نهاية الدراما التلفزيونية في تونس..
12 مارس 2025
مقال رأي
في أوج سطوة التلفزيون في ستينيات القرن العشرين واعتباره طفرةً تكنولوجيةً لم تشهد لها البشرية مثيلًا، وتأكيد أنه أعتى جهاز اتّصالي في تلك المرحلة التاريخية باستحواذه على مساحات هامة من جغرافيا الراديو وحيازته على جزء من وظيفة الإخبار والتربية والتثقيف والترفيه والتوظيف السياسي والاهتمام بالفضاء العمومي، هاجرت الدراما الإذاعية التي كانت رائجة منذ الأربعينيات إلى حدود سبعينيات القرن الماضي إلى مناطق التلفزيون كما تسللت قطاعات أخرى مثل السينما والمسرح والموسيقى والغناء إلى هذا الجهاز الجديد الأكثر جماهيرية.
لقد دخلت البشرية إلى الطريق الواثقة لما يسميه ريجيس دوبريه "زمن الصورة".
وهو تمامًا ما حدث في تونس حيث غادرت الدراما مكانها الأصلي الذي نبتت فيه وأينعت وأزهرت، وهو الإذاعة التونسية التي بدأ بثها سنة 1938، إلى عالم التلفزيون الفسيح ولم يبقَ من سحر "الرّوايات" و"التمثيليات" وتاريخ "الفرقة التمثيلية بالإذاعة التونسية" التي تكونت على يد الفنان حمادي الجزيري، سوى ذكريات متوهجة في قلوب الأجيال التي عاشت وتابعت تلك الفترة وبقيت ترويها بروح ذهبية.
وكانت سنوات السبعينيات بمثابة المرحلة الانتقالية بين الدراما الإذاعية والدراما التلفزيونية حيث انتقل أغلب الفاعلين في هذا المجال الإبداعي إلى التلفزيون من دون التخلي عن الانتماء إلى الأصل الإذاعي.
بعد أن كانت الأعمال المنتجة تنهض بأدوار التثقيف والتربية والترفيه وتسهم في صناعة الذوق أصبحت بعد الألفية الثانية تعتمد على تصور "ماكينة الإنتاج"
ومن هذه الكوكبة التي لمعت بين الإذاعة والتلفزيون نذكر محمد بن علي والحبيب بالحارث وحسن الخلصي والزهرة فائزة والمختار حشيشة وجميلة العرابي ودلندة عبدو، فصنعوا بواكير الدراما التلفزية، فكانت البداية مع مسلسل "سارة" ثم مسلسل "أمي تراكي" سنة 1972.
أما الانطلاقة الحقيقة للدراما التلفزيونية التونسية فكانت بداية من سنة 1991 مع أعمال هامة مثل "الناس حكاية" و"الخطاب على الباب". وهي أعمال أنجزت مع مخرجين متمرسين نذكر منهم عبد الرزاق الحمامي ومحمد الحاج سليمان وعز الدين الحرباوي والحبيب المسلماني ورشيد فرشيو وحمادي عرافة.
ومن أجل تعميق التجربة الدرامية التلفزيونية التونسية وإعادة هيكلتها والتفكير في غزارة الإنتاج وترويجه والخروج من دائرة متلازمة الإنتاج الدرامي الخاص بشهر رمضان الكريم، ذهب التلفزيون التونسي بداية التسعينيات إلى تأسيس "الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري" التي كان لها دور تاريخي في إنتاج أعمال هامة وخالدة على غرار "الخطاب على الباب" و"الدوار" و"صيد الريم" و"عودة المنيار" و"قمرة سيدى محروس".
كما كان للوكالة من الصلاحيات القانونية أن تنفتح على القطاع الخاص، وكانت الانطلاقة مع فكرة "المُنتج المنفذ" التي تخلص عملية الإنتاج من البيروقراطية الإدارية القاتلة. ونذكر أنّ أول من قام بهذه المهمة لصالح التلفزيون هو المنتج الراحل أحمد بهاء الدين عطية الذي صقل تاريخه وتجربته في قطاع السينما.
أصبحت الدراما التلفزيونية التونسية اليوم تخلق قدوات مجتمعية تنتمي إلى عالم الجريمة بدل القدوات القديمة الوافدة من عالم الثقافة والفكر
هذه الطفرة تواصلت إلى حدود سنة 2007 وهو تاريخ إلغاء "الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي البصري" وفسح المجال واسعًا أمام القطاع الخاص وتخلي القطاع العمومي على أدواره فيما يتعلق بالدراما التلفزيونية والعودة إلى إنتاج العمل الرمضاني اليتيم وسط صعوبات عديدة منها ما هو مالي أو تقني أو إداري.
وكانت الإدارات المتعاقبة على رأس مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية تعي ما يحصل، وذلك مقابل وفرة من الأعمال التي تنتجها الشركات الخاصة المقربة من السلطة وعائلة الرئيس السابق زين العابدين بن علي التي باتت ترى في "الإشهار والمستشهرين" فريسةً ماليةً لا بدّ من الفوز بها كلفهم ذلك ما كلفهم.
الدراما التلفزيونية التونسية، بعد أن استولى عليها القطاع الخاص، انحرف بها انحرافات خطيرة.
فبعد أن كانت الأعمال المنتجة تنهض بأدوار التثقيف والتربية والترفيه بالاعتماد على نصوص أدبية وروايات لكتاب تونسيين مرموقين على غرار البشير خريف وعلى الدوعاجي وعبد العزيز العروي وعلي اللواتي، وتسهم في صناعة الذوق ونشر القيم والانسجام مع ما تقوم به المؤسسة التربوية من أجل صناعة الإنسان التونسي، أصبحت الأعمال الدرامية التي جاءت بعد الألفية الثانية لا تعتمد بالأساس على ما يكتبه الكتاب والروائيون بل على تصور "ماكينة الإنتاج".
الانحراف بالدراما التلفزيونية أساء إلى المجتمع التونسي إساءةً بالغةً قد تبدو لا مرئية لكنها حقيقة، وذلك بنشر قيم العنف وثقافة "الريسك" والمخاطرة
فأحيانًا عندما نتصفح "جينيريكات" هذه المسلسلات نجد أن المخرج هو من كتب وعالج الحوار واختار الممثلين، دون مراعاةٍ لمسائل تهم القيم المجتمعية والإنسانية والعيش المشترك. وهو ما أدى إلى ما يمكن تسميته بموت الدراما التلفزيونية في تونس، فالأعمال الدرامية المقدمة في العشريتين الأخيرتين تجد لها من يبرر هناتها الرمزية العديدة من قبل المحللين والمتابعين والنقاد تحت كليشيهات مخيفة من قبيل "لا بد من مواجهة أنفسنا بالدراما" أو "الذهاب إلى المسكوت عنه" أو "تلك حقيقتنا". وأحيانًا نكتشف أنّ المبررين هم أنفسهم يدورون في أفلاك "ماكينة الإنتاج" بل وينتمون إلى نفس الزمرة.
هذا الانحراف بالدراما التلفزيونية أساء إلى المجتمع التونسي إساءةً بالغةً قد تبدو لا مرئية لكنها حقيقة، وذلك بنشر قيم العنف وثقافة "الريسك" والمخاطرة المستقاة من المسلسلات وخلق قدوات مجتمعية جديدة "ليدرز" تنتمي إلى عالم الجريمة بدل القدوات القديمة الوافدة من عالم الثقافة والرياضة والفن والفكر والسياسة والمال والأعمال.
الدراما التلفزيونية التونسية تنقصها الدراسات حولها وتفكيك رسائلها القيمية والسياسية والجمالية، فرغم المحاولات التي تتأتى من هنا وهناك في الجامعة التونسية أو الجمعيات أو مبادرات مراكز الدراسات أو المخابر البحثية، فإن ذلك لا يكفي لإطفاء النار التي سرت في هشيم المجتمع. إذ لا بدّ من استراتيجية وطنية واضحة خاصة بالدراما التلفزيونية التونسية على غرار ما قامت به العديد من الدول العربية والأجنبية من دون إغفال لدور التلفزيون العمومي في ذلك.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
الكلمات المفتاحية

الظّلم ظلمات.. ماذا بعد؟
لا يُمكن تجاوز السّياق الّذي يتنزّل فيه الإضراب الجماعيّ عن الطّعام، إذ تتلقّى منظّمات المجتمع المدنيّ الضّربة تلو الأخرى، عبر آلية تعليق النّشاط، في انتظار ما يمكن أن يكون أعظم

أمّا التّسلّطيّة فليست مجازًا!
"الحكم ضدّ أحمد صواب يأتي كاشفًا لإمعان السّلطة في التّذكير بأنّ الخلفيّة المهنيّة للمتّهم أو مكانته الاجتماعيّة لا تحميه من بطشها، وهو تكتيك قديم قِدم الأنظمة التّسلّطيّة الّتي تعاقبت على حكم البلاد"

قضية أحمد صواب.. ليست محاكمة حتى نسأل عن المحاكمة العادلة
"ستمرّ المحنة يومًا ما وسيغادر أحمد صواب السجن يومًا ما، بقرار من أدخله أو لسبب آخر، ولن نستذكره دائمًا إلا رمزًا لمحاماة منحازة لقيمها ومبادئها.."

تونس توقّع اتفاق تمويل مع البنك الدولي بـ430 مليون دولار لدعم التحول الطاقي
البنك الدولي: يساعد المشروع على خفض تكاليف إمدادات الكهرباء بنسبة 23%، وتحسين نسبة استرداد تكاليف الشركة التونسية للكهرباء والغاز من 60 إلى 80%

أيام قرطاج المسرحية 2025.. يحيى الفخراني والفاضل الجعايبي في الافتتاح
تتضمن برمجة هذه الدورة من أيام قرطاج المسرحية، 12 عرضًا ضمن المسابقة الرسمية، و15 عرضًا في قسم "مسرح العالم"، و16 عرضًا تونسيًا، و6 عروض عربية وإفريقية

تعرّف على نصاب زكاة الزيتون والتمر في تونس للعام الهجري 1447
أعلن ديوان الإفتاء في تونس، يوم الخميس 13 نوفمبر 2025 عن نصاب زكاة الزيتون والتمر وسائر الثمار للموسم الفلاحي الحالي 1447هـ ـ 2025 م، وذلك مواكبة لانطلاق موسم جني الثمار، وفق بلاغ له

هيئة المحامين: إنشاء مرصد لمتابعة احترام معايير المحاكمة العادلة في تونس
عقدت الهيئة الوطنية للمحامين بتونس جلسة عامة إخبارية في دار المحامي، يوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 بدعوة من العميد بوبكر بالثابت، أكدت خلالها على ضرورة حضور جميع الجلسات والترافع لضمان حضور المتهمين شخصيًا في قاعات المحاكم، مع رفض المحاكمات عن بعد لما تفتقر إليه من شروط قانونية، وتعد انتهاكاً لمبدأ المحاكمة العادلة عبر حرمان المتهم من الدفاع دون مبرر قانوني

