21-يونيو-2020

هل يستحقّ الآباء كل هذا الجفاء؟ (صورة توضيحية/ الشاذلي بن إبراهيم/ جيتي)

مقال رأي

 

استضاف الصحفي الفرنسي برنارد بيفو، سنة 1980، في برنامجه1 "فواصل" (Apostrophes)، صعلوك طنجة وكاتبها، الروائي صاحب رائعة "الخبز الحافي" محمد شكري. وأثناء الحوار والكاتب يروي وقائع تدور في روايته، قاطعه "بيفو" من حيث أراد أن يجره للحديث عن علاقته بأبيه، وما سيعنيه ذلك من تسليط للضوء على السلطة البطريركية الذكورية والتي يهوى منظّرو الثقافة الأوروبية ربطها إلزامًا وتخصيصًا بالثقافة العربية/الشرقية في إطار ما يسمّى بـ"صراع الحضارات". إلا أن الصعلوك تفطّن لمحاولة محاوره توجيه الحوار، قام بالمناورة أوّلًا كعادته في روايته قبل الانتقال إلى مهاجمة القوى الكليانية التي كانت السبب الرئيسي في مأساة بلده وما والده إلّا ضحية ذلك.

لا يوجد تحت الأقدام الآباء غير أحذيتهم يكسوها غبار طريق العودة من السوق محمّلين بالخيرات لعوائلهم

يمرّ كل عام عيد الآباء بدون صخب أو تهنئات، جافًا وصامتًا وكأنّ الناس في بلادنا تواطئوا على معاقبة الآباء على خطيئتهم إذ راودوا الأمّهات البريئات لإنجابنا لهذا العالم البائس، أضف لذلك مطاوعة أب البشرية لأم البشرية والأكل من شجرة المعرفة. السلطة أيضًا لا تعير هذا العيد اهتمامًا إذ لا يمكن استثماره في إطار بروباغندا المساواة2، و كذلك المواطنون إذ لا يوجد تحت الأقدام الآباء غير أحذيتهم يكسوها غبار طريق العودة من السوق محمّلين بالخيرات لعوائلهم. لماذا كل هذا النكران والتّحامل؟ لكن، قبل ذلك، هل يستحق الآباء كل هذا الجفاء؟

اقرأ/ي أيضًا: الجنة ليست تحت أقدامهن.. الجنة هي الأمهات

"لو كنت مكانه، لفعلت مثله"

بالعودة إلى حوار محمد شكري، فقد برّأ أبيه بل وأنصفه بعد أن حاكمه وأدانه في روايته حتّى أنّه قتله أكثر من مرّة في "خياله". ربّما هي كما قال صعوبة الحياة ومرارتها من تمسخهم متوحّشين في نظر البعض. لكن أليس ذنب هؤلاء أنّهم لم يبكوا استجداءً للعطف بعد أن هزمتهم الحياة؟ هل حال كبرياءهم دون أن ينالوا ما تناله الأمّهات من تعاطف وحنان، بل نالوا الحقد والثورة بدل ذلك؟ وإن صحّ ما يدّعي البعض من نفورهم من تصرّفات الآباء، فلماذا يعيدون إنتاج أنفسهم حين يأتي دورهم؟ بل لماذا تحاكي الأمهات تمثّلات آبائهن و أزواجهن ليعدن إنتاجها في أبنائهن؟ ألا يمكن أن تكون هذه هي الصفات، التي ينبذها البعض، هي الأقدر التي انتخبتها الطبيعة؟

تكثر المؤلفات والأعمال و يبقى أقربها لي ولأبناء جيلي هي صورة "العم فيتالس" في كرتون "ريمي" الذي أنقذها وصحبها في رحلة بحثها عن أمّها وعائلتها

في أحد فصول رواية "البؤساء"، يروي فيكتور هيجو قصة "جون فالجان" الأب مع ابنته بالتبنّي "كوزات" والرعاية التي أحاطها بها، فكان لها الأب والأم، وبالتالي نرى تمثّل العطف والحنان عند الأبوة عندما أتاح غياب الأمومة ذلك3. بل ذهبت به التضحية أن رمى بنفسه في منتصف ثورة شعبية لينقذ حبيب ابنته. نفس الدّور تقريبًا لعبه شارلي شابلن في فيلمه "الطفل" سنة 1921 أين لعب أيضًا دور الأب والأم. تكثر المؤلفات والأعمال و يبقى أقربها لي ولأبناء جيلي هي صورة "العم فيتالس" في كرتون "ريمي" الذي أنقذها وصحبها في رحلة بحثها عن أمّها وعائلتها.

ربّما غاب بعض الآباء عن رواية أحدهم لحضورهم في رواية آخرين، مثلًا غاب "دون كيشوت" عن أبنائه وأحفاده لأنه منشغل في معاركه في رواية "سرفنتس". ربّما أيضًا مات أثناء إحدى الرحلات أو لأسباب أخرى كأب مصطفى سعيد4، بعد أن ترك "ما يستر الحال". لكل عذره عن قصد أو غير قصد كما سبق وتحّدث محمد شكري. فلما كلّ هذا التّحامل؟

حرية واستقلالية، لكن تحت سقف الأب!

إن الازدواجيّة في مجتمعنا هي العنوان الأكثر تعبير عمّا نعيشه ويعيشه الأفراد من تيه وتشرذم وحيرة. في الفترة الانتقالية عند أوّل تمظهرات الشخصية، يبدأ التّصادم عادة بين الأجيال والذي نراه في علاقة الأبناء بالآباء. من جهة، نجد شخصيّة الأب الناضجة الجافة التي تقف شامخة على أسسها التي كونّتها عبر تجربة السنين، وما يصحبه ذلك من مسؤولية تجاه العائلة أمام كافة أنواع السلط: دينية، ومجتمعية، وقانونية وربّما أيضًا طبيعية. و من جهة أخرى، نجد شخصيّة الأبناء في شبابهم الثوري المتمرّد الذين يسعون لاكتساب التجربة عبر التجربة نفسها وعبر ممارسة كل شيء وعبر المضي في كل الاتجاهات، مما ينجرّ عنه تصادم مع سلطة الأب الذي ربّما يرى خطرًا في إحدى التّجارب أو الاتّجاهات كان قد مرّ به في فترة ما من حياته. فما ذنب هذا في أنّه يرى خطرًا لم يره ابنه/ابنته؟ هؤلاء الأبناء الذين يجرؤون عادة على كل شيء إلا على مغادرة المنزل وما يعنيه ذلك من تصريح واضح بعجز مبطّن.

اقرأ/ي أيضًا: إتلاف المحاصيل.. هل هي لعنة "أمك طنغو"؟

لا ينكر أحد أنّ الثقافة السائدة والمهيمنة في العالم هي الثقافة الأوروبية/الغربية أو ربمّا الأميركية خصوصًا، والتي تغري كثيرين بما تتيحه من حرّيّات وما سيصحب ذلك من تجارب. لكنّ المصيبة أن الغالبية تريد الجزء المتعلّق بالحرّية فقط، لكنها تغفل عن الاستقلالية! أي أن المطلوب هو حريّة تحت رعاية وعناية أبوية، والذي يفترض أن تظل تراقب إلى أن تسوء الأحوال إن ساءت، وأنّ تصلح ما عطب، وترقّع و توازن، وإلّا فهو أب ظالم ولا يقدّر شخصية الأبناء ويقمعها. وذنبه مثلًا هنا، أنّه منع أولاده من السهر خارجًا ربّما لعجزه المادّي عن توفير مصاريف السهرة والتي قد تكلّفه نصف جرايته في أحسن الأحوال.

ربّما أيضًا يمنع علاقة لا قانونية بين ابنته وصديقها تحت سقف بيته لأن لا قدرة له على استرجاع حق ابنته إن سلب، وبذلك سيكون محل اتهام بالتقصير أمام أنظار المجتمع والأسرة والنظام! فما يمنع هؤلاء الأبناء من الخروج للسكن بعيدًا عن منزل العائلة وتحمّل المسؤوليّة؟ ما يمنع هؤلاء الأبناء والشباب من المضيّ في تجاربهم وحياتهم بعيدًا عن إحراج أهلهم، والحال أنّ الفرد في مجتمعنا يعيش في منزل عائلته ووسط أهله حتى يبلغ الثلاثين من عمره في أحسن الحالات؟

قال والد محمّد شكري في الرواية: "السكن و الطعام يكلّفان مالًا". هذا هو مربط الفرس، من تقاعس عن النهوض والسير في سبيل الحياة. فمن يفضّل رخاء البيت الكبير وحضن الأم، عليه أن يدفع ثمن دفء هذا الحضن، وعليه أن يعين من يُبقي ذلك الحضن دافئًا أيضًا عبر المشاركة في النفقات العائلية والامتثال للتدابير التي اتفقا عليها أبواه عند تأسيس العائلة. غير ذلك، فإن الحرّية تلزم مسؤولية تكاد تكون مفقودة في مجتمعنا، بل صار الأب ضمن مجموعة "الآخر" أيضًا، الآخر الجحيم كما وصفه فوكو، الآخر الذي نمسح فيه ذنوبنا ونحمله مسؤولية أخطائنا وتخاذلنا وعجزنا. كما نرجو رضاه أيضًا ونخاف عقوقه لنيل الجنّة. والحال أن هذا "الآخر/الأب" قد يملّ وجود هؤلاء الأبناء المتذمرين واللامسؤولين الذين يطلبون حقوق إنسان على الشاكلة الأميركية لكن عبر رضا أو إحراج الأهل وكأنهم يقولون "اتركونا نفعل ما نشاء لكن تحملوا مسؤوليتنا!".

إن الازدواجيّة في مجتمعنا هي العنوان الأكثر تعبير عمّا نعيشه ويعيشه الأفراد من تيه وتشرذم وحيرة

من بين الطرق المعتمدة قديمًا في مجتمعنا لحل تفادي مثل هذه الصراعات (بين الأجيال) هو مبادرة الأهل للضغط لتزويج أبنائهم/بناتهم، هم غربيو الهوى لكنهم شرقيي الأخلاق، أملًا في أن ينطلقوا في سبيل الحياة ويتملّصوا من مسؤوليتهم، تفاديًا لإحراج الطرد "المحرّم" خاصة بالنسبة للأبناء. وهذا أيضًا يثير تذمّر أبناء هذا الجيل، حيث يبدون تبرّمهم من حملة "وقتاش نفرحوا بيك/فماش حويجة". ممّا يدفعنا للتساؤل: ترى هل سنمرّ قريبًا إلى مرحلة الطّرد خارج أسوار معبد العائلة؟ ربّما عندها ستتبدّل المواقف والآراء وسينصف هؤلاء المظلومون تاريخيًا: من زمن الأب/ الإله كرونوس وحتى أب محمد شكري، عندما تتكشّف للمتذمّرين قساوة الحياة ومكرها، بعد سنين من إخفاءها من قبل الآباء رأفة وعطفًا بأبنائهم.

 

المراجع:

1- https://www.facebook.com/watch/?v=693675684120162

2-  تتّبنّى كل الأحزاب التونسيّة عموما قضيّة المساواة الجنسيّة وبصفة أقل مسألة العدالة الجندريّة، إلا أنّها مثلًا لا تسمح للنساء بترأّس القائمات الإنتخابية لتكون ممثلة أكثر في البرلمان وبالتالي الحكومة (23 في المائة فقط نسبة النساء في البرلمان)، كما أنّ هذه السلطة لا تحرّك ساكنًا تجاه القوانين المنظمة للأسرة والمجتمع إذ تضع النساء في مرتبة دنيا ضمن الترتيب العائلي، كما تلزمها في كفالة الرجل كما تلزم الأخير أمرها. تكتفي النخب السياسية في هذا الخصوص بالتشدّق بأنّ غير المجتمع غير جاهز لذلك، والحال أنّه لن يجهز أبدًا مادامت هذه القضايا ليست ضمن أولويات الحكومة.

3- في القصّة، الأم قتلت نتيجة لخطأ جون في إدارة مصنعه، فرعى كوزيت تكفيرًا عن ذنبه.

4-  يروي مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح أنّ والده مات قبل أن يولد لكن ترك لهم ما يستر حاله وأمه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإنسان والمجال المكورن

في انتظار "سرحان"