21-يناير-2022

بن علي نقل تمثال الحبيب بورقيبة إلى حلق الوادي قبل أن يعيده السبسي إلى شارع العاصمة في 2016

 

تصدير: "يا ابن خلدون المدينة أضيق من خطاك

ولكم مررت ببرنسك الحديد 

فساءني زمني 

فاخرج من الوثن الجديد 

واكتب إلى الوثن المقابل ما يليق بحجمه 

قل ما تريد.. هذا حصانك واقف 

والكف من زمن ترحّب بالغريب 

قل ما تريد 

فلنا المدى وله الصديد..."


هذا التصدير الشعري، حبّره الشاعر والمنشقّ "محمد الصغير أولاد أحمد" في السنوات الأخيرة من الحكم البورقيبي وضمّنه سنة 1984 دفتي كتابه الشعري "نشيد الأيام الستّة" الذي عدّ ديوانا عالي الرّاية للمثقفين والطلبة وللمعارضة السياسية في ذلك الوقت، وصادره النظام ومنع توزيعه وبيعه، وقام بسجن الشاعر من أجل انحيازه الشعري المطلق في ذاك الكتاب الشعري لـ"انتفاضة الخبز" التي خاضها الشعب التونسي بكل شجاعة وبأس وراح ضحيتها العديد من النقابيين والمثقفين وسائر المواطنين.

هذا الديوان صودر أيضًا لمضمونه المباشر في هجاء "المجاهد الأكبر" وخاصة المقابلة التي أجراها بين التمثالين: تمثال ابن خلدون، كرمز للفكر والثقافة الحرة، وتمثال الحبيب بورقيبة، كسياسي أراد تخليد مرحلته التاريخية وفق تصور الزعماء الآباء الذين قادوا استقلال شعوبهم رغم الدروب المبلطة بالأخطاء التي سلكها.

ظل تمثال الحبيب بورقيبة ببوابة مدينة حلق الوادي بعيدًا عن الأعين، يغمره النسيان والإهمال طيلة 29 سنة، ليعيده الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى قلب العاصمة في 2016

تمثال الزعيم بورقيبة، يتوسط حديقة ساحة النصر في قلب العاصمة منذ 1978 كرمز للتحرر الوطني الذي بدأت أولى انبلاجاته في غرّة جوان/ يونيو 1955 وهو ما كان يصبو بورقيبة لتثبيته في وعي الأجيال، وراوح التمثال مكانه لما يناهز الثلاثة عقود من الزمن.

 وبعد أيام من "تحول 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987" وتحديدًا في فجر 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، وبتدير سيء من البطانة الجديدة، أمر الرئيس الجديد زين العابدين بن علي بنقله إلى ضاحية حلق الوادي، في إشارة بأن تونس دخلت مرحلة تاريخية جديدة قطعت مع العهد البورقيبي. وفي قراءة نفسية لما حدث، فإن الرئيس الجديد أراد أيضًا كسر الرمزية الطاغية التي يمثلها هذا التمثال في نفوس سائر التونسيين. لقد كان بن على يدرك رمزية التمثال وهو الذي كان يشاهده يوميًا من نافذة مكتبه لمّا كان وزيرًا للداخلية التي لا يبعد مقرها عن النصب سوى بضعة أمتار.

تمثال الحبيب بورقيبة بحلق الوادي قبل إعادته للعاصمة (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

وظل تمثال بورقيبة ببوابة مدينة حلق الوادي بعيدًا عن الأعين، يغمره النسيان والإهمال طيلة 29 سنة، ليعيده الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في 2016 تكريمًا للزعيم وللجمهورية.

هذا التمثال الجميل والبديع، ورغم إثارته للجدل السياسي والفني، والذي لا يفوّت السياح التقاط الصور التذكارية في رحابه، فإن قلّة قليلة كانت تعرف النّحات الذي أنجزه. 

فمن هو صاحب الإزميل؟

تمثال الزعيم بورقيبة من إنجاز النحات الهاشمي مرزوق

 إنه النحّات التونسي "الهاشمي مرزوق" المحرسي الولادة (نسبة إلى المحرس، إحدى مدن الجمهورية التونسية، التابعة لولاية صفاقس)، وخريج مدرسة الفنون الجميلة بتونس. كان شابًا يافعًا عندما فاز بالمسابقة العالمية الخاصة بإنجاز تمثال للزعيم بورقيبة أمام نحّاتين كبار على غرار النحات الفرنسي "ريمون مارتان" والذي أوكل له فيما بعد إنجاز تمثال الزعيم بمدينة صفاقس، وتم وضعه سنة أمام قصر البلدية 1978.

الهاشمي مرزوق، كان يقضّي الساعات الطوال يوميًا بالقاعدة العسكرية بالعوينة، أين منح ورشة خاصة لإنجاز التمثال الضخم تحت إشراف العديد من المسؤولين السياسيين والثقافيين، وكان الزعيم يباغته بالزيارة. وخلال أحد الحوارات التي دارت بينهما في الورشة، قال له بورقيبة "لقد كنت على يقين بأن تمثال العاصمة ستنجزه أياد تونسية..". ويوم تدشين هذا النصب التذكاري، حضر الهاشمي مرزوق وكان يرنو إلى التمثال الشاهق وقد استبدت به مشاعر الفنان المتفوّق الذي رفع العالم إلى مستوى الفرح الكلياني، الكلّي، الأسمى.. لكنه كان لا يعلم أن للتاريخ أحكامه وتدابيره. لقد انجذب النحات إلى حواف السياسة وسجن نفسه في تماثيل الزعيم، فأنجز فيما بعد تمثال جالطة المجود بقلب مدينة طبرقة بأقصى الشمال الغربي، وتمثال القيروان وتمثال آخر بمدينة المنستير.

النحات الهاشمي مرزوق مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة

وفي لحظة ما، فهم الفنان الهاشمي مرزوق أنه تحول إلى "نحات البلاط السياسي" أو "نحات القصر الرئاسي"، فقام بالعودة إلى ورشته وإلى أكوانه الفنية التي تأتيه في الأحلام ولحظات التيه والانسجام مع الذات، وشرع في كتابة الشعر بأزاميله على مواد لطالما أجّل التحام أصابعه بها. فأنجز أعمالًا مدهشة، مغايرة لما دأب عليه من نصب وتماثيل رئاسية.

اقرأ/ي أيضًا: مليّنو المعادن.. مبدعون حوّلوا الخردة إلى فن

مرزوق كان منشَدًا كطفل إلى غرابة الحركة في الأعمال الفنية، كانت تدهشه حد الضياع، إنها عنوان من عناوين الحياة بالنسبة إليه، فهو يرى فيها تغلّبًا على هشاشة الثبات والسّكون والموت. لذلك كانت السيطرة على الحركة ومحاولة مسكها ونحتها، هي البؤرة النفسية التي تتحرك فيها رؤاه الفنية، بل هي الخيط الناظم بين جميع أعمال الفنان النحات الهاشمي مرزوق، إنها هي روح تجربته الخالدة.

النحات الهاشمي مرزوق حاور كل المواد الموجودة على الأرض، الصلب منها والليّن، والتي يمكن لنحات مجتهد أن يحاورها، ورقصت روحه جذلى كلّما سيطر على الحركة وعنفوان الحياة في أعماله المنجزة على امتداد مسيرة 60 سنة من الممارسة النحتية والفنية، أوَ لم يقل مرزوق ذات مرّة إنّ "النحت فعل يومي، بل هو تأسيس شعري بالأزاميل لعالم جديد لا يغير الحياة فحسب، وإنما يزيد في نموها وإغنائها والمسك بيدها، ودفعها في كل الاتجاهات من أجل إشباع ذات المتلقي.."؟.

النحات الهاشمي مرزوق مع إحدى منحوتاته

مرزوق وفي السنوات الأخيرة من تجربته العاتية، انشغل بالمنحوتات ذات الأحجام الصغيرة والبسيطة كزهر الربيع. فإلى جانب إبقائه على خطى قنص الحركة وتنوع المواد، فإن روحه الفنية انتهجت لها خط ما يُعرف بـ"الإبهاج البرقي"، فبمجرد أن يجول بصرك حول المنحوتة وأن تطوف حولها لمرة واحدة وبسرعة برقية، تشعر أن العمل منحك نشوة داخلية قلّما يمنحك إياها عمل فني آخر. فيخطفك نحو أصالته ويدفعك نحو الحياة متجددًا ومسرورًا بالعطر المنظور.

إن تجربة الفنان النحات الهاشمي مرزوق ذات الكيان الخاص، كانت تخطيًا يدفع نحو التخطي، وتأسيسًا لمسار تشكيلي مختلف عن المسارات الفنية لأبناء جيله، لقد حاول هذا النحات ألا يكون انطباعيًا قدر المستطاع، وألا يكون نهرًا عابرًا، بل نهرًا عميقًا باقيًا.

لم تحظ تجربة الهاشمي مرزوق بالعناية اللائقة، وتم إقصاؤها طيلة الفترة النوفمبرية، وهي في حقيقة الأمر تجربة مختلفة ورائدة، وقابلة لشتى أنواع القراءات.

النحات الهاشمي مرزوق مع إحدى منحوتاته

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| عبد العزيز كرّيد: النحت بيت كل الفنون ولهذا شاركت في نصب شهداء السيجومي