25-مارس-2019

دفاعًا عن أصوات "المختلفين" وفاضحًا لآليات القمع الدينية والاجتماعية والسياسية والدينية

 

في مجتمع نشأ أفراده على نبذ الاختلاف واحتقار المختلف ورفضه، يبدو الحديث عن تكريس ديمقراطية فعلية أمرًا صعبًا رغم مرور ثماني سنوات على الثورة التونسية التي اعتقد جلّ الشباب التونسي أنها ستحمل معهم تحرّرهم لا من قيود النظام المستبدّ فحسب، بل من منظومة اجتماعية تقليدية محافظة لا تعترف إلا برأي واحد.

دفاعًا عن أصوات "المختلفين" وفاضحًا لآليات القمع الدينية والاجتماعية والسياسية والدينية، جاء كتاب "يوم جاؤوا لاعتقالي"

اقرأ/ي أيضًا: "يوم جاؤوا لاعتقالي".. الإنسانية في مواجهة كل الوسوم

وفي ظلّ التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيش على وقعها البلاد منذ سنوات، بقيت مسألة الحريات الفردية مهمّشة ومرفوضة ومؤجلة في أفضل الحالات، إن لم تندرج بالنسبة للبعض في بعض الحالات في خانة المحرّمات و"التابو". ومازالت الأصوات المدافعة عن الحقوق الخاصة والفردية نادرة إلى درجة أنها تبدو للبعض شاذة، رغم أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تقوم دون الحريات الفردية.

ودفاعًا عن أصوات "المختلفين"، وفاضحًا لآليات القمع الدينية والاجتماعية والسياسية والدينية، جاء كتاب "يوم جاؤوا لاعتقالي.. عن السرية والمنافي وسجن المرناقية" للإعلامي والكاتب التونسي هادي يحمد. الكتاب - في طبعته الأولى - المهدى إلى روح المناضلة الحقوقية التونسية الراحلة نورة البورصالي، أُنجز في إطار مشروع الدفاع عن الحريات الفردية والمساواة الذي أعدته ونفذته بتونس كلّ من الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والجمعية التونسية للحرّيات الفردية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بدعم من مؤسسة هنريش بول.

ويفضح الكتاب في صفحاته الـ185، الرقابة التي تختلف مصادرها وأنواعها وتُسلّط على كلّ من يحاول الخروج عن السائد والمألوف، ويروي قصص أبطال يناضلون يوميًا من أجل تمسّكهم باختلافهم ودفاعهم عن آرائهم ومعتقداتهم ومبادئهم، ومعاناة شخوص قد تبدو في الظاهر مختلفة عن الصورة النمطية للفرد في مجتمعه، ولكن عند التعمّق في مآسيها والتأمل في تجاربها الموجعة، نجد أننا نتشابه معهم إلى درجة أننا قد نكون مكانهم في أي يوم من الأيام، ونكتشف أننا مهما اعتقدنا أننا بعيدون عن السجن والعقاب الإنساني الجائر الذي يسلّط على رقاب "الغير" لاختلافهم الفكري أو الإيديولوجي أو الجنساني أو الديني مع ما تفرضه نواميس المجتمع، لا يمكن أن نعرف أبدًا التاريخ ولا المكان الذي سيتمّ فيه اقتيادنا بسلاسل وراء قضبان سجن ما أو منبوذين من أشخاص كنا نعتقد أنهم الأقرب إلينا.

نضال بالعربي وجد نفسه في عنبر "الكراكة" في سجن المرناقية عوض توجيهه إلى الجناح "أ" ككلّ المبتدئين

بأسلوب سلس وكتابة أنيقة وبسيطة، ينقل هادي يحمد للقارئ روايات 5 شخصيات تونسية عانت الأمرين بسبب اختيارها التفرّد وتبني الاختلاف مذهبًا، مستعينًا في مهمته باستعمال أسلوب الروائي في حكاية الشهادات، لنشعر ونحن نلتهم الكتاب أننا بصدد الاستماع إلى القصص مباشرة من أفواه أصحابها، ونرافقهم في رحلاتهم متنقلين بين مراكز الإيقاف والاعتقال والمنافي.

هي شهادات تختلف في تفاصيلها ومضامينها وتمثل إلى درجة كبيرة الاختلاف وتعكس انتهاك الحريات الفردية وانتهاك الجسد وحرية التنقل وحرية المعتقد لمؤمنين، أيًا كان دينهم، ولا دينيين.

تراتبيًا، ينطلق الكتاب من قصة حسان الدريدي، "الانتحاري الذي لن يفجّر نفسه"، وهو الرجل الذي انتقل من "حسان مريّة" أو "حسان حجام النساء"، المعروف بسهراته الجامحة، إلى رجل يبحث عن ذاته في التديّن وما يعتبره "تقربًا إلى الله" و"توبة وهداية". هذا التحوّل الذي عرفه إثر وفاة والده سنة 2012، وقاده إلى رحلة للهند إلى المركز الرئيسي لجماعة الدعوة والتبليغ، جعله فيما بعد عرضة لملاحقات أمنية واعتقالات وتحقيقات يضطرّ فيها أن يشرح قصته التي أعادها على مسامع الأمنيين لعشرات المرات.

التضييقات الأمنية أبعدت عنه خطيبته الأولى وطالت حتى عائلته، ودفعته لاحقًا إلى العودة إلى حياة "المجون"، إلا أن ذلك لم يحدّ من المضايقات الأمنية التي بلغت ذروتها إثر الهجوم الإرهابي الذي استهدف الأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس بالعاصمة تونس ذات نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ويجد نفسه حينها تحت الإقامة الجبرية وخاضعًا لإجراء الـ"S17" والـ"S19" اللذين يحدّان من حرية التنقل، إحدى أهم الحريات التي ينصّ عليها دستور الجمهورية الثانية.

اقرأ/ي أيضًا: مقترح لمجلة الحقوق والحريات الفردية.. ماهي أهم محاورها؟

ولئن انتهت شهادة حسان الدريدي بتوجهه بشكل يومي إلى مركز الأمن للتوقيع بأنه لم "يصبح إرهابيًا في الجبال" ولا "انتحاريًا يفجّر نفسه"، فإن قصة نضال بالعربي تنطلق من مشهد اقتياده إلى سجن المرناقية في شاحنة "ضيقة مظلمة".

نضال وجد نفسه في عنبر "الكراكة" في سجن المرناقية عوض توجيهه إلى الجناح "أ" ككلّ المبتدئين، وعنبر "الكراكة" هو المكان الذي يزجّ داخله كبار المجرمين من قتلة ومغتصبين ومروجين للمخدرات وغيرها من الجرائم. أما جرمه الشاب التونسي الذي تخرج توًا من كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بأريانة، فهو "المثلية الجنسية" أو "اللواط" كما يُعرّف قانونيًا، في جمهورية لا تخجل من أن تفرض "الفحوص الشرجية" على مواطنيها عملًا بالفصل 230 من المجلّة الجزائية.

نضال اضطرّ إلى تحمّل التحرش الجنسي من قبل سجناء لا يرحمون، وتحاملًا عليه من القضاء لأن التهمة الموجودة على ملفه تحتوي عبارة "اللواط" ومعاملة مسيئة ومهينة من قبل أعوان الأمن بناء على تهمة وُجّهت إليه زورًا. وبعد أشهر قضاها في السجن، وجد نضال نفسه منبوذًا من الجميع حتى من عائلته، الأمر الذي دفعه إلى طلب اللجوء السياسي في أوروبا.

رحمة الشابة المتمردة الراديكالية في طلب الحرية، لم تثنها التهديدات عن الدفاع عن كلّ القضايا التي تمسّ الحقوق والحريات

المنفى لم يكن ملجأ نضال فقط، فهو ما اختارته المناضلة رجاء الشامخ، امرأة اختارت التمرّد في سن مبكرة. هي التي تمرّدت في دراستها وتوجهت إلى الفنون الجميلة، وفي دراستها الجامعية انخرطت في صفوف الاتحاد العام لطلبة تونس واتحاد الشباب الشيوعي.

رجاء تمرّدت على النمط السائد وتمرّدت على مفهوم العائلة التقليدية، فأحبّت رجلًا أكبر منها سنًا ولم تخطر ببالها فكرة الزواج لأنها كانت ترفض منطق "حرائر البيوت"، قرّرت في النهاية أن تنجب من حبيبها طفلًا دون المرور عبر مؤسسة الزواج التقليدية. كلّفها قرارها الكثير فتخلّت عنها عائلتها، حتى رفاقها الذين يرتدون لباس التقدمية والحداثية، ابتعدوا عنها. وجدت نفسها وحيدة خصوصًا بعد وفاة الرجل الذي أحبته، ولم تجد من يساندها في محنتها إلا الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات التي عادت من بوابتها إلى النشاط السياسي. التضييقات الأمنية بسبب نشاطها ورغبتها في تأمين حياة تليق بابنها دفعاها في النهاية إلى الهجرة إلى فرنسا، هناك أين لن يسأل أحد عن والد ابنها أو عن زواجها من عدمه.

أما محمد رضا بن حسين، رجل بهائي وجد نفسه مطلّقًا بفتوى من مفتي الجمهورية التونسية، وذلك على خلفية اعتناقه البهائية كدين له. خيار محمد رضا اعتناق البهائية جاء بعد تفكير وقراءة لعديد الكتب وعثوره على كل الأجوبة لتساؤلاته في هذا الدين، إلا أن هذا القرار لم يرق لزوجته التي رأت فيه ارتدادًا عن الدين الإسلامي وتحصلت على الطلاق بموجب فتوى مكتوبة صادرة عن مفتي الجمهورية سابقًا كمال الدين جعيّط.

بن حسين يجد نفسه، في ظلّ رفض البهائية من قبل جلّ المواطنين التونسيين وحتى الدولة، يعيش السرية، والسرية كما يقول "حالة اضطرار"، وأن "تعيش في السرية هو أن تثبت للآخرين كلّ يوم أنك واحد منهم دون أن تمكّنهم من أن يلجوا حديقتك السرية. هم أرادوها كذلك. لم تختر حياتك السرية. اختاروها لك. فقط لأنهم لا يعترفون بك. يحقّرونك لأنك مغاير. اضطررت أن تعيش في العتمة". ومنذ طلاقه، انغمس بن حسين في الكتابة بحثًا عن مكان تحت الشمس، مكان يصلّي فيه بهائيو تونس ويمارسون طقوسهم الدينية.

"يوم جاؤوا لاعتقالي" دعوة لكلّ المسؤولين في الدولة إلى إلغاء ترسانة القوانين والتشريعات المكبّلة للحريات الفردية

الشهادات تنتهي بقصة رحمة الصيد، الشابة التي جاءت من جيل الثورة، جيل فرح بالثورة ورأى فيها فرصة من أجل تغيير نمط التفكير التقليدي القديم. رحمة الشابة المتمردة الراديكالية في طلب الحرية، لم تثنها التهديدات عن الدفاع عن كلّ القضايا التي تمسّ الحقوق والحريات، عامة كانت أو فردية. رحمة التي تفاجأ كلّ مرة بتداول صورها في شبكات التواصل الاجتماعي تصحبها تهديدات وتكفير، مازالت مصرّة على الاستماتة في الدفاع عن كلّ من يطلب الحرية، ولم تتخل عن اقتناعها بأنها إذا لم تخرج لطلب الحرية، فإنهم "سيأتون إليها لاعتقالها".

كلّ هذه الشهادات التي انتقلنا ببراعة قلم هادي يحمد في مكامنها وتفاصيلها لا يمكن أن تكون إلا بحثًا عن وطن حقيقي، وطن يحتضن الجميع باختلافاتهم مهما كانت، بفردانيتهم وكوينوناتهم، لا أن يفرض عليهم نمطًا واحدًا في التفكير وطريقة العيش. فالوطن، حسب تعبير يحمد في مقدمة الكتاب "ليس مجرّد مكان نستوطنه بل هو كلّ الفضاء المعنوي الذي يجعلنا أحرارًا متساوين في الحقوق والواجبات".

الشهادات، إلى جانب التحقيقات الثلاث التي تمّ إدراجها في الكتاب، والتي قام بها هادي يحمد منذ سنوات، وتتعلق بمعاناة فئات مهمشة أخرى في المجتمع التونسي، فالتحقيق الأول الذي يحمل عنوان "يهود.. في عيون الآخرين"، يتطرّق إلى معاناة اليهود التونسيين والنظرة إليهم، أما الثاني فيحمل عنوان "رحلة في قلوب شيعة تونس" ويسلّط الضوء على هذه الفئة التي مازالت لا تجرأ على ممارسة طقوسها علانية، في حين يحمل التحقيق الثالث عنوان "مربّع المحرّمات في المرناقية" ويتناول معاناة فئة خاصة تقطن "المجمع واو" في سجن المرناقية.

الكتاب يجعلنا نفكّر في منظومة التشريعات البالية والقديمة التي مازالت تشرّع لانتهاك الحريات الفردية بتسميات قروسطية على غرار "الأخلاق الحميدة"، حتى أن مجلة الأحوال الشخصية ما عادت تلبّي طموح وحقوق المرأة التونسية التي تساهم في بناء الدولة بشكل مستمر وعلى أكثر من صعيد. كما يجعلنا في مواجهة صريحة مع مرآة المجتمع التونسي المحافظ الذي مازال متمسكًا بنمط يراه مناسبًا ويستوجب على الجميع الالتزام بمعاييره، وإلا من خرج عنها فهو مذنب يستحق العقاب والنبذ.

"يوم جاؤوا لاعتقالي" هو بادرة تعدّ الأولى من نوعها في إحدى أهم المعارك التي تخوضها تونس اليوم، معركة الحريات الفردية التي دونها لن تقوم دولة مدنية ديمقراطية حديثة تطبّق ما نصّ عليه دستور 2014 الذي وُلد من رحم نزاعات وصراعات سياسية كادت أن تودي بالبلاد إلى مصير مجهول. وهو أيضًا دعوة لكلّ المسؤولين في الدولة إلى إلغاء ترسانة القوانين والتشريعات المكبّلة للحريات الفردية بدءًا بمجلة الأحوال الشخصية وصولًا إلى المجلة الجزائية وما تحتويه من قوانين بالية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مؤتمر تونس للمساواة والحريات: دعوة للابتعاد عن "حائط المبكى"

من أجل حوار وطني حول المساواة والحريات الفردية