18-يوليو-2019

نظمت المجلة الجزائية التونسية مسألة الدفاع الشرعي (Getty)

 

الترا تونس - فريق التحرير

 

قد يحدث أن يكتشف صاحب المنزل ليلًا أن لصًا قد اقتحم منزله خفية فيقوم بقتله ببندقية صيد أو خنقًا، بل ربما حين يتعرض أحدهم لعملية سطو بقوّة (براكاج) باستعمال آلة حادة يبادر بافتكاك هذه الآلة من يد المجرم ليوجهها نحوه فيقتله أو يسبب له عاهة مستديمة، يأتي السؤال، في مثل هذه الحالات وشبهها، هل الشخص المعتدى عليه الذي قام بالاعتداء دفاعًا عن النفس يكون غير مذنب أمام القانون، أم يتحوّل إلى معتد ومجرم؟

يأتي الحديث هنا عن "الدفاع الشرعي" الذي نظمه القانون التونسي في الفصلين 39 و40 في المجلة الجزائية، وهو من أسباب الإباحة إذ يرفع عن الجريمة وصفها، فلا يكون الاعتداء موجبًا للإدانة والعقاب.

ماهو الدفاع الشرعي بداية؟

يُعرف شراح القانون الدفاع الشرعي بأنه استعمال القوة اللازمة لصد خطر حتمي غير مشروع يهدد بإيذاء حق يحميه القانون. وقد اعترفت به الشرائع القديمة على غرار القانون الطبيعي زمن اليونان القديمة وكرسه القانون الفرنسي. كما أعطته الشريعة الإسلامية مكانة متميزة فهو ذي طبيعة مزدوجة: فهو حق في حماية المال وواجب لحماية النفس.

يُعرف شراح القانون الدفاع الشرعي بأنه استعمال القوة اللازمة لصد خطر حتمي غير مشروع يهدد بإيذاء حق يحميه القانون وهو مكرّس في المجلة الجزائية التونسية في الفصلين 39 و40

اقرأ/ي أيضًا: خاصّ: حقيقة الجدل حول "أول قرار قضائي في تونس يقبل الخيانة الإلكترونية"

ويجد الدفاع الشرعي أساسه في فكرة الموازنة بين المصالح المتعارضة للأفراد وتفضيل مصلحة المدافع على مصلحة المهاجم فيتحوّل فعل المدافع إلى عمل مباح ولكن بشرط توفر شروط معينة في الهجوم والدفاع. ويمكنه تبريره على أساس الإكراه أيضًا ذلك أن المدافع يكون مُكرهًا على التصدي ولذلك نص الفصل 104 من مجلة الالتزامات والعقود أنه "لا ضمان على من اضطر للدفاع عن نفسه" بمعنى هو غير ملزم بالتعويض لمن اعتدى عليه إن سبب له أضرارًا بدنية.

وقد نظم القانون التونسي، على النحو المذكور، الدفاع الشرعي في فصلين، ويعتبر شراح القانون الفصل 39 هو الفصل العام لموضوع النظام الشرعي بما يستلزم شروطًا معينة، في حين أن الفصل 40 يتعلق بحالة خاصة.

ماهي شروط الدفاع الشرعي؟

نص الفصل 39 من المجلة الجزائية على الآتي: "لا جريمة على من دفع صائلًا عرّض حياته أو حياة أحد أقاربه لخطر حتمي ولم تمكنه النجاة منه بوجه آخر. والأقارب هم أولًا: الأصول والفروع، ثانيًا: الإخوة والأخوات، ثالثًا: الزوج والزوجة. أما إذا كان الشخص المعرّض للخطر من غير هؤلاء الأقارب فللقاضي الاجتهاد في تقدير درجة المسؤولية".

والصائل من الصول وهو الجور والقهر الظلم ليكون المقصود بالصائل هو القائم بالاعتداء وصاحب الخطر. ويقسم شراح القانون شروط تطبيق هذا الفصل إلى شروط للهجوم وأخرى للدفاع.

وبخصوص الهجوم، يتعلق الأمر بشرطين يهمّا موضوع الهجوم وخصائصه. ففي علاقة بموضوع الهجوم والخطر، اشترط الفصل المذكور أن يستهدف الهجوم حياة الإنسان، على اعتبار أن الحق في الحياة هو حق بمرتبة خاصة في التشريعات السماوية والوضعية، وتأتي سلطة القاضي لتقدير حسب الوقائع إن كان هجوم المعتدي يستهدف حياة المدافع عن نفسه أم لا.

لتطبيق الدفاع الشرعي وفق الفصل 39 من المجلة الجزائية يجب أن يكون الهجوم غير شرعي وحتمي ويستهدف حياة الإنسان فيما يُشترط في الدفاع أن يكون ضروريًا ومتناسبًا مع حجم الخطر

ولكن أقصى المشرع، وفق ظاهر النص، الهجوم على السلامة الجسدية أو المهدد للشرف وكان لمحكمة التعقيب التونسية قرار في 1978 خلاصته أن "الدفاع عن الشرف لا يعدّ من الدفاع الشرعي المنصوص عليه بالفصل 39 من المجلة الجزائية". فمن تتعرض مثلًا لمحاولة اغتصاب وتقوم بقتل مغتصبها فهي ليست في حالة دفاع شرعي على اعتبار أن المهاجم استهدف عرضها وليس حياتها. لكن يدعو بعض الشراح لتأويل لفظ "الحياة" تأويلًا واسعًا لتشمل الاعتداء على البدن والعرض.

أما بخصوص خصائص هذا الهجوم، فيجب بداية أن يكون غير شرعي، وعليه مثلًا لا يمكن الحديث عن دفاع شرعي في صورة هجوم عون أمن أثناء قيامه بمهامه على شخص.

اقرأ/ي أيضًا: لتنقيح المجلة الجزائية.. إليكم مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة

ومن الصعوبات التطبيقية في هذا الجانب هو حالة انقلاب دور البادئ بالاعتداء فيصبح معتدى عليه، فهل يمكن للأول التمسك بالدفاع الشرعي؟ تذهب الإجابة للنفي إذ لا بدّ من معرفة موقف المعتدى عليه فإذا ما تجاوز ما يلزم للدفاع عن نفسه، حق للمعتدي أن يدفع الهجوم عنه. وبما أن الاحتجاج بالدفاع لا يجوز إلا إذا كان الاعتداء غير شرعي، فإن المشاركة في معركة لا تعد من قبيل الاعتداءات الي تحول التمسك بالدفاع الشرعي وفق محكمة التعقيب التونسية في قرار يعود لعام 1990.

وأخيرًا تأتي خاصية الخطر الحتمي، أي يجب أن يكون الخطر صريحًا وليس وهميًا مبنيًا على اعتقاد خاطئ أو مجرد توقع، فمثًلا إن تعرض شخص للتهديد بالقتل لا يمكن له أن يقوم بقتل من هدده بتعلة الدفاع الشرعي.

تؤكد محكمة التعقيب التونسية أن الدفاع عن الشرف لا يعدّ من قبيل الدفاع الشرعي

وعمومًا يكون الخطر حتميًا في حالتين: إذ لم يبدأ الاعتداء ولكنه على وشك الوقوع مثاله أن شخصًا يخرج مسدسًا فيجوز للآخر الدفاع عن نفسه رغم أن الاعتداء لم يحصل بعد، فلا يشترط الشروع حدوث الاعتداء ليحق للآخر رد الفعل. أما الصورة الثانية فهي إذا ابتدأ الاعتداء ولم ينته وكان الخطر حتميًا منذ الشروع في تنفيذ الاعتداء ومثاله شخص يقوم بالاعتداء بالعنف الشديد على شخص آخر الذي يحق له التصدي للاعتداء للدفاع عن نفسه قبل موته.

لكن لا يكفي توفر كل هذه الشروط لتحقق الدفاع الشرعي، بل يجب أن يكون رد الفعل أو الدفاع خاضعًا لشروط بدوره.

وأول شروط الدفاع هو أن يكون ضروريًا أي يكون الشخص مضطرًا للدفاع عن نفسه ولا يستطيع تفادي الهجوم الواقع عليه بغير ارتكاب الجريمة. ولكن المشرع ضيّق ضرورة الدفاع من حيث الأشخاص فهو يشمل بصفة مبدئية الأباء والأجداد والأبناء والإخوة والزوج فقط، أما إذا كان الشخص المعرّض للخطر من غير هؤلاء الأقارب مثل الخال أو الصديق أو الخطيبة "فللقاضي الاجتهاد في تقدير درجة المسؤولية".

ومن المهم التأكيد أن القانون سمح للفرد بالدفاع عن نفسه في صورة انعدام إمكانية اللالتجاء إلى السلطة المعنية بحمايته، ويتضح هذا الشرط من خلال استعمال القانون عبارة "ولم تمكن النجاة منه بوجه آخر".

 لعلّ أهم شروط الدفاع الشرعي هو شرط تناسب الدفاع مع الهجوم فيجب أن يكون الدفاع ضروريًا إلى الحد اللازم لإنهاء الاعتداء ولحماية المدافع من الخطر وإلا أصبح الدفاع الشرعي ذريعة لارتكاب الجرائم لأتفه الأسباب

ولكن لعلّ أهم شروط الدفاع الشرعي هو شرط تناسب الدفاع مع الهجوم، فيجب أن يكون الدفاع ضروريًا إلى الحد اللازم لإنهاء الاعتداء ولحماية المدافع من الخطر وإلا أصبح الدفاع الشرعي ذريعة لارتكاب الجرائم لأتفه الأسباب، فلا يُقبل مثلًا قتل شخص لأنه قام بالاعتداء بالعنف الخفيف على من يدعي الدفاع عن نفسه، فمن يعتدي عليك بلكمة خفيفة لا يمكن طعنه بسكين والادعاء بوجود دفاع شرعي، فلا يوجد تناسب بين الخطر والدفاع.

وعمومًا يظلّ هذا التقدير خاضعًا لسلطة القاضي دون لزوم أن يعني التناسب استعمال نفس الوسائل أي استعمال سكين مقابل سكين أو مسدس مقابل مسدس مثلما يظن البعض.

وفي هذا الجانب مثلًا، اعتبرت محكمة التعقيب في قرار بتاريخ 10 جوان/يونيو 1995 أنه لو قام شخصان بالاعتداء على شخص آخر بالعنف الشديد والتقط المعتدى عليه قضيبًا حديديًا ولوّح به نحو المعتدين الإثنين فقتل أحدهما فقتله يكون دفاعًا عن النفس متناسبًا مع حجم الاعتداء الذي تعرّض إليه ومن قبيل الدفاع الشرعي المبرّر لجريمة القتل.

اقرأ/ي أيضًا: هل تبيح عدم عذرية الزوجة طلب الطلاق لدى المحاكم التونسية؟ (تحليل قانوني)

حالة خاصة للدفاع الشرعي

أورد الفصل 40 من المجلة الجزائية على حالة خاصة للدفاع الشرعي، ونصّه "لا جريمة: أولًا: إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب واقعًا ليلا لدفع تسور أو خلع مسيجات أو ثقب جدران أو مدخل مسكن أو محلاّت تابعة له، ثانيًا: إذا كان الفعل واقعًا لمقاومة مرتكبي سرقة أو سلب بالقوة".

ويذهب عديد شراح القانون التونسي مثل فرج القصيّر (القانون الجنائي العام، ص. 70) ومصطفى بن جعفر (القانون الجزائي التونسي، ص. 200) للتأكيد أن هذا الفصل لا يستلزم مبدئيًا توفر شروط الفصل 39 فهو يقيم قرينة على تحقق شروط الدفاع الشرعي، ولكن تظل قرينة بسيطة أي يمكن دحضها، فمن قام بالاعتداء وفق الحالتين المذكورتين، فهو في وضعية دفاع شرعي بصفة مبدئية، وعلى المتضرر إثبات العكس وذلك مع عدم الأخذ بشرط التناسب فالأمر يتعلق بالخصوص بحرمة المنزل "المقدّسة". في المقابل وفي الفصل 39، تقوم قرينة إثبات الدفاع الشرعي على عاتق من يتمسك به، أي يجب على المدافع عن نفسه أن يثبت توفر الشروط سابق ذكرها.

ولذلك وعلى اعتبار أن الفصل 40 يتحدث عن حماية للمنزل وللمال عمومًا، ينتقد، في هذا الجانب، شراح القانون حول كيفية توفير حماية للمدافع الشرعي في هذه الحالة، أي الدفاع عن المال، على مستوى الشروط والإثبات أكثر من صورة الدفاع عن النفس (الفصل 39) وكأن حماية المال أهم من حماية الحياة البشرية.

الفصل 40 من المجلة الجزائية: لا جريمة إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب واقعًا ليلًا لدفع تسوّر أو خلع مسيجات أو ثقب جدران أو مدخل مسكن أو محلاّت تابعة له

وعمومًا يتحدث الفصل 40 عن حالتين على وجه التحديد لا يمكن التوسع فيهما وهما أن يكون القتل والجرح والضرب واقعًا ليلًا لدفع تسور أو خلع مسيجات أو ثقب جدران أو مدخل مسكن، ويلاحظ أن المشرع اشترط وقوع هذه الحالة في الليل فقط أي لا تشمل النهار. وهذه الحالة تترادف، مبدئيًا، مع حالة المحامي الذي قام عبر بندقية صيد، مؤخرًا في جويلية/يوليو 2019، بقتل سارق اقتحم منزله ليلًا بجهة سوسة مع لصوص آخرين.

أما الحالة الثانية من الفصل تتعلق بفعل بهدف مقاومة مرتكب سرقة أو سلب بالقوة، فيحق للشخص الذي يتعرض لـ"براكاج" أن يرد الفعل ضد المعتدي ولا يعتبر القانون ذلك جريمة على النحو المذكور صراحة.

وقد كان للقضاء التونسي سابقة في تطبيق هذا الفصل على النحو الوارد في قرار لمحكمة التعقيب يعود لتاريخ 7 فيفري/شباط 2008 وتتمثل وقائع القضية في أن امرأة تسكن مع ابنيها الصغيرين في منزل ريفي وسمعت طرقًا لباب منزلها ولنافذة غرفتها في ساعة متأخرة من الليل، وسألت عن هوية الطارق ولم يجبها، فأخذت بندقية صيد على ملك زوجها وأطلقت النار صوب النافذة فور بدء خلعها من الشخص الغريب وقتلته، فصدر حكم ابتدائي ضدها بالسجن لمدة 10 أشهر على أساس جريمة القتل على وجه الخطأ ولكن أسقطت محكمة الاستئناف هذا الحكم معتبرة أن المرأة كانت في حالة دفاع شرعي وفق الفصل 40 من المجلة الجزائية، وهو ما تبنته تباعًا محكمة التعقيب.

ورطة قانونية.. وأخلاقية

نورد في الختام حالة عملية متخيّلة لتطبيق الدفاع الشرعي تبدو طريفة وإن كانت هي أقرب، حقيقة، للمأزق القانوني بل والأخلاقي. وصورة هذه الحالة أنه فلنفرض أن زوجًا عاد إلى منزله ووجد زوجته مع عشيقها على فراش الزوجية، فاستشاط غضبًا وهمّ بأخذ سكين من المطبخ ليقتل العشيق ثأرًا لشرفه، فيقوم المعتدى عليه، أي هذا العشيق، بالدفاع عن حياته ويفتك السكين ليقتل الزوج.

في هذه الحالة، قد يُبرء العشيق إن أثبت أنه كان في حالة دفاع شرعي دفاعًا عن نفسه ضد الزوج. كما لا يمكن تتبع هذا العشيق أو الزوجة من أجل الزنا على اعتبار أن القانون التونسي يشترط شكاية الزوج لإثارة الدعوى في هذه الجريمة. وبالتالي تكون النتيجة غير عادلة، وفق البعض، بإفلات الزوجة وعشيقها من جريمتين، جريمة الزنا لعدم التتبع بوفاة الزوج وجريمة القتل بموجب الدفاع الشرعي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

زوج يطالب بالطلاق للضرر من زوجته المريضة بالسرطان.. ما رأي القضاء التونسي؟

عقوبة الإعدام .. بين العدالة الجنائية والحق في الحياة