في المجتمعات البطريركية، بالإضافة إلى عدة أسباب أخرى وقع تناولها في أكثر من مقام. ولسنا هنا بصدد إعادة اجترارها. بل للبحث في آثار الجائحة، والإجراءات المصاحبة لها، على الصحة النفسية للأفراد والمجموعات بشكل عام، وما ترتب وسيترتب عنها.

منذ تعليقه في جويلية 2020، لم يقع فرض حجر صحي شامل كما سبق، وصار من المفترض أن تتراجع معدلات العنف المنزلي بانتفاء أسباب ارتفاعها. لكن رغم ذلك، لا يزال منسوب العنف مرتفعًا، بل وتطور نحو جرائم أكثر وحشية

سنة 1936، نشر العالم هانز سايل Hans Seyle ورقة بحثية مع مجلة Nature العلمية حول بروتوكول علمي لدفع الحيوانات، فئران المخابر تحديدًا، نحو الاكتئاب عبر تعريضها لجملة من العوامل غير المباشرة جسديًا، وذلك لتحضيرها لتجربة مضادات الاكتئاب، لفائدة شركات صناعة الأدوية. هذا البروتوكول هو الـ Unpredictable Chronic Mild Stress Protocol (UCMS Protocol)، أي بروتوكول الضغط النفسي البسيط والمستمر وغير المتوقع. كان هذا للإجابة عن سؤال: ما الذي قد يدفع فأرًا للاكتئاب؟ قام العلماء في المختبر بتغيير قفص الفأر، سيء الحظ، نحو قفص جديد. ثم تغيير عدد ساعات نومه والعمد إلى خلق اضطرابات عبر بث تسجيلات لأصوات طيور جارحة باستمرار وفي أوقات غير متوقعة، بحيث يبقى في حالة توتر وترصد مستمر. وعوامل أخرى متعددة: التأثير على توازن القفص، تعتيم وتنوير محيطه في أوقات عشوائية. كل هذه التجارب غير ضارة جسديًا للفأر، وهي تجارب بسيطة لكنها عشوائية وغير متوقعة ومستمرة. النتيجة: إهمال + ذهول + خمول، يعني زيادة في وزن الفأر، إهماله تنظيف نفسه، حالة ذهول مستمرة والنوم لفترات أطول، وبداية ظهور مؤشرات انعدام الشعور باللذة أو الـ Anhedonia. علاوة على ذلك، يؤثر البروتوكول جسديًا على الفأر، فيسبب زيادة في نسبة الكورتيزول، هرمون الضغط أو ما يعرف مجازيًا بـ"الستراس". للإشارة، يؤدي ارتفاع هذا الهرمون عند البشر إلى الإصابة بأمراض القلب والاكتئاب.

اقرأ/ي أيضًا: انفصام الشخصية: مرض مربك يتنامى داخل مجتمع منكر

كما كتب نجيب محفوظ في روايته أولاد حارتنا: "آفة حارتنا النسيان" فآفة بلادنا الارتجال. منذ اللحظات الأولى لبداية "الحرب على كورونا"، لم تكن كلمة رئيس الجمهورية يوم 20 مارس/آذار 2020 واضحة حول إعلان الحجر، ما سبب تململ وتساؤلات عدة واستوجب خروج رئيس الحكومة آنذاك، إلياس الفخفاخ، للتوضيح. كان من البديهي حينها أن تضطرب الأحوال، حيث ليس للحجر، ولا للجائحة، سابقة في التاريخ القريب والمتوسط للبلاد.

منذ الخريف الفارط، عرف المناخ العام أزمة مضاعفة: أزمة صحية واقتصادية + أزمة سياسية. ما أدى إلى تعكر المزاج العام وخلق جوًا من الإحباط واليأس تعبر عنه آخر استطلاعات الرأي، لشهر جوان/يونيو 2021، التي أجرتها سيغما كونساي بالتعاون مع جريدة المغرب، إذ يرى 92.8% من التونسيين أن البلاد تسير في الطريق الخطأ. فيما سبق، أعلن رئيس الحكومة في أكثر من مناسبة، بين سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين، أن الحجر الصحي الشامل ليس حلًا، مكتفيًا بجملة من القرارات تشمل تغيير أوقات العمل ونظام الأفواج للموظفين، التلاميذ والطلبة.

منذ الخريف الفارط، عرف المناخ العام أزمة مضاعفة: أزمة صحية واقتصادية وسياسية، ما أدى إلى تعكر المزاج العام وخلق جوًا من الإحباط واليأس تعبر عنه آخر استطلاعات الرأي

منذ تولي الحكومة الحالية زمام الحكم في الفاتح من سبتمبر/أيلول الفارط، كان عدد الحالات المصابة بفيروس كورونا أقل من 4000 حالة، وتم تسجيل 86 وفاة. أشهر قليلة إثر ذلك، سرعان ما أخذ منحنى الحالات المسجلة والوفيات يتصاعد بشكل حاد ومتسارع ليبلغ عدد الحالات المسجلة، ساعة كتابة هذه الأسطر، ما يقارب الـ 482 ألف حالة، إلى جانب أكثر من 16 ألف وفاة. ما جعلنا جميعًا أمام فيروس خبيث مترصد يبث الخوف بين عشرات الآلاف الذين يستغيثون إما نجدة لقريب أو حبيب، أو طلبًا للتدخل ضد هذا العدوان غير المرئي.

من جهة أخرى، الإجراءات الاعتباطية المستمرة والبسيطة، كحجر الجولان سواء بتأخيره أو تقديمه، التضييقات على حرية التنقل المستمرة أيضًا، والضبابية في التعامل، فيما يقف الأفراد حائرين وعاجزين أمام هذا العبث. هذه العوامل مجتمعة، تجعلنا نخضع جميعًا لبروتوكول الضغط النفسي البسيط والمستمر غير المتوقع والجماعي. هذا دون الحديث عن التبعات الاقتصادية للجائحة على الحالة المعيشية للأفراد والأسر، وما ينتج عنها من تأثيرات نفسية لا تخفى على بصير.

اقرأ/ي أيضًا: 10 حالات انتحار ومحاولات انتحار في تونس في شهر مارس 2021

منذ أشهر تتناقل عديد الصحف العالمية، على غرار الغارديان والنيويوك تايمز ولوفيغارو، تحذيرات مختصين من تأثيرات الإجراءات التي اتبعتها دول هذه الصحف بعد إنهاء الحجر الصحي الشامل فيها، على الصحة النفسية للأفراد. في مقال للغارديان بعنوان "إنهاء الحجر الصحي قد يسبب نوبات القلق للكثيرين"، تحذر رابطات الصحة النفسية في المملكة المتحدة من أن الخضوع للإجراءات الصحية ما بعد الحجر الذي أنهي يوم 29 مارس /آذار 2021 وعوّض بإجراءات مخففة، قد يسبب معدلات مرتفعة للضغط، من نوبات قلق، لدى كثير من الإنجليز، بالخصوص الذين يعانون من مشاكل نفسية.

الإجراءات الاعتباطية والضبابية المستمرة كحجر الجولان سواء بتأخيره أو تقديمه والتضييقات على حرية التنقل المستمرة، تجعلنا نخضع جميعًا لبروتوكول الضغط النفسي البسيط والمستمر غير المتوقع والجماعي

كذلك، حذرت النيويورك تايمز في تقرير لها صادر بتاريخ 17 مارس/آذار 2021، أين حذر المحرر في قسم الصحة بالصحيفة، مات ريشتال، من اضطرابات مشابهة لما ورد بمقال الغارديان إثر فتح الفضاء العام من جديد، باعتبار الإجراءات المصاحبة. صحيفة لو فيغارو هي الأخرى، في تقرير صادر يوم 2 أفريل/نيسان 2021 بعنوان "أصيب الفرنسيون في صحتهم الذهنية"، حيث قال الصحفي شارل ليسكيريي أن 71% من الفرنسيين يتعرضون لضغوط نفسية وكتب في مقدمة تقريره: "عدد الإصابات الإيجابية، الإسعاف، الإنعاش، عدد الموتى، سباق التلقيح، مدى قدرة التلاقيح، حجر، إلغاء الحجر، حضر الجولان على السادسة ثم السابعة مساءً، رخص وبطالة ... طفرات، سلالة بريطانية... يكفي!"

هذه التقارير مجتمعة، مع الموروث المطبع مع العنف بصفة عامة وتجاه النساء بصفة خاصة، يمكن أن يفسر، ولو نسبيًا وفق ضرورات التحفظ العلمي، حالات الهستيريا الوحشية والحوادث الشنيعة التي هزت التونسيين في الأيام الفارطة. قد يبدو الحديث عن الصحة النفسية ضربًا من الترف في بلد إفريقي اصطدم قطار ثورته، المتعثر طبيعيًا، مع جدار من الذوات الصبيانية محافظة من اليسار إلى اليمين. بينما يتخبط الأفراد كل يبحث عن طوق لنجاة فردية، وقد اتفقت الأقدار، داخليًا وخارجيًا، على جعل الحياة مستحيلة على "مريخ التونس الأصفر". فيما تذكرنا خصومة الحكام والسياسيين بالحكاية الشهيرة للمهزلة البيزنطية، عندما كان حكام القسطنطينية يتجادلون حول جنس الملائكة، أذكور أم إناث، فيما سفن وقوات العثمانيين تحيط بهم من البر والبحر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| أخصائية نفسية: "مدبرم".. أو حين يطبّع التونسي مع مرض الاكتئاب

المنظومة الصحية انهارت..هل لا يزال الإنقاذ ممكنًا؟