24-نوفمبر-2021

عندما يتعدّد المتكلّمون باسم الشعب يمكن في هذه الحالة أن نتساءل من هو هذا "الشعب" الذي يتحدّث باسمه "وسطاء" عديدون (Getty)

 

تطرح هذه السلسة من المقالات التحوّلات السياسيّة في تونس في علاقتها بالاتّصال (الصحافة والميديا والاتّصال السياسي...) بعد 25 جويلية الذي يمثّل منعرجًا حاسمًا في الحياة السياسيّة وفي مسار الانتقال السياسي. ويتعلّق الأمر كذلك بفهم هذه الأحداث من منظور آخر غير قانوني وهو المنظور السائد في النقاش العام، مما قد يساعدنا على أن نفهم أكثر أيضًا علاقة التونسيّين بالسياسة...


ولعلّ أول المواضيع التي تستحقّ أن تطرح هي بلا شكّ مسألة تمثيل التونسيّين خارج زمن الانتخابات، بعد أن يكون التونسيّون قد اختاروا من يحكمهم ويشرّع لهم القوانين في وقت تمّ فيه تعليق اختصاصات البرلمان.

يسعى كلّ الفاعلين السياسيّين إلى التأثير في التونسيين لإقناعهم بوجاهة أفعالهم وخطابهم. وعندما يتكلّم السياسيون نتبيّن بوضوح أنّهم يخاطبون "جمهورًا" يتمثّلونه دائمًا بوصفه الشعب. يستدعي فاعلون سياسيون، وخاصة رئيس الدولة "الشعب"، كمصدر لشرعيتهم باعتبارهم ممثّلين شرعيين وأصليّين له.

وعندما يتعدّد المتكلّمون باسم الشعب يمكن في هذه الحالة أن نتساءل من هو هذا "الشعب" التونسي الذي يتحدّث باسمه "وسطاء" عديدون يسعون إلى تعريفه على طريقتهم... لكن مصطلح الشعب تنافسه أيضًا مصطلحات أخرى في القاموس السياسي على غرار "الرأي العام" أو "الشارع"، مما يعبّر عن دلالات عديدة متّصلة بتمثّلات أدوار المواطنين في الحياة السياسية ونظرة السياسيين لهم.

الشعب التونسي، من هو؟

يتواتر مصطلح الشعب في كل الخطابات السياسيّة تقريبًا ولا يخلو خطاب سياسي منه. وعندما يقدّم السياسي نفسه على أنّه الممثّل الأصيل والوحيد والشرعي للشعب والخادم لمصالحه فإنّه يتحوّل إلى فاعل سياسي "شعبوي". فالشعبوية هي تحديدًا استدعاء الشعب كمصدر للشرعية الذي يجب أن تكون السياسة كلها قائمة على خدمته.

يتواتر مصطلح الشعب في كل الخطابات السياسيّة تقريبًا ولا يخلو خطاب سياسي منه. وعندما يقدّم السياسي نفسه على أنّه الممثّل الأصيل والوحيد والشرعي للشعب والخادم لمصالحه فإنّه يتحوّل إلى فاعل سياسي "شعبوي"

ويمكن أن نقول إنّ كل الفاعلين السياسيّين منذ 2011 إلى الآن كانوا على نحو ما شعوبيين بأشكال مختلفة ومتباينة بانتقاء بعد معيّن من أبعاد الدين والهوية (بالنسبة إلى النهضة مثلًا).

في 2011 بعد سقوط النظام السابق كان "الثوريون" (أو الذين يقدمون أنفسهم ممثلين عنها في مواجهة قوى النظام السابق) يتمثلون الشعب؛ تارة ذلك الشعب الفاعل في التاريخ، الشعب البطل الذي أنجز ثورة تاريخية لا مثيل لها، وتارة أخرى ينظرون إليه باعتباره شعبًا طفلًا تتلاعب به مؤامرات "البقايا" التي لا تنتهي، شعبًا أبله يمكن أن يغرر به "الأزلام". 

وفي الحالين فإنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم معلمي الشعب ولسان حاله والعالمين بمصلحته. تراجع هذا الخطاب بعد الخيبات السياسية المتتالية مما يفسر مثلًا لماذا توقفت النهضة عن الادعاء بأنها صوت الناس وترجمان الثورة بما أنها تحالفت دائمًا مع من كانت تقدمهم على أنهم "أعداء الثورة" واكتفت هكذا بخطاب سياسي "واقعي".

اقرأ/ي أيضًا: ​الرئيس و"شعبه العظيم"

في سياق انتخابات 2019 وكبديل عن الميكيافيلية السياسية وتنويعاتها المختلفة، ازدهرت الشعبوية التي تقوم خطاباتها المختلفة على معاداة نخب ما: والنخب الفرنكوفونية (بالنسبة إلى ائتلاف الكرامة) والنهضة (أو "الخوانجية" كما تسميهم عبير موسي) والنخب السياسية بشكل عام (عند قيس سعيّد). والشعب في هذا الخطاب الشعبوي عادة ما يكون ضحيّة نخب أنانيّة وفاسدة (أحزاب، صحافة، جمعيات) خانت الأمانة وتخلّت عن مسؤوليتها لإشباع رغباتها في السلطة والمال والجاه. وعلى هذا النحو فإن الشعب هو ضرورة في هذا الخطاب الشعبوي "كتلة" واحدة ومتجانسة ونقية وصافية.

يخاطب قيس سعيّد التونسيّين باعتبارهم شعبًا واحدًا، أعضاؤه متناغمون ومتوافقون ومتآلفون، تنغّص عليهم النخب الفاسدة أمنهم وراحتهم وتنكّل بهم ترضية لمصالحها الحزبيّة. والتونسيّون من هذا المنظور كل المواطنين باستثناء النخب. ويرى قيس سعيّد الشعب كالجسد الواحد الذي يمكن أن يتعرّض إلى الأمراض مثل السرطانات بأنواعها أو تهدّده "الأفاعي" أو تنغّض عليه "الحشرات".

وعلى هذا النحو فإن هذا "القاموس الطبّي" يقتضي أيضًا عمليّة "التطهير" لأن الشعب في جوهره نقيّ لا تشوبه شائبة، بريء من الأمراض التي حلّت بالوطن والتي مصدرها النخبة. فالشعب دائمًا مهدّد بمخاطر ما خارجيّة أو داخليّة أيضًا، بل إنّ المخاطر الداخليّة هي أهمّ في خطاب قيس سعيّد من المخاطر الخارجيّة لأنّها نابعة من داخل جسم الشعب نفسه.

يخاطب قيس سعيّد التونسيّين باعتبارهم شعبًا واحدًا، أعضاؤه متناغمون ومتوافقون ومتآلفون، تنغّص عليهم النخب الفاسدة أمنهم وراحتهم وتنكّل بهم ترضية لمصالحها الحزبيّة. والتونسيّون من هذا المنظور كل المواطنين باستثناء النخب

والواضح أنّ هذا الخطاب يتمثل الشعب في التونسيين البسطاء ويستثني منه الأثرياء (يمكن أن يتمّ تعريفهم على أنهم المحتكرون وأصحاب السيارات الفارهة) والسياسيين المنحرفين وكذلك المتلاعبين بعقولهم (الصحافة). ومن هذا المنظور فالشعب الذي يتحدّث إليه قيس سعيّد هو الطبقات الشعبية المغلوبة على أمرها، بل يمكن أن نقول إنّ الرمز الأمثل للشعب هو النساء اللائي جلس إليهنّ الرئيس، وهن الأمّهات الكادحات المتّصلات بالأرض أو يمكن أيضًا أن يكون الشعب هو جملة التونسيين الذين يلتقيهم الرئيس في شارع الحبيب بورقيبة ويلتحم بهم.

 لكن قيس سعيّد ليس الوحيد الذي يتحدث باسم الشعب وهو ليس الوحيد الذي يعرفه على نحو مخصوص. فهناك فاعلون آخرون أيضًا يتحدثون باسم الشعب بأشكال مختلفة، منهم على وجه الخصوص عبير موسي. فهي أيضًا تتحدّث باسم الشعب وتريد أن تكون ممثّلة له بل رمزًا له. فإذا كان قيس سعيّد يتمثّل الشعب على نحو "اجتماعي"، فإنّنا نجد في المقابل أنّ الشعب لدى عبير موسي هو "التوانسة" وهو مصطلح يستحقّ أن نتوقّف عنده بما أنه يشي بأنّ الشعب ليس المواطنين المقهورين أو "الغلابة" والكادحين.

اقرأ/ي أيضًا: الرئيس والاتصال.. قراءة في الاتصال السياسي لقيس سعيّد

"التوانسة" هم الذين يسكنون تونس الوطن ولهم هويّة ثقافيّة-سياسيّة مخصوصة تشكّلت في القرن الأخير ليصبحوا أمّة فريدة لها تاريخ خاصّ بها تفتخر به، أمّة مهدّدة بمخاطر خارجية على وجه الخصوص (في حين أن المخاطر لدى قيس سعيّد داخليّة). أمّا "التوانسة" بالنسبة إلى عبير موسي فمهدّدون بقوة خارجيّة عظيمة هي "الإخوان" أو "الإخوانجية" الذين جاؤوا من الخارج ليفتكوا بـ"التوانسة" وبهويّتهم السياسيّة والثقافيّة الوسطيّة عن طريق الإرهاب والتعليم الديني المتطرف.  

لا يتوقف الصراع حول هويّة الشعب وهويّة من يتحدّث باسمه وكيف يعبر عن نفسه وبأي وسائط. فلابد إذن أن يتمظهر الشعب في أشكال مرئية يستدلّ بها الفاعل السياسي

وإذا كان الشعب لدى قيس سعيّد مقهورًا محرومًا مغلوبًا على أمره تنكّل به نخبة، شعب يحتاج رئيسًا شديدًا وقويًّا وعادلًا يعيد إليه حقوقه المسلوبة (استنادًا إلى نموذج "الخليفة العادل")، فإنّ الشعب لدى عبير موسي مخدّر بالدعاية والمغالطة وبتزييف الوقائع والتلاعب بها. وعلى هذا النحو فهي من أخذت على عاتقها "إفاقة" الشعب من غفوته عبر "ثورة التنوير" التي تهدف إلى إعادة تونس إلى نفسها واستعادتها لجوهرها الأصيل الذي أفسدته "التنظيمات" المشبوهة. فهي ترى أن "البلاد مستعمرة من طرف التنظيم الإخواني ومن يخدم مصالحهم في الداخل من "انتهازيّين وانبطاحيّين ومتلوّنين وبيادق وحُزيبات كرتونيّة تسبح في فلك "سيدها الشيخ".

ومن هذا المنظور فإنّ حالة "الاستعمار" المزدوج الداخلي والخارجي تؤهّل عبير موسي لاستعادة الدور التاريخي الذي قام به بورقيبة باعتباره مقارعًا للاستعمار ومحرّرًا للبلاد بل يتيح لها أيضًا تطوير استراتيجيّة اتّصاليّة شبيهة بتلك التي وظّفها بورقيبة لبلوغ الاستقلال تقوم على التواصل المباشر مع المواطنين "لتنويرهم والتصدّي لمحاولات مغالطتهم وشرح خفايا الأحداث والقرارات والإجراءات المتّخذة". وتقوم استراتيجية التنوير أيضًا على استهداف فئات بعينها أي "الفئات الأكثر عرضة للمغالطة والتوظيف". وبمعنى آخر فإنّنا أمام تعريفين للشعب: الشعب الواعي الراشد الذي "يعرف ما يريد" والشعب "المخدّر" الذي يحتاج التنوير.

  • الشعب في الشارع

لا يتوقف الصراع حول هويّة الشعب وهويّة من يتحدّث باسمه وكيف يعبر عن نفسه وبأي وسائط. فلابد إذن أن يتمظهر الشعب في أشكال مرئية يستدلّ بها الفاعل السياسي. وتعبّر الانتخابات التي عرفتها تونس منذ 2011 عمن هو الشعب أو ماذا يريد.

وقد كان من أهداف النظام الانتخابي أنّه يمنع ظهور أغلبية واضحة وأن يسمح بتمثيل الاتّجاهات الأقلّية على نحو يكون فيه البرلمان صورة فسيفسائية تعبر عن المجتمع التونسي بكل تنويعاته. لكن القانون الانتخابي هو الآن موضوع كل الانتقادات بما أنّه المسؤول عن برلمان مفتّت لا يمكن أن يفرز أغلبيّة تتحمل بكلّ شجاعة مسؤوليّة الحكم، بل الانتقادات تتحوّل أيضًا إلى نزع للشرعية délégitimation بواسطة التشكيك في نزاهة المسار الانتخابي ممّا يؤدّي إلى أنّ النواب فقدوا شرعيّتهم بالحديث باسم الشعب.

اقرأ/ي أيضًا: كيف توصّل باحث أمريكي في 2019 إلى أن الرئيس سعيّد سينفرد بالسلطة؟

عندئذ يظهر "الشارع" كمجال بديل عن البرلمان يستخدمه السياسيون للحصول على شرعيّة وتمثيليّة جديدتين. واتّخذ ظهور الشعب في الشارع عدة أشكال تعبيرية منذ 2011، أي منذ اعتصامات القصبة المختلفة والمطالبة بمجلس تأسيسي يكون "ممثلًا حقيقيًا" للشعب.

احتدّ النقاش منذ 25 جويلية في توصيف المتظاهرين في الشارع كميًّا (كم عددهم) وسياسيًّا (هل يمثلون الشعب التونسي الحقيقي). توالت المظاهرات المعارضة للرئيس ثم المؤيّدة له، وفي كل مرة ظهرت سجالات حول أعداد المتظاهرين

ويرى المتظاهرون دائمًا أنفسهم أنّهم يمثّلون الشعب الحقيقي الذي ينكشف لنفسه عبر الحشود المتراصّة. ومن هنا يمكن أن نفهم السجالات حول أحجام المتظاهرين في الشارع منذ 2011 إلى اليوم. فتقدير عددهم رهان سياسي فريد اتّخذ أهمية بالغة منذ 25 جويلية حيث خرج تونسيّون في النهار للاحتجاج على الحكومة والمنظومة السياسيّة ثم للاحتفال في الليل بالقرارات التي اتّخذها رئيس الدولة.

وينظر إلى هؤلاء المتظاهرين الغاضبين ثم الفرحين (لا أحد يمكن أن يقدر عددهم بشكل دقيق عشرات الآلاف أو مئات الآلاف) على أنّهم الشعب الحقيقي الذي انتفض ضد الحكومة ومنظومة النهضة في النهار وعاد للشارع فرحًا بقرارات الرئيس التي خلصت الشعب من "المنظومة الفاسدة".

احتدّ النقاش على الأقل منذ ذلك اليوم في توصيف المتظاهرين في الشارع كميًّا (كم عددهم) وسياسيًّا (هل يمثلون الشعب التونسي الحقيقي). توالت المظاهرات المعارضة للرئيس ثم المؤيّدة له. وفي كل مرة ظهرت سجالات حول أعداد المتظاهرين بعض آلاف أو مئات الآلاف (عندما قال رئيس الجمهورية إنّ أعداد المتظاهرين المؤيدين له بلغ مليونًا و800 ألف).

في هذه المرحلة من السجالات تظهر التقنيات التصميميّة لتشكيل صور الحشود إمّا لإكثارها أو للتقليل منها. فيتحوّل الفوتوشوب إلى "تقنية سياسية" يمكن أن تستخدم في "تمثيل" الشعب بالمعنى المادي والرمزي. هكذا تتحوّل عمليّة التعيين الكمي للشعب quantification إلى عمليّة سياسيّة محض يشارك فيها الجميع: المواطنون والسياسيّون والصحفيّون...

اقرأ/ي أيضًا: سنوات الانتقال العشر في تونس: نظرة من الداخل

لكن عمليّة معرفة آراء المواطنين وما يريدونه اتّخذت أيضًا أشكالًا متداولة في كل الديمقراطيّات الراسخة وهي استطلاعات الرأي أو سبر الآراء والتي أصبحت منذ 25 جويلية موضوعًا من موضوعات السجالات حول ماذا يريد التونسيون.

وتمثّل استطلاعات الرأي بشكل عام بغضّ النظر عن مصداقيّتها (ناقشنا هذا الموضوع في مقال سابق)، مبتكرًا سياسيًّا جديدًا في الحياة السياسية متّصلًا بالحياة الديمقراطية لأن الأنظمة السياسية السلطويّة لا تسمح أن يكون الرئيس أو الزعيم الديني أو الملك أو الأمير موضوعًا لقيس مستمر لشعبيّته، لأن ذلك اعتداء على قدسيّته وحرمته... ثم إنّ استطلاعات الرأي تمثّل ثانيًا آليّة تكرّس ظهور قوّة جديدة: الرأي العام أي الجمهور الذي يقيّم باستمرار السياسيّين وأداءهم والذي يصير هكذا نوعًا من المحكمة التي يمثلون أمامها...  

أصبحت نتائج استطلاعات الرأي مؤشّرًا يستند إليه مناصرو الرئيس لبيان الشعبيّة اللامتناهية والمتواصلة الذي يحظى بها والتي بلغت درجات لم يحظ بها أيّ رجل سياسيّ قبله. لكن معارضي قيس سعيّد يشكّكون في مصداقيّة هذه النتائج ويتّهمون هذه المكاتب بخلق حزب وهمي. هكذا تتعامل النخب السياسية بشكل انتهازيّ مع استطلاعات الرأي فهي تصمت عليها عندما تكون النتائج لصالحها وتستنكرها عندما لا تخدمها. ولم تعمل الأحزاب السياسية الممثّلة في البرلمان على تنظيم القطاع، باستثناء حزب التيار الديمقراطي الذي تقدّم بمشروع قانون في الغرض.  وكأنّ هذه الأحزاب تسعى إلى تأبيد هذه الحالة من الفوضى.

عملية معرفة آراء المواطنين وما يريدونه اتخذت أيضًا أشكالًا متداولة في كل الديمقراطيات الراسخة وهي استطلاعات الرأي أو سبر الآراء والتي أصبحت منذ 25 جويلية موضوعًا من موضوعات السجالات حول ماذا يريد التونسيون

وفي كلّ الأحوال فإنّ الاستطلاعات هي تعبير من التعبيرات الممكنة عن الرأي العام. لكن هذا المصطلح والمفهوم الذي يحيل عليه مازال استخدامه في تونس نادرًا في الخطاب السياسي وحتى في الخطاب الميدياتيكي، إذ يفضّل السياسيون في أغلب الأحيان مصطلح الشعب أو الشارع. وإذا قمنا ببحث بسيط في تداول مصطلح الرأي العام نلاحظ أنّ الفاعلين السياسيّين بشكل عامّ يتمثّلونه باعتباره كيانًا يمكن صناعته (صناعة الرأي العام) والتأثير فيه والتلاعب به أو تأليبه و"دمغجته" و"إلهاؤه" و"مغالطته" و"الضغط" عليه أو "استبلاهه". وأحيانًا فإنّ الرأي العام هو الجهة التي تتوجّه إليها أحزاب أو جمعيّات أو أشخاص بواسطة بيانات أو بلاغات في شكل بيان إلى الرأي العام. 

اقرأ/ي أيضًا: فشل النخبة التونسية في تحقيق التسوية التاريخية المطلوبة

لا يمكن أن نتحدّث عن الرأي العام قبل 2011 فالمصطلح السائد آنذاك هو "الشارع التونسي"، لأنّ الرأي العام يفترض أن تتوفّر للناس آليّات يعبّرون بفضلها عن آرائهم (عرائض، مظاهرات، وقفات احتجاجيّة، صحافة...).

ومصطلح الشارع يختلف عن مصطلح الرأي العام إذ أنّه يقرّ على نحو ما بأنّ الناس لم يبلغوا بعد مستوى يمكّنهم من التعبير عن آراء سياسيّة يمكن أن تكون رأيًا عامًّا. فمصطلح الشارع التونسي يحيل على انفعالات التونسيّين وردود فعلهم العفويّة على مسائل بعينها.  إنّ استمرار الشارع التونسي قد يكون استمرارًا لهذه الثقافة السياسية القديمة التي لم تدرك بعد أن المواطنين ليسوا فقط أفرادًا يعبّرون عن مشاعرهم في الشارع: مشاعر الغضب والسخط.

إن "الرأي العام" يعني أنّ المواطنين يعبّرون عن آرائهم لبعضهم بعض في فضاء يشتركون فيه، ويمكن أن يتناولوا فيه الآراء المختلفة للنقاش والنقد والدحض والمعارضة. وهو يتناقض على نحو ما مع الشارع بما أنه فضاء انفعالي.

 ادعاء تمثيل الشعب كل الشعب باسم "الشرعية الانتخابية" و"المشروعية الشعبية" و"الشرعية النضالية التاريخية" لا يعدو في النهاية أن يكون سوى استراتيجية خطابية يسعى من خلالها السياسيون إلى اختزال التونسيين في شعب واحد

وفي كلّ الأحوال فإنّ وجود الرأي العام يفترض ما يسميه الفيلسوف الفرنسي مانان Manin حرية الرأي العام la liberté de l’opinion publique التي تحيل على بعد ديمقراطي في الديمقراطية بما أنها تسمح بتقييم السياسيّين من طرف المواطنين في مقابل استقلاليّة من انتخبهم الشعب عن الناخبين عندما لا يلزمون دائمًا بما عبّرت عنه الإرادة العامّة في الانتخابات (وهو البعد غير الديمقراطي في الديمقراطية). وبمعنى آخر فإن كان السياسيّون لا ينصاعون إلى الإرادة العامّة فإنّهم مجبرون على الاستماع إليها. وعلى هذا النحو فالديمقراطية تقتضي أن يستمع الحكام إلى الآراء العامة التي يعبّر عنها المحكومون مهما تنوّعت أشكالها: عرائض أو مظاهرات أو وقفات احتجاجيّة أو استطلاعات الرأي أو الآراء التي يعبّر عنها الناس في أنواع الميديا المختلفة.

وبمعنى آخر فإنّه من غير المشروع أن نتحدّث عن الإرادة العامّة بعد الانتخابات لأن كل هذه التعبيرات من عرائض ومظاهرات واحتفالات ووقفات احتجاجية أو نتائج استطلاعات الرأي أو المواقف التي يعبّر عنها التونسيون في فضاءات فيسبوك تظلّ تعبيرات جزئية لا تختزل الشعب برمّته أو الإرادة العامة التي لا يمكن أن يعبّر عنها إلا التصويت. 

خلاصة القول إذن، إنّ ادّعاء الكلام باسم الشعب يؤدّي دائمًا إلى استثناء الآخرين من حقّ الكلام، وبالتالي استبعاد مفهوم الرأي العام أو بالأحرى الآراء العامّة بما أنّ حقّ التونسيّين في إطلاق ما يرونه مناسبًا من تقييمات عن الحياة العامّة هو تعبير عمّا يميّز المجتمع التونسي من تنوّع قبل 25 جويلية وبعده.

وكذلك ادّعاء تمثيل الشعب كل الشعب باسم "الشرعيّة الانتخابية" و"المشروعيّة الشعبيّة" و"الشرعيّة النضاليّة التاريخيّة" لا يعدو في النهاية أن يكون سوى استراتيجيّة خطابيّة (Rhétorique) يسعى من خلالها السياسيّون إلى اختزال التونسيّين في شعب واحد ملتفّ حول الحزب والزعيم. وتعكس هذه الاستراتيجيّة دائمًا استمرار مبدأ الإجماع في الثقافة السياسية، وهو مبدأ يعادي للديمقراطية وروحها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن "شخصنة الدولة وهسترة المجتمع" في تونس

قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..