30-مايو-2022
مبنى وزارة المالية nicolas fauqué Corbis

مبنى وزارة المالية التونسية (Nicolas Fauqué/Corbis)

 

لا جديد يذكر في تونس، غير احتداد الأزمة السياسية وانغماس كل الأطراف في عمليات الفعل ورد الفعل، في وقت  تشتد فيه الأزمة الاقتصادية، دون أن يلقي أحد لها بالاً، سواءً كان ذلك عن دراية ووعي، أو لغفلة وقلة حنكة سياسية لكامل الطبقة السياسية، على الرغم من أن الاقتصاد في علم السياسة يعد عصبها أو روحها ولا يمكن تحقيق أي ازدهار لأي بلد دون رخاء وتطوّر اقتصادي.

إلا أن البنك المركزي التونسي قد دق ناقوس الخطر خلال الأيام الماضية في إطار دوره الموكول له، مرة إبان ترفيعه في سعر الفائدة والثانية بتصريح محافظه مروان العباسي لوكالة رويترز بأن عجز ميزانية الدولة سيزيد إلى 9.7٪ مقارنة بتوقعات سابقة بأنه سيكون في مستوى عند 6.7٪، وذلك بسبب تراجع سعر صرف الدينار وارتفاع أسعار الحبوب، بالإضافة إلى حاجة الحكومة  لتمويل إضافي في الميزانية بقيمة 5 مليارات دينار (1.64 مليار دولار)، مما يعني الحاجة لوضع ميزانية تعديلية لميزانية 2022، التي تعاني بدورها (الميزانية الأصلية) من عجز بحوالي 3 مليارات دولار، نظرًا إلى عدم توصل الحكومة لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإحجام باقي المؤسسات الدولية والبلدان عن إقراض تونس بعد تراجع تصنيفها السيادي.

توفيق الراجحي لـ"الترا تونس": الحكومة لن تكون قادرة على غلق ميزانية 2022 وفق الفرضيات التي وضعتها مسبقًا، لذلك لا بدّ من إيجاد الحلول لاستكمال الميزانية، وبالتالي فإن قانون المالية التعديلي ضروري

بدوره، طالب المعهد العربي لرؤساء المؤسسات، أواخر شهر أفريل/نيسان الماضي، الحكومة بالتسريع في إصدار قانون مالية تكميلي لسنة 2022، للحفاظ على مختلف التوازنات المالية للدولة، وفق قوله، بعد تغير عديد الفرضيات التي بُني عليها قانون المالية لسنة 2022، من ارتفاع سعر برميل النفط وتراجع سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية، خاصة أمام الدولار الأمريكي.

وتشهد تونس ارتفاعًا مطردًا في أسعار المواد الأساسية سواءً الغذائية أو المحروقات قبل نشوب الحرب الأوكرانية، وقد عززه اندلاعها، فضلًا عن ارتفاع عجز الميزان التجاري إلى حدود 4.3 مليار دينار أي ما يُعادل نحو 1.44 مليار دولار في الربع الأول من 2022، وهو ما ينبئ ربما بأسوء فرضية نبّه منها العديد من المختصين.

  • قانون المالية التعديلي ضرورة 

وقال الوزير السابق والمختص في الشأن الاقتصادي توفيق الراجحي، في تصريح لـ"الترا تونس"، إن مرسوم قانون المالية لسنة 2022 كان مبنيًا على مجموعة من الفرضيات، من بينها فرضيتان أساسيتان، الأولى استكمال تمويل الميزانية بناء على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي كان سيخول لنا الخروج للأسواق المالية العالمية والحصول على تمويلات خارجية، وهو ما لم يتم.

الراجحي لـ"الترا تونس": لا نرى أن الحكومة تبحث عن حلول حقيقية لإيقاف النزيف الاقتصادي والمالي، ما  نراه حلول ترقيعية وتمويل يوم بيوم من خلال التعويل على البنوك وعلى البنك المركزي وعلى الاقتراض

أما الفرضية الثانية، وفق الراجحي، فهي سعر برميل النفط الذي حددته الحكومة بـ75 دولارًا، وقد  وصل اليوم إلى حدود 115 دولارً، بزيادة تقارب 40 دولارًا،  وهو ما سيؤثر تأثيرًا كبيرًا على الميزانية وسيخلق حاجيات جديدة سواء لدعم المحروقات أو حتى لدعم الشركة التونسية للكهرباء والغاز (الستاغ)، لأن حاجياتها مرتبطة بسعر البترول.

وأكد الراجحي، في ذات السياق، أن "الحكومة لن تكون قادرة على غلق هذه الميزانية وفق الفرضيات التي وضعتها مسبقًا، ولا بدّ من إيجاد الحلول لاستكمال الميزانية، ولهذا فإن قانون المالية التعديلي ضروري لأن الفرضيات التي بنيت عليها الميزانية الأساسية خاطئة"، حسب رأيه.

وأضاف الوزير السابق، لـ"الترا تونس": "بالإضافة للحرب الأوكرانية التي تسببت في ارتفاع أسعار الحبوب وخلق حاجيات جديدة للديوان الوطني للحبوب في وقت يعاني فيه من أزمة مالية"، متابعًا: "عادة ما تقوم الحكومات بالنظر في وضع قانون تعديلي أو تكميلي للمالية في شهر جوان/يونيو، وفي وضع الحال، من الضروري أن تنظر الحكومة الحالية في سن قانون مالية تعديلي".

واستطرد الراجح:  "نحن لا ندري إلى اليوم كيف تم غلق ميزانية 2021 والثغرة المالية التي كانت بها والتي قدرت بحوالي 4 مليارات دينار.  ميزانية 2022 بدورها تحتوي على ثغرة، وعلى الحكومة أن تحدد في أقرب وقت الميزانية التكميلية وكيفية الوصول إلى ميزانية صفرية لسنة 2022"، وفق تقديره.

  • "حكومة تصريف أعمال"

وقال الراجحي: "للأسف لا نرى أن الحكومة تبحث عن حلول حقيقية لإيقاف النزيف، ما  نراه حلول ترقيعية وتمويل يوم بيوم من خلال التعويل على البنوك وعلى البنك المركزي وعلى الاقتراض"، منبّهًا إلى أن "الحكومة الحالية غير قادرة على توفير الشروط الضرورية لعقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولا تفكر في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، هي حكومة تصريف أعمال أكثر منها حكومة تنفيذ إصلاحات، وصندوق النقد الدولي لا يتعامل مع مثل هكذا حكومات".

الراجحي لـ"الترا تونس": الحكومة الحالية غير قادرة على توفير الشروط الضرورية لعقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولا تفكر في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، هي حكومة تصريف أعمال أكثر منها حكومة تنفيذ إصلاحات

كما أكد الوزير السابق أنه "لا بد كذلك من إصلاح قطاع الطاقة برمته بما في ذلك الشركات العمومية القائمة عليه، ووضع خطط لإنتاج الطاقات المتجددة وتشجيع المواطنين على استعمال الطاقة الشمسية، وتحرير القطاع من هيمنة الدولة"، معقّبًا: "من غير المعقول أن تكون تكلفة تكرير النفط في تونس أغلى من استيراده، وإهدار حوالي 20 % من الطاقة بسبب خلل تقني في شركة الكهرباء والغاز"، على حد قوله.

وأردف الراجحي: "نفس الشيء بالنسبة لمنظومة الحبوب التي تعاني من عديد الإشكاليات حتى على مستوى التعامل مع الفلاحين وكيفية إدارة مسالك التوزيع، هذه إصلاحات كبرى على الحكومة الانطلاق فيها حالًا لتخفيف عجز الميزانية وتوقيع الاتفاق مع النقد الدولي".

  • "لا اتفاق مع النقد الدولي"

من جهته، قال المختص في الاقتصاد محمد صادق جبنون، في تصريح لـ"الترا تونس": "قانون المالية الأصلي تم إعداده على فرضية أنه سيقع إجراء اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتمويل الميزانية بقيمة 4 مليارات دولار"، مستدركًا: "من الواضح أن هذه الفرضية لم تعد قائمة، بحكم مساهمة تونس، فلا يمكن تمويلها بأكثر من 2 مليارات دولار، إلا بصفة استثنائية، وهو ما يصعب تحقيقه الآن بحكم أن صندوق النقد الدولي طالب الحكومة بـ5 إصلاحات جوهرية، وهي: هيكلة الدين العمومي، إصلاح المؤسسات العمومية، التخفيض في كتلة الأجور، رفع الدعم  وترشيد النفقات وتشجيع الاستثمار، لم يقع الانطلاق فيها وبالتالي إمكانية التمويل قد تتأخر، حتى الانطلاق في الإصلاحات"، حسب توقعاته.

ومضى جبنون في حديثه لـ"الترا تونس" قائلًا: "يبدو أن التوجه العالمي نحو الخوصصة الآن وهي مسألة خلافية وشائكة في تونس وتتطلب عديد المفاوضات، موضحًا أن حاجيات الميزانية كانت في حدود الـ20 مليار دينار أغلبها مموّل بالعملة الصعبة، والآن تم تسجيل حاجيات إضافية بحوالي 5 مليارات دينار بالعملة الصعبة وهو رقم وقتي مرجح للارتفاع، نظرًا لأنه لم يشمل الارتفاعات المسجلة في أسعار النفط والحبوب والمواد الأولية بالإضافة إلى ارتفاع سعر الدولار مقابل الدينار التونسي.

وخلص إلى أن "كل الفرضيات تستدعي إصدار قانون مالية تكميلي قبل شهر جوان/يونيو حتى يقع تقديمه في خضم حزمة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي،  يشمل كل الإجراءات بصفة حينية"، حسب تقديره.

الصادق جبنون لـ"الترا تونس": يبدو أن التوجه العالمي نحو الخوصصة الآن وهي مسألة خلافية وشائكة في تونس وتتطلب عديد المفاوضات.. وحاجيات الميزانية كانت في حدود 20 مليار دينار، والآن تم تسجيل حاجيات إضافية بحوالي 5 مليارات دينار بالعملة الصعبة

وبيّن جبنون في ذات السياق أن "كل ارتفاع بالدولار في سعر البترول ينعكس على الميزانية في حدود 120 مليون دينار، مع ارتفاع أسعار المواد الأولية عالميًا من 20 إلى 40% رغم الانفراج النسبي، بسبب ركود الاقتصاد العالمي، لكننا سنشهد ارتفاعًا جنونيًا بحلول شهر جويلية/يوليو مع انطلاق موسم العطل وما يسمى بالسفر الكبير في أوروبا والولايات المتحدة، ما سيعمق الأزمة في تونس"، وفق تصوره.

وذكّر المختص في الاقتصاد بأن "كل ذلك كان متوقعًا، وصدر حتى في تقارير دولية تتماهى مع ما قدمه محافظ البنك المركزي التونسي من نسب وأرقام"، حسب تصريحه.

ككرة للثلج تتفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس دون أن تلقى الاهتمام اللازم، مع إطباق لما يشبه الحصار الدبلوماسي،  بعد سن الرئيس التونسي قيس سعيّد لإجراءاته الاستثنائية ومضيّه في خارطة طريقه، ما عمّق معاناة المواطنين وزاد في تراجع مستوى عيشهم ومقدرتهم الشرائية.