25-ديسمبر-2024
نوفل سعيد الشاذلي بن إبراهيم

"حان الوقت لتحديد مخطط تنموي عام يسمح بخلق الثروة في إطار الدولة الراعية"

مقال رأي 

 

تدرّج الموقف التونسي الرسمي وأيضًا شبه الرسمي مما يحدث في سوريا أو في علاقة ضمنية به بدرجات لافتة. وآخرها تدوينة نوفل سعيّد يوم الاثنين 23 ديسمبر/كانون الأول 2024، والتي إن لم تكن رسمية، فهي شبه رسمية بناء على موقعه كمدير حملة انتخابية للرئيس وليس فقط لأنه شقيقه. نعرض هنا هذا التدرّج بما في ذلك كلمة الرئيس في بن قردان يوم 17 من الشهر نفسه، وأيضًا تدوينة نوفل سعيّد.

في البداية، اختار الرئيس التونسي عدم التعبير عن موقف مباشر، وتم الاكتفاء ببيانات عبر وزارة الخارجية. البيانان كانا متباعدين بشكل كبير، انتقلا من الحديث عن "مجاميع إرهابية" في البيان الأول عند انطلاق هجوم فصائل "هيئة تحرير الشام" إلى لهجة أقل حدة عبر الدعوة إلى الحفاظ على "وحدة سوريا". استدعى الرئيس في وقت لاحق وزير الخارجية فيما يبدو أنه تحميل المسؤولية للوزارة على عدم استشرافها الصحيح للتحولات الجارية، ورغم أنّه لم يشر بوضوح إلى الحدث السوري فإن السياق يحيل ضمنيًا إلى ذلك.

من الواضح أنّ رسالة نوفل سعيّد موجهة للطرف الغربي خاصة الأمريكي منه.. إذ من الصعب أن لا نرى النص في سياق الحدث السوري واستتباعات "ما بعد الطوفان" الإقليمية في أقل الحالات

حتى الآن، لم يشر الرئيس بوضوح وبشكل مباشر إلى الحدث السوري، وتم الاكتفاء ببيانات وزارة الخارجية التونسية، ومن غير المعروف إن كانت تونس ستشارك في أي أنشطة مثلًا عبر جامعة الدول العربية لزيارة دمشق ولقاء الحكّام الجدد، خاصة أمام توافد وفود عربية ممثلة للنظام العربي الرسمي من المحاور المختلفة.

يبقى أنّ النص الذي نشره شقيق الرئيس، ومدير حملته الانتخابية، وهو نص مطوّل باللغة الإنجليزية، يستحق وقفة، ويأتي في سياق المتغيرات الجيوسياسية الحالية ولأنه على الأرجح يعبّر عن مهجة موجودة على الأرجح في أوساط الحكم، قياسًا بالصفة الرسمية سياسيًا لنوفل سعيّد، أي مدير حملة الرئيس. بداية، من الواضح أنّ الرسالة موجهة للطرف الغربي خاصة الأمريكي منه، وقد سبق لنوفل سعيّد أن توجه برسائل مماثلة، أي باللغة الإنجليزية مباشرة إثر 25 جويلية/يوليو 2021، فيما يشبه رسائل مفتوحة غير رسمية إلى الطرف الغربي. في كل الحالات، من الصعب أن لا نرى النص في سياق الحدث السوري واستتباعات "ما بعد الطوفان" الإقليمية في أقل الحالات.

ركّزت رسالة نوفل سعيّد على فكرتين أساسيتين: "عدم جدارة النخبة السياسية السائدة قبل 25 جويلية 2021 سواء قبل أو بعد الثورة، وعلى جدارة الرئيس قيس سعيّد كضمانة للاستقرار"

ركّز النص المعنون "لماذا يُعتبر العرض السياسي للرئيس قيس سعيّد مفيدًا لتونس"، على فكرتين أساسيتين: عدم جدارة النخبة السياسية السائدة قبل 25 جويلية/يوليو 2021 سواء قبل أو بعد الثورة، ثم على جدارة الرئيس قيس سعيّد كضمانة للاستقرار. من اللافت خاصة الإحالة على فكرة غرامشية أساسية وهي مفهوم "الأزمة العضوية".

يقول نوفل سعيّد: "التكوين الحزبي ما بعد الثورة والذي ساد بعد عام 2011 (عفا عليه الزمن)، وهو (قابع في السحاب)، حسب وصف أنطونيو غرامشي لـ'الأزمة العضوية'. ولا يتمتع أي من الأطراف المعنية بالقدرة على الاستجابة للمهام التاريخية في الوقت الراهن. ومن جانبها، لم تعد مصالح النخب المرتبطة بالنظام القديم متماسكة بما يكفي لتشكيل حزب دائم. والبعض الآخر أصبح إما إسطبلات رئاسية سريعة الزوال أو ذات قدرة تعبوية محدودة. واختفى "اليسار"، العاجز عن تمثيل التعبئة الاجتماعية، من المشهد". ثم يركز نوفل سعيّد على الدور الأساسي لمرحلة "التوافق" في إفشال هذه المرحلة. 

من اللافت أن نوفل سعيّد يحاجج على جدوى مرحلة قيس سعيّد من زاوية أنه "مقبول" اجتماعياً، وفقه، وأنه تجاوز آلية "التوافق" عبر علاقات جديدة بين الدولة والشعب عبر دستور 2022، وأنه ضمانة "الاستقرار". يقول في هذا السياق: "عرض جماعي للخلاص من خلال عمل زعيم كاريزمي: قيس سعيّد الذي كان قادرًا على التغلب على مساحات الهراء السياسي هذه من خلال تجاوز الآلية المؤسسية التي أنشأها دستور 2014، وحتى الآن، حظي العرض السياسي الذي قدمه الرئيس قيس سعيّد بدعم قطاعات واسعة من المجتمع وكان منطقيًا بالنسبة لهم". ويضيف: "ومن هذا المنطلق، فإن مقاربة قيس سعيّد مكّنت، لأول مرة في تاريخ البلاد الحديث، من صياغة أواصر الثقة بين الدولة والشعب، ثقة جديدة، ثقة متجددة كانت النخبة الحاكمة السابقة بذلت قصارى جهدها للاستهزاء دون أي وازع لسنوات متتالية". 

يختم خاصة بما يلي: "ومن هذا المنطلق، كان الرئيس قيس سعيّد، ولا يزال، الضمانة الأكيدة لاستقرار البلاد (...) إن المثابرة في هذا الاتجاه تخاطر بإرسال تونس إلى منطقة من الاضطراب وعدم الاستقرار يمكن أن تؤثر على المنطقة بأكملها".

هنا الرسالة واضحة: لا وصفة نظام بن علي "الدولة المفترسة" ولا وصفة "التوافق"، قادرتان على الاستقرار والمساهمة في استقرار المنطقة. فقط الوصفة التي يمثلها الرئيس قادرة على ذلك. من المعلوم هنا أن "عرض الاستقرار" مغرٍ تمامًا للأطراف الغربية وعلى رأسها واشنطن التي تركز بشكل أساسي على الهواجس الأمنية الجيوسياسية، سواء من زاوية الإدارة الديمقراطية الراحلة أو خاصة زاوية إدارة الرئيس ترامب القادمة، وهو المعروف بتفضيله "حكم الرجال الأقوياء" (من هنا إعجابه الرائج بشخصيات مثل بوتين وأردوغان).

من الصعب عدم الاتفاق مع نوفل سعيّد خاصة حول الفشل في إنجاز "المهمة التاريخية"، وأننا إزاء "أزمة عضوية" بمعنى أن أزمة نخبة الانتقال الديمقراطي لم تكن ظرفية بل هيكلية وعميقة. لا تتعلق فقط بخيارات تكتيكية بل بتمشٍ استراتيجي من أهم ملامحه، عدم امتلاك مشروع إصلاح جذري يشمل السياسي والاقتصادي ومن ثمة عدم امتلاك أدوات هذا المشروع. يبقى أنّ السؤال حينها بالضرورة هل يمثل الرئيس أو مشروعه بشكل خاص "الكتلة التاريخية" (بالمعنى الغرامشي) الذي يمكّن نخبة الحكم بعد 25 جويلية/يوليو أن تحلّ المشاكل العميقة للبلاد على المدى المنظور؟ هل الآلية السياسية المتمثلة خاصة في نظام رئاسوي مع سلطة تشريعية مجزّأة غير قادرة على مساءلة السلطة التنفيذية ومن ثمة إحلال "توازن سلط" ناجع؟ هل هي آلية مفيدة على المدى الطويل للاستقرار أم الركود السياسي؟ ألا يعبّر "المرسوم 54" وأيضًا عدد من الإيقافات والمحاكمات على ملفات قضائية لم تتوضح حتى الآن على مثال "الدولة المفترسة"؟

هل الآلية السياسية المتمثلة خاصة في نظام رئاسوي مع سلطة تشريعية مجزّأة.. هي آلية مفيدة على المدى الطويل للاستقرار أم الركود السياسي؟

والأهم، هل للرئيس مشروع اقتصادي واجتماعي يمكن أن يمثل "الكتلة التاريخية"؟ من المعلوم أنه يركز على "الدولة الاجتماعية" وعلى خطاب عناصره تحيل بوضوح الى "نموذج الستينيات" للدولة الوطنية "الراعية"، لكن هل هناك مخطط تنموي واضح المعالم يعطي تفاصيل واضحة لهذا التوجه مثلما كانت دولة بن صالح في الستينيات؟ إلى حد الآن لم تصدر وزارة التخطيط والتنمية مخططها التنموي الذي كان من المفترض نشره سنة 2023، كما أن الرئيس أعلن في خطاب القسم بوضوح أنه لا يرى ضرورة لتبني منوال تنموي جديد وأن الشعب سيقرر ذلك، رغم أنه يمتلك صلاحيات إقرار "السياسات العامة للدولة" في الدستور. وإلى حد الآن لم يتضح بعد دور "مجلس الجهات والأقاليم" في بلورة مخطط تنموي جديد رغم أن ذلك مسألة أولية وأساسية. 

بعيدًا عن أي توتر يفترض ويستبق قدوم "هيئة تحرير" عابرة للحدود في السياق المغاربي والتونسي تحديدًا، أو محاولات الإسقاط الطفولي للحدث السوري على تونس خاصة عبر مقولة "تجديد الربيع العربي"، بما لا يأخذ بعين الاعتبار المكون الجيوسياسي الواضح في سوريا، فإن هناك حاجة حقيقية للقلق. القلق من منع ديناميكية داخلية سياسية تمثل أساسًا صلبًا للوحدة الوطنية، حيث إن الرتابة الحالية ليست علامة صحية. وأيضًا القلق من استتباعات "ما بعد الطوفان" خاصة التوجه المؤكد لحكام الكيان ومن ثمة الراعية الأمريكي الجديد ترامب الذي تشير لهجته المتغطرسة الى توجه عام يعتمد مبدأ "إما التطبيع أو الموت" (بمعنى الضغط الاقتصادي في أقل الحالات).

حان الوقت للابتعاد عن التسلطية والسماح بديناميكية داخلية على أساس عهد وطني يتمسك بالثوابت السيادية العامة، وأيضًا تحديد مخطط تنموي عام يسمح بخلق الثروة في إطار الدولة الراعية

وليس هناك شك أن مواقف الرئيس المتقدمة في خصوص مناهضة الاحتلال، والتي حتى إن لم تصل إلى "تجريم التطبيع"، فإنها سياسيًا واضحة وعالية السقف ولا يمكن أن تلقى تجاهلًا أو نسيانًا من الأطراف التي ستحاول فرض التطبيع. الوضع القائم لا يمثل ضمانة للاستقرار أمام العاصفة الجيوسياسية القادمة، وهو ليس الخيار الوحيد أو الأمثل بعيدًا عن ثنائية "الدولة المفترسة" لنظام بن علي أو "التوافق المغشوش".

بالتأكيد من يحتاج رسائل في هذا الخصوص ليس الطرف الغربي، بل هو الشعب التونسي بمختلف مكوناته سواء المناصرة للسلطة أو المعارضة لها. وإن كان من بينها من يريد توظيف التطبيع للاقتراب من أي أطراف إقليمية أو خارجية لكسب نقاط في الصراع الداخلي فإن السياق الحالي والشفافية في المواقف وحدها المعنية بفضحه. حان الوقت للابتعاد عن التسلطية والسماح بديناميكية داخلية على أساس عهد وطني يتمسك بالثوابت السيادية العامة، وأيضًا تحديد مخطط تنموي عام يسمح بخلق الثروة في إطار الدولة الراعية، تلك الرسالة الأهم التي يمكن أن تواجه وتحبط خطط أي أطراف دولية أو إقليمية ضد تونس.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"