02-أبريل-2022
البلفيدير ويكيبيديا

منتزه "البلفيدير" هو معلم تاريخي شهد عدّة أحداث طبعت تاريخ تونس الحديث

 

إنها نهايات النصف الأول من القرن العشرين، الحياة حينها لا تنبئ إلا بجحيمية الحرب الكونية والسماء لا تمطر غماماتها إلا خوفًا من تلك الحرب. ألمانيا النازية تواصل غزوها الحثيث للعالم، والمستعمرات الأوروبية بمختلف القارات بدأت هي الأخرى تعيش هواجس الحرب العالمية الثانية.

 تونس المستعمرة الفرنسية في شمال إفريقيا بدأ أهلها يستعدون لاستقبال فصل عنيف من محاور الصراع بين المحور والحلفاء. إنها أواخر سنة 1941 عندما حلّت قوات العسكرية ضخمة على أرضها من كليْ الطرفين...عندها أيقن التونسيون أن شتاءهم سيكون مزهرًا بالحرب والعسكر وأن رائحة البارود ستكون بديلًا لشميم الربيع القادم من أعالي الشمال.

"البلفيدير" أو "جنان بنت الرّي"، حسب الرواية الشعبية المتداولة إلى اليوم، كان منتزهًا على ملك آخر والٍ بيزنطي حكم تونس وهو "جرجير" وقد قتل في القرن السابع إبان الفتح الإسلامي لأرض إفريقية

في الأثناء، كان الجنرال الألماني الشهير إرفين رومل الملقب بثعلب الصحراء قد أعطى أوامره العسكرية إلى قواته بالأراضي التونسية للمسارعة بالسيطرة كليًا على هضبة "البلفيدير" بالعاصمة تونس وجعلها قاعدة خلفيّة أساسية. وفي وقت وجيز تنقل القائدان العسكريان هانس يورغن فون أرنيم وأودولف فيتيسك إلى منتزه "البلفيدير" وأشرفا على عمليات حفر أنفاق في عمق المنتزه بطول مئات الأمتار وبناء مخابئ ومقر للقيادة العسكرية الألمانية بتونس مصمم بهندسة تقي من القنابل والقصف المدفعي. لقد اختار الألمان هذا المكان المنتزه بعناية فائقة وقاموا بإغلاقه أمام الزوار.

انتهت الحرب وبقيت تلك الآثار شاهدًا من شواهد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم تضفي قيمة رمزية وتاريخية للمنتزه العتيق لكنها منسية وغير ممنوحة لزوار المكان.

بلفيدير
تمثل حديقة "البلفدير" رئة العاصمة تونس ومتنفسها البيئي والحضري (جمعية أحباء البلفيدير)

"البلفيدير" أو "جنان بنت الرّي"، حسب الرواية الشعبية المتداولة إلى اليوم، كان منتزهًا على ملك آخر والٍ بيزنطي حكم تونس وهو "جرجير" وقد قتل في القرن السابع إبان الفتح الإسلامي لأرض إفريقية وكان قد خصصه لابنته للتنزه والتريض لما يحويه من زياتين وكروم. و"الرّي" هي كلمة إسبانية تطلق على الحاكم.

وظلت الربوة ملاذًا لسكان مدينة تونس طيلة قرون حكم الباشوات والبايات العثمانيين، يخرجون إليها في أيام الربيع من باب العسل وباب سيدي عبد السلام وباب الخضراء.

لكن خلال فترة الاستعمار الفرنسي لتونس وبقرار صادر من المجلس البلدي في سنة 1892 تم اختيار ربوة البلفيدير لموقعها الاستراتيجي ومتاخمتها للحي الأوروبي الجديد من أجل تحويلها إلى منتزه عمومي على شاكلة المنتزهات الأوروبية، فتمت دعوة كبير بستانيي بلدية باريس ومصمم الحدائق الشهير "جوزيف دي لافوركد" وتكليفه بالتصميم والإشراف على تنفيذ هذا المشروع الحضري الضخم. وكانت بلدية العاصمة قد أعدت حديقة تجريبية سنة 1891 من أجل تزويد المشروع بالأشجار ونباتات الزينة والورود التي سيقع استعمالها في المشروع.

المصمم الفرنسي جوزيف دي لافوركد اقترح أن يكون المنتزه على شاكلة المنتزهات الإنجليزية وحددت مساحته بـ13 هكتارًا وتم تسويره، وجعل بوابتيْن تؤديان إليه صنعتا من الحديد المطروق يدويًا مازالتا موجودتيْن إلى اليوم

المصمم الفرنسي جوزيف دي لافوركد وبعد اطلاعه على جغرافيا وطبيعة المكان اقترح أن يكون المنتزه التونسي على شاكلة المنتزهات الإنجليزية وحددت مساحته بـ13 هكتارًا وتم تسويره، وجعل بوابتيْن تؤديان إليه صنعتا من الحديد المطروق يدويًا مازالتا موجودتيْن إلى اليوم لكنهما تعرضتا إلى الإهمال ولم تغلقا لسنوات وذلك بعد أن فتح المنتزه أمام مرور السيارات من أجل فك الاختناق المروري الذي أصبحت تعيشه العاصمة تونس خلال العقود الأخيرة.

بلفيدير
تم جلب حوالي 80 صنفًا من الأشجار النادرة (جمعية أحباء البلفيدير)

خلال فترة التصميم، طلب المصمم الفرنسي جملة من الأشجار التي تتواءم مع المناخ التونسي فتم جلب حوالي 80 صنفًا من الأشجار النادرة التي تدخل تونس لأول مرة عبر تاريخها الزراعي وذلك من أجل إكساء الحديقة وتجميلها، فمن أستراليا تم جلب نوع جديد من الأوكاليبتوس والفيكيس. ومن أمريكا الشمالية تم إحضار ما يعرف بنخيل واشنطن ونوع نادر من برتقال الأورنج. ومن أمريكا الجنوبية تم جلب شجر الجاكرندا والثنيس. ومن القارة الآسيوية حضرت أشجار البيتوسبوروم والتوبيرا. ومن إيطاليا تم شراء شجر السرو. ومن الشام استُقدم شجر الجودي. وكل هذا الرصيد النادر من الأشجار مازال موجودًا إلى الآن، لكنه منسي وغير مشذب وغير مثمن وغير معرف به لزوار المنتزه.

طلب المصمم الفرنسي جملة من الأشجار التي تتواءم مع المناخ التونسي فتم جلب حوالي 80 صنفًا من الأشجار النادرة التي تدخل تونس لأول مرة عبر تاريخها الزراعي وذلك من أجل إكساء الحديقة وتجميلها

تم الانتهاء من أشغال تهيئة منتزه البلفيدير سنة 1897 لكنه بقي مغلقًا لمدة عشر سنوات وذلك حتى تنمو الأشجار ويشتد عودها وأيضًا لاكتمال بعض المنشآت والملاحق. وتم التدشين رسميًا سنة 1910، ومنذ ذلك الحين يعتبر منتزع البلفيدير رئة العاصمة ومتنفسها البيئي والحضري. وإلى اليوم يعد أفضل مكان للنزهة بالنسبة إلى سكان العاصمة تونس فملايين الزوار يحلّون به سنويًا.

بلفيدير
المهندس الفرنسي صمم بحيرة بمساحة 3500 متر وعمق متر واحد (ويكيبيديا)

وفضلًا عن الأشجار الوارفة والمتناسقة والأزهار الزاهية، فإن المهندس الفرنسي صمم بحيرة بمساحة 3500 متر وعمق متر واحد وجعل بها جزيرة تحتوي على مقهى أضيف إليه مركب ألعاب للأطفال وهو فضاء ملهم وبديع تأتيه العائلات والكتّاب والعشّاق.

أما حديقة الحيوانات التي تعد من أبرز فضاءات المنتزه فقد بعثت إثر الاستقلال وتحديدًا نهاية الخمسينات وافتتحت رسميًا سنة 1963. ويوجد بها حوالي 1200 فصيلة حيوانية منها 53 نوعًا من الثدييات و98 نوعًا من الطيور و10 أنواع من الزواحف. وقد وقع اقتناؤها من القارات الخمس وتخضع للمراقبة الطبية البيطرية يوميًا على عين المكان.

وتشهد الحديقة زحمة عائلية في أيام العطل والأعياد من أجل التريّض والتنزه والتقاط الصور التذكارية مع الحيوانات مثل الأسود والنمور البيضاء والفيلة والغزلان والكركدن والدلافين والفقمات والبطاريق.

فضلًا عن الأشجار الوارفة والمتناسقة والأزهار الزاهية، فإن المهندس الفرنسي صمم بحيرة بمساحة 3500 متر وعمق متر واحد وجعل بها جزيرة تحتوي على مقهى أضيف إليه مركب ألعاب للأطفال

وحسب إحصائيات محينة لبلدية العاصمة، فإن مليون زائر سنويًا تسجلهم شبابيك الدخول لحديقة الحيوانات وهو ما يعكس أهمية هذا الفضاء في وجدان العائلة التونسية التي تتوارث حب هذا المكان والالتزام بزيارته فقط لأن الأجداد كانوا يزورونه قديمًا، إنها نوستالجيا المكان في أبهى تجلياتها.

"الكازينو" هو واحد من معالم المنتزه تم تشييده في أعلى الهضبة ليكون فضاءً للثقافة والفن وقد عرف في بداياته عدة حفلات موسيقية لكبار المطربين التونسيين مثل على الرّياحي وعليّة والهادي الجويني والهادي القلال وأحمد حمزة ونعمة.

كما غنى بالكازينو المطرب فريد الأطرش والفنان الفرنسي الكبير جاك برال. واستقبل هذا الفضاء ذو الطراز المعماري الإسلامي الأندلسي الإيطالي معارض فنية لكبار الرسامين العالميين مثل بيكاسو وميرو وذلك فضلًا على الرسامين التونسيين مثل الزبير التركي والهادي التركي وعبد العزيز القرجي وعمار فرحات، وغيرهم.

وفي سنة 1989، تم التفويت في هذا الفضاء الثقافي الهام إلى وزارة الدفاع الوطني الذي حولته إلى نادي الضباط، وتحويل الأنشطة الثقافية والفنية إلى ما يعرف اليوم بـ"دار الفنون" ومقرها أسفل المنتزه قرب البوابة الشرقية.

"منتزه البلفيدير" قد يبدو لناظره فضاءً بيئيًا رحبًا قد يغري بالتنزه وممارسة الرياضة أو حديقة للحيوانات أو مقهى يلتقي فيه العشاق. لكنه في جوهره يعتبر معلمًا تاريخيًا شهد عدّة أحداث طبعت تاريخ تونس الحديث

إن "منتزه البلفيدير" قد يبدو لناظره فضاءً بيئيًا رحبًا قد يغري بالتنزه وممارسة الرياضة أو حديقة للحيوانات أو مقهى يلتقي فيه العشاق. لكنه في جوهره يعتبر معلمًا تاريخيًا شهد عدّة أحداث طبعت تاريخ تونس الحديث، وكل ركن فيه يروي قصصًا اجتماعية وثقافية وفنية لا تحصى ولا تعد. وغطاؤه الأخضر يتسم بندرة الأشجار والأزهار. وبالتالي وجب المحافظة عليه وصيانته وإنقاذ رصيده التراثي من النهب والإهمال وتعهده بالصيانة المستمرة والدورية وفي اعتقادي فإن ذلك يعتبر من صميم أدوار البلدية والمجتمع المدني تجاه هذا المنتزه المَعلم.

وما تقوم به "جمعية أحباء البلفيدير" التي تأسست سنة 1989 من محافظة على التوازن البيئي داخل المنتزه وتأسيسها لمكتبة خضراء ووضع علامات إرشادية حول الكساء الغابي والنباتي والقيام بعدة أنشطة بمناسبة عيد الشجرة، يعد أمرًا غير كاف لأن حجم الإهمال وترك صيانة المنتزه لسنوات يتطلب وضع استراتيجيا وطنية عاجلة لإنقاذ المنتزه التاريخي حتى يبقى رئة للعاصمة التونسية ومتنفسًا للأجيال.