16-مايو-2022
Getty

باحث في علم ما وراء علم النفس: شبكات خفية تعمل لصالح هؤلاء المشعوذين وتروج لـ"بركاتهم" (صورة توضيحية/ getty)

 

"عجز الطب عن شفائي فكان الطب الروحاني ملجئي" هكذا كانت كلمات "ه.ع" (35 سنة) في حديثها عن تجربتها الاستشفائية مع عدد من "الروحانيين" التي اعتقدت أن العصا السحرية في ثنايا وصفاتهم، حسب ما روته لـ"الترا تونس".

ثقافة الالتجاء للدجل والسحر والشعوذة و"الرعواني" من التقاليد الراسخة عند التونسي، وآلاف الضحايا يرتادون هذا النوع من المحلّات، ويُسحرون بهذا الوهم رغم مستواهم التعليمي ووضعيّتهم الاجتماعية المرموقة

تعاني "ه.ع" من مرض جلدي مزمن أثّر على حياتها وحتى علاقاتها. بقع سميكة وقشرية على الوجه، جلد جاف ومتصدّع ونازف وحكة مزعجة تترافق مع الألم.. هي أعراض أرّقت محدّثتنا وجعلتها تطرق أبواب جلّ أطباء الأمراض الجلدية في بلدتها بحثًا عمّا يثقل يومها ويؤرّق ليلها، ولكنّ ما استعملته من مراهم وكبسولات لم تخفّف وطأة ألمها، فحتى إن غابت الأعراض أو اختفت جزئيًا فإنها تعود للظهور من جديد.

استسلمت "ه.ع" لمرض "الصدفيّة" وعاشت حالة من الاكتئاب التي جعلتها في حالة انزواء هربًا من أعين المتطفّلين. وفي غمرة يأسها، اعترضتها في أحد المجموعات تدوينة لامرأة متخفيّة تحت أحد الحسابات الوهمية تقوم فيها بالدعاية لأحد "الأطباء الروحانيين" الذي يبرئ الْأَكْمهَ وَالْأَبْرَص ويقرّب الحبيب ويثبّت المضغة في أرحام العاقر. وانطلقت محدّثتنا بشغف تقرأ كل التعليقات وكانت أغلبها شهادات لنساء نجح في شفائهنّ.

"ه.ع" (35 سنة) تقول لـ"الترا تونس" إنه اعترضتها تدوينة لامرأة متخفيّة تحت أحد الحسابات الوهمية تقوم فيها بالدعاية لأحد "الأطباء الروحانيين"، وحين تواصلت معها كانت "الصدمة"، إذ أخبرتها بأنه يعالج باستعمال "المنيّ الطاهر"

"تخمّرت بما قرأت وانفتح باب الأمل من جديد، فتواصلت مع صاحبة الحساب وكانت الصدمة" هكذا عبّرت "ه.ع" لـ"الترا تونس" عن الهلع الذي أصابها عندما هاتفت صاحبة التدوينة التي أخبرتها أنّ هذا الطبيب المزعوم يعالج باستعمال "المنيّ الطاهر" وأعطتها شروط المقابلة التي جعلتها تغلق الخط دون رجعة.

مرّ على حادثة "ه.ع" سنتان ولا تعرف إن كان المعني بالأمر المشعوذ "بلقاسم" أم غيره من "بلقاسمات" وهم كثر في مجتمعنا التونسي، فثقافة الالتجاء للدجل والسحر والشعوذة و"الرعواني" من التقاليد الراسخة عند التونسي.

"ه.ع" هي واحدة من آلاف الضحايا الذين يرتادون هذا النوع من المحلّات، ورغم مستواهم التعليمي العالي ووضعيّتهم الاجتماعية المرموقة، فإنهم يُسحرون بهذا الوهم.

ما هي دوافعهم؟ ما رأي الدين في هذه المسائل؟ ما حكم "التداوي بالقرآن"؟ وما الفرق بين الراقي والدجّال؟

أسئلة يجيب عنها "الترا تونس" في هذا التقرير:

السحر والشعوذة هي لعبة نفسية

يعرّف الباحث في علم ما وراء علم النفس (para-psychologie) كريم الماجري السحر والشعوذة، على أنه لعبة نفسية يعتمدها الدجّالون على مرضى الاكتئاب الباحثين عن أمل ينقذهم، مشيرًا إلى أن الشعوذة هي "البنية التحتية" للساحر، وأن علم النفس يقرّ بوجود ثلاثة أنواع من السحر: سحر المشاعر (الحب، الكراهية..)، وسحر ترفيهي (illusion) وسحر أسود.

ويضيف كريم الماجري أن المشعوذ يحلّل الشخص عن طريق الأسئلة المغلقة معتمدًا طريقة شيطانية لمعرفة سبب مجيئه، وعادة ما تكون إما مشاكل مادية أو عقم أو تأخر زواج.. على حد تعبيره.

كريم الماجري (باحث في علم ما وراء علم النفس) لـ"الترا تونس": التأثيرات النفسية الاجتماعية هي التي تسمح للمشعوذ بأن يؤثر على الشخص الذي أمامه، كما يستعمل الحيلة والتنويم المغناطيسي بأنواعه

وعن الأساليب التي يعتمدها أصحاب هذه المهنة يقول محدّثنا: "التأثيرات النفسية الاجتماعية (psychosociale) هي التي تسمح للمشعوذ بأن يؤثر على الشخص الذي أمامه، كما يستعمل الحيلة والتنويم المغناطيسي بأنواعه، وبدهائه وبراهينه المكذوبة يؤثر عاطفيًا على ضحاياه. وعادة ما يعمل بطريقة تشهيرية، وهناك شبكات خفية تعمل لصالحهم وتروج لـ'بركاتهم'"، وفقه.

أما عن الدوافع والأسباب التي تجعل الناس تلتجئ للعرافين، يؤكد محدثنا أن الأمر مرتبط أساسًا بالحالة النفسية للشخص، كبعض حالات الاكتئاب، والسنّ، ونظرة المجتمع، وتأثير العائلة، وفقدان الثقة في النفس والتراكمات.. مضيفًا أن تعامل المشعوذ يختلف عندما يكون زبونه رجلًا.

ويختم الاخصائي النفسي حديثه قائلًا إن "ضعف الإيمان، والفجوة الكبيرة بين الناس والدين هي التي جعلت للناس هذه الهشاشة النفسية التي جعلتهم يلجؤون للمشعوذين".

الشيخ محمد بن حمودة: "من يستعمل القرآن لمداواة الناس هو محتال ومتاجر بالدين"

يؤكد الشيخ محمد بن حمودة أن الخرافات والأوهام والخزعبلات أخطر الأمور التي من الممكن أن تتسلل لحياة المسلمين لأنها تؤدي إلى الانحرافات، سواء في السلوك أو العقيدة، مضيفًا أن "الطامة الكبرى تقوم عندما يصبح الخوف من المشعوذ والولي الصالح والجنّ والشياطين أكبر من الخوف من الله".

ويقول الشيخ بن حمودة إن هذه الممارسات هي "متاجرة بالدين وجهل ودجل وتحيّل واستغلال لبساطة الناس وطيبتهم وخوفهم من الغيبيات"، على حد قوله.

محمد بن حمودة (شيخ) لـ"الترا تونس": الرقية الشرعية والتداوي بالقرآن، استبلاه للناس وأكل للأموال بالباطل، فالإسلام جاء ليلغي الواسطة بين العبد وربه

وعن الرقية الشرعية والتداوي بالقرآن، يشدد محدثنا أنها استبلاه للناس وأكل للأموال بالباطل "فالقرآن شفاء لما في الصدور ولما في العقول كما أن الإسلام جاء ليلغي الواسطة بين العبد وربه".

واستشهد الشيخ بن حمودة بالرسول محمد صلى الله عليه قائلًا: "قال رسولنا الحبيب بأنه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسّه سوء، فرسولنا لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فما بالك بالذين يدّعون معرفة العلم السفلي وعلم الأبراج وعلم الملائكة؟".

وعن الفجوة القائمة بين الناس والدين يقول محدثنا: "أمام الجهل والغباء، لا يمكن لرجل الدين أن يفعل شيئًا، ومن الضروري تدخّل علماء النفس والاجتماع لإنقاذ الناس من هذه الأوهام التي تفسد عقائدهم".