26-فبراير-2022

لم يتجاوز عدد المشاركين حتى الآن عتبة الـ2.2% من مجموع ما يقارب 9 ملايين نسمة (صورة توضيحية/ Getty)

 

"نحن أتينا إلى هنا ليس كغزاة بل كمحرّرين، لنرجع سيطرة هذه المدينة إلى الشعب." هكذا خاطب "بين" سكان غوثام في فيلم "عودة فارس الظلام (2012)" للمخرج كريستوفر نولان. "نحن نأخذ غوثام من الفاسدين، من الأغنياء، من الأجيال الظالمة الذين وعدوكم بفرص أسطورية، ونحن نعيدها إليكم، إلى الشعب. غوثام ملككم، ولا أحد سيتدخل، أفعلوا ما يحلوا لكم". بناء على ازدواجية الـ"هم"-الأشرار والـ"نحن" الأخيار، يمكن تصنيف خطاب "بين" في خانة الشعبوية، الثورية تحديدًا، كونه كان له من النزاهة والشجاعة أن عادى المنظومة، التي يحرسها باتمان، من الخارج، عوض التسلل داخلها وبقواعدها، ثم الانقلاب على أصحابها والاستئثار بها لنفسه.


أكثر من 40 يومًا مرت على انطلاق "الاستشارة" التي أعلن عنها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2021، والتي كانت فاتحة خارطة طريقه التأسيسية نحو اكتساب شرعية موازية، بعد أن قوّض أهم أركان شرعيته الانتخابية: الدستور. ورغم التحشيد الرسمي، تكريس أجهزة وموارد الدولة وتحرّك أنصار قيس سعيّد في الجهات، لم يتجاوز عدد المشاركين حتى الآن –ساعة كتابة هذه الأسطر– عتبة الـ2.2% من مجموع ما يقارب 9 ملايين نسمة، حسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء. 

لوّح سعيّد مرارًا عبر الإشارة والإيحاء عن توجهه نحو استعمال وسائل الاتصال الحديثة للحوار الذي يَفترض إجراءه مع "الشعب". إلا أنه، وعكس ما يبدو من استعداد وإعداد، لم تخلُ عملية "الاستشارة" من تجاوزات تقنية وشكلية، وحتى جزائية

منذ أشهر تعود إلى ما قبل تعليق أعمال البرلمان، لوّح سعيّد مرارًا عبر الإشارة والإيحاء عن توجهه نحو استعمال وسائل الاتصال الحديثة، حسب توصيفه، للحوار الذي يَفترض إجراءه مع "الشعب"، في إطار المقاربات الجديدة التي تطلبها المرحلة الجديدة في التاريخ. إلا أنه وعكس ما يبدو من استعداد وإعداد، لم تخلُ عملية "الاستشارة" من تجاوزات، بين تقنية وشكلية، فضلًا عن المخالفات الجزائية التي ارتكبت من طرف من يدعون لها. 

  • "الاستشارة" غير موجودة قانونًا 

لا يزال التوصيف الاصطلاحي للعملية المشار إليها بـ"الاستشارة" محل تذبذب مفاهيمي بين الأوساط الحكومية والإدارية. في حين تشير التسمية الرسمية على موقع المنصة، e-istishara، إلى عبارة "الاستشارة الوطنية"، يصر سعيّد، وبودن، على استعمال عبارة "الاستفتاء الإلكتروني". يحيل هذا التردد الاصطلاحي إلى ما يحمله السياق العام الذي وردت ضمنه من تناقض: فإن كانت استشارة، فذلك يعني أنها مجموعة من الآراء لا تلزم طالب الرأي، وإن كانت استفتاء، فهذا يعني أن ما سيترتب عنه هو قرار مباشر من الشعب.

اقرأ/ي أيضًا: جمعيات: الاستشارة الإلكترونية لا تعكس تعددية المواقف ولا تحمي المعطيات الشخصية

لا يزال التوصيف الاصطلاحي للعملية المشار إليها بـ"الاستشارة" محل تذبذب مفاهيمي بين الأوساط الحكومية والإدارية. في حين تشير التسمية الرسمية إلى عبارة "الاستشارة الوطنية"، يصر سعيّد على استعمال عبارة "الاستفتاء الإلكتروني"

طبعًا الاستفتاء يفترض أمرًا رئاسيًا منظمًا سابقًا له، وهو ما ليس موجودًا، إذ أن هذه "الاستشارة" ليس لها أي أثر قانوني في الرائد الرسمي للبلاد أو أي نص تشريعي. بغضّ النظر عن النتيجة المعلنة مسبقًا يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2021 والمتمثلة في الاستفتاء والانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها في شتاء 2022، وبافتراض النزاهة في نتائجها والتي لا نرى لها وجاهة، فإن المخاتلة في التوصيف الاصطلاحي تحيل إلى فرضيتين: فإن كانت النتائج على هوى طالب الرأي، فهو استفتاء شعبي، وإن تعارضت النتائج مع خارطة الطريق المعلنة، فهي استشارة ولصاحب القرار الكلمة الأخيرة. 



من جانب آخر، يطرح تمويل هذه "الاستشارة" عديد نقاط الاستفهام. بديهيًا، لا يمكن تخصيص موارد مالية من ميزانية الدولة لمشروع ما، دون أن يكون لهذا المشروع أثر قانوني يضبطه. عند سؤاله عن تمويل "الاستشارة"، أجاب المكلّف بوزارة الشباب والرياضة كمال دقيش أن كل وزارة خصصت ميزانية لـ"الاستشارة" ضمن مجال تخصصها.

حسب هذه الإجابة، وعملًا بقواعد العمل الإداري والمحاسبي، كان من المفترض أن نجد هذه الميزانيات المصغرة التي تمت الإشارة إليها في قانون الميزانية، وهو ما لم نجده في مرسوم قانون المالية 2022. منطقيًا، يعني هذا أن كل وزارة ستقوم بتحويل مبلغ ما كان مرصودًا لنشاط ما مذكور في الميزانية، نحو تمويل "الاستشارة"، أو أن تمويلات من خارج الميزانية قد تم رصدها. وهذا وجه من أوجه فساد التصرف في المال العام، ولو كان شكليًا، حتى الآن.

 الاستفتاء يفترض أمرًا رئاسيًا منظمًا سابقًا له، وهو ما ليس موجودًا، إذ أن هذه "الاستشارة" ليس لها أي أثر قانوني في الرائد الرسمي للبلاد أو أي نص تشريعي

بالإضافة إلى تسخير أجهزة ومؤسسات الدولة، لخدمة مشروع سياسي، كدور الشباب، صدرت منذ أسبوعين مذكرة عن إدارة الخطوط التونسية تدعو فيه منظوريها إلى المساهمة في إنجاح "الاستشارة"، ما ينفي صفة الحياد المدسترة عن الدولة وأجهزتها.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..

عرضًا نشير إلى الفصل 96 من المجلة الجزائية: "يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو (..) استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات...". كذلك، تجدر الإشارة إلى الفصل 52 من القانون الانتخابي الذي ينص على حياد الإدارة في حالتي الانتخابات والاستفتاء. 

يطرح تمويل هذه "الاستشارة" عديد نقاط الاستفهام. بديهيًا، لا يمكن تخصيص موارد مالية من ميزانية الدولة لمشروع ما، دون أن يكون لهذا المشروع أثر قانوني يضبطه

  • المرور إلى السرعة القصوى: استغلال الشباب القصّر 

رغم أنه لم يكن مستبعدًا، تفاجأ المشرفون على "الاستشارة"، ومن ورائهم السلطة السياسية، بنسبة الإقبال الضعيفة، فبادروا إلى تخفيف شروط المشاركة كإلغاء شرط ضرورة تطابق تسجيل شريحة الهاتف مع رقم بطاقة التعريف الوطنية للمشارك.

فضلًا عن الإشكالات التقنية التي تحوم حول إمكانية المشاركة أكثر من مرة، فإن إلغاء شرط تطابق رقم بطاقة التعريف الوطنية يذكرنا بتجارب سابقة وقع فيها "استغلال" المعطيات الشخصية للمواطنين –والمتوفرة لدى مؤسسات الدولة- في جمع التزكيات لمترشحين للانتخابات أو رصد تبرعات مالية لهياكل سياسية بأسماء مزيفة قد تعود في بعض الحالات لأشخاص متوفين. 

رغم ذلك، ظلت نسبة المشاركة في مستوى محتشم، ما دفع المشرفين، إلى توسيع دائرة المشاركة لتشمل التلاميذ الذين تفوق أعمارهم 16 سنة باستعمال رقم تسجيلهم في المنظومة التربوية (المعرّف). 

فضلًا عن الإشكالات التقنية التي تحوم حول إمكانية المشاركة أكثر من مرة، فإن إلغاء شرط تطابق رقم بطاقة التعريف الوطنية يذكرنا بتجارب سابقة وقع فيها "استغلال" المعطيات الشخصية للمواطنين 

اقرأ/ي أيضًا: تشريك من هم دون 18سنة ودعم المؤسسات العمومية..جدل الاستشارة الإلكترونية متواصل

من الناحية الأكاديمية ووفق ضوابط البحث العلمي، وإذا كانت العملية القائمة "استشارة"، فإن جميع المواثيق الدولية، التي أمضت عليها تونس كإعلان هيلسينكي وكود نورمبرغ، تمنع استخراج المعلومات من القصّر دون موافقة مكتوبة من الوالدين. 

أما من الناحية السياسية، وإذا كانت استفاءً، فإن الفصل 36 من الاتفاقية الأممية لحقوق الطفل والتي صادقت عليها تونس سنة 1991 ينص على أن الدول الأطراف تحمي الطفل من سائر أشكال الاستغلال الضارة بأي جانب من جوانب رفاه الطفل. ويقصد بالطفل على معنى المجلة التونسية لحماية الطفل: "كل إنسان عمره أقل من ثمانية عشر عامًا، ما لم يبلغ سن الرشد بمقتضى أحكام خاصة". 

من الانتهاكات المسجلة أيضًا في الدعاية للمشاركة في "الاستشارة"، وعلاوة على ما سبق، توظيف المؤسسات التربوية والجامعية في الدعاية، على غرار ما تم بثّه في مواقع التواصل الاجتماعي من حملات في المعاهد والجامعات، وهو ما يحجّره الفصل 53 من القانون الانتخابي: "يحجّر توزيع وثائق أو نشر شعارات أو خطابات متعلقة بالدعاية الانتخابية أو بالاستفتاء وذلك مهما كان شكلها أو طبيعتها بالإدارة والمؤسسات والمنشآت العمومية، من قبل رئيس الإدارة أو الأعوان العاملين بها أو منظوريها أو الموجودين بها".

من الناحية الأكاديمية ووفق ضوابط البحث العلمي، وإذا كانت العملية القائمة "استشارة"، فإن جميع المواثيق الدولية التي أمضت عليها تونس تمنع استخراج المعلومات من القصّر دون موافقة مكتوبة من الوالدين

يذكر أنّ نقابات تربوية، كالفرع الجامعي للتعليم الثانوي بقبلي، عبرت عن استهجانها ورفضها لدعوة السلط الجهوية المديرين لحثهم على الدعاية للاستشارة الوطنية داخل المؤسسات التربوية ودعوة التلاميذ إلى المشاركة فيها. 

اقرأ/ي أيضًا: دعوات "للدعاية" للاستشارة بالمعاهد.. نقابة ترفض "توظيف مؤسسات التربية سياسيًا"

يراهن الكثير من معارضي سعيّد على نسبة ضعف المشاركة للتدليل على فشل خارطة الطريق في أوّل خطواتها. وكأن ذلك سيردعه عن المضي قدمًا فيما بدأه. النتيجة معلومة مسبقًا، أي تم الإعلان عن نتائج الاستشارة يوم الإعلان عنها، وليست إلا فصلًا من فصول مسرحية لعبة الدكتاتور The Dictator game، كسائر استفتاءات العالم الثالث. أما بخصوص البرلمان القادم، ومهما كان موعد انطلاقه وصلاحياته، فالمرجح أنه لن يخرج عن سلطة صاحب الأمر. 

في نهاية الفيلم، عودة فارس الظلام، يسأل باتمان "بين" عن مكان جهاز تفجير القنبلة عن بعد: "أخبرني أين خبأته، مؤكد أنك لن تعطيه لأي مواطن عادي" فهل يتوقع أن بعد كل هذا، بعد الخروقات الدستورية والتجاوزات القانونية والانتهاكات الأخلاقية، أن تقع الثمرة، ونعني البرلمان القادم، بيد المعارضين؟ حتى لا نقع في النفي القاطع لأمر لم يقع، فالإجابة الأرجح هي: مستبعد جدًا. 


 

اقرأ/ي أيضًا:

الأمية الرقمية: هل تعمّق "الاستشارة الإلكترونية" عزلة المهمشين في تونس؟

بعد نتائج "استشارة الرئيس".. سياسيون ونشطاء: نسب لا تليق إلا بأنظمة الاستبداد